حدث مهم لم يتوقف عنده المحللون كثيراً، وتجاهلته الساحة السياسية؛ يتمثل في ذلك التغير الملحوظ بقوة في موقف العالم الخارجي نحو تأييد الحق الفلسطيني وإدانة الجرائم الصهيونية.. فقيام سبع دول من أمريكا الجنوبية إضافة إلى أستراليا والسويد باتخاذ مواقف صارمة ضد الكيان الصهيوني، ثم قيام إسبانيا بتعليق عقود تسليح مع ذلك الكيان، وظهور مندوبة إسبانيا في البرلمان الأوروبي مرتدية الكوفية الفلسطينية يمثل موقفاً قوياً لافتاً لأول مرة. كما أن تلك المظاهرات الحاشدة التي ملأت شوارع العديد من العواصم الغربية، فقد شهدت باريس أضخم مظاهرة خرجت بالرغم من تهديد السلطات لمنظميها بعدم الخروج، كما شهدت لندن ومعظم العواصم الأوروبية مظاهرات مماثلة صاحبتها حملة شعبية غير مسبوقة لمقاطعة البضائع والشركات «الإسرائيلية». كل تلك مواقف لافتة بقوة، كان ينبغي التوقف عندها طويلاً، وتحليل أبعادها، وكيفية الاستفادة من تطويرها في صالح القضايا العربية.. كان ينبغي الإنصات جيداً إلى صوت الضمير الغربي الذي بدا قوياً وجسوراً هذه المرة؛ انتصاراً للحق العربي، لكن للأسف الشديد! فقد كان ذلك الموقف الخارجي فاقعاً أمام الموقف المعتم للنظام العربي.. موقف الشلل والعجز حيناً، وموقف التواطؤ والتحريض والدعم للعدوان الصهيوني أحياناً أخرى من قِبَل أطراف باتت معروفة وتعرَّت مواقفها. الدور المرتقب في هذا الصدد تنتظره الجماهير العربية من مؤسسات المجتمع العربي الفكرية والثقافية والمدنية الحرة، خاصة صاحبة الباع الكبير في الحوار بين الحضارات، كما يُنتظر ذلك الدور أيضاً من شخصيات صاحبة باع طويل في هذا الاتجاه. وأستغرب لماذا لم تفكر تلك المؤسسات والشخصيات في بدء حملة علاقات وتواصل وفق خطة طويلة الأمد لتعميق الصلة مع تلك الحكومات والمؤسسات والشخصيات الغربية صاحبة المواقف المؤيدة للحق الفلسطيني؛ سعياً للحفاظ – على الأقل – على تلك المواقف الإيجابية من قضايانا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية؟! لقد أخذت الدول والمؤسسات والشخصيات الغربية مواقفها المشرفة تلك مما يحدث في غزة باجتهاد ذاتي ودون أي جهد شعبي أو مؤسساتي عربي، فماذا لو تحرك تيار فكري عربي شعبي ل»تجسير» علاقات قوية وواسعة مع هؤلاء؟ كيف سيكون الموقف من القضية الفلسطينية وقضايا الحريات في العالم العربي؟ المسألة ليست لغزاً أبداً، فمن يقف أمام مواقف الغرب المؤيدة للصهاينة على طول الخط رغم بشاعة جرائمهم؛ يجد أن تلك المواقف هي وليدة حملات التواصل المصحوبة بحملات إعلامية تقلب الحق العربي باطلاً والجرم الصهيوني دفاعاً عن النفس! لم يكن ذلك الموقف من بعض المؤسسات والشخصيات في الغرب وفي أمريكا اللاتينية وأستراليا جديداً؛ حتى لا يلتفت إليه أحد ويمر عليه مرور الكرام هكذا.. كانت هناك على امتداد العقود الماضية مواقف مؤيدة للحق العربي، وكانت صادمة للكيان الصهيوني من شخصيات هي ملء السمع والبصر وذات تأثير كبير في الغرب، ولكنها في لحظة صدق مع النفس نطقت بكلمة الحق، ودفعت ثمناً باهظاً، ولم يتواصل معها أحد من الشرق – على الأقل – لتثمين مواقفها، وعلى سبيل المثال أتوقف أمام الحالات التالية: - ذلك الموقف الذي أعلنته العميدة السابقة لصحفيي «البيت الأبيض»، الأمريكية المخضرمة «هيلين توماس»، تلك الصحفية (توفيت عام 2013م) ذات الأصول اللبنانية، والتي غطت أخبار البيت الأبيض لنحو خمسة عقود، وتابعت أخبار نحو عشرة رؤساء أمريكيين، ابتداء من الرئيس الأمريكي الراحل «جون كينيدي»، وكانت تلقب ب»أيقونة الصحافة الأمريكية»، لكنها دفعت كل مواقعها ومناصبها وخسرت كل هالات التكريم داخل الدوائر الأمريكية عندما استيقظ ضميرها في لحظة صدق مع النفس قائلة عام 2010م: «إن على الإسرائيليين أن يخرجوا من فلسطين ويعودوا إلى ديارهم، هؤلاء الناس محتلون، وعليهم أن يرجعوا إلى ألمانيا أو بولندا، أخبِرْهم أن يخرجوا من فلسطين». موقف آخر لا يقل جسارة من كبير القضاة في بريطانيا اللورد «فيليبس» منصفاً الشريعة الإسلامية عندما أعلن «عدم وجود ما يمنع من اللجوء لقواعد الشريعة الإسلامية في حل النزاعات؛ فالشريعة الإسلامية عانت من سوء فهم واسع النطاق». ولعل «كبير القضاة» وهو يجازف بهذه الشهادة بحق الشريعة الإسلامية لم يغب عن ذهنه الحملة الكبيرة ضد كبير أساقفة كانتربري «د. روان ويليامز» عقب تصريحات مماثلة أنصفت الشريعة الإسلامية، عندما قال في فبراير 2008م: «إن استخدام بعض جوانب الشريعة يبدو لا مفر منه»، واقترح أن تؤدي الشريعة دوراً في بعض جوانب قوانين الزواج، وتنظيم المعاملات المالية، وطرق الوساطة، وحل النزاعات. وفي الأول من مارس 2006م كان عمدة لندن «كين ليفنجستون» على موعد مع دفع ضريبة مواقفه النزيهة وأفكاره الشريفة حيال الإسلام المسلمين والقضايا العربية في فلسطين والعراق، فقد كان الرجل ضحية قرار الهيئة التأديبية (المخصصة للنظر في أداء المسؤولين المحليين) والصادر يوم الجمعة 24 فبراير 2006م بالتوقيف عن العمل لمدة أربعة أسابيع؛ بسبب تشبيهه في فبراير 2005م صحفياً بريطانياً يهودياً بصحيفة «إيفننج ستاندرد» اللندنية ب»حارس معسكر اعتقال نازي خلال الحرب العالمية الثانية»، وعللت الهيئة قرارها بأن تصريحات العمدة «تفتقر إلى الحساسية وتتضمن إهانة غير مبررة» للصحفي. ولم تغِب عن المشهد تضحية الصحفية «ماري كولفين» (56 عاماً)، كبيرة مراسلي «صنداي تايمز»، بنفسها ثمناً لنقل حقيقة ما يجري بحق الشعب السوري عندما قتلتها رصاصات النظام. الأمثلة كثيرة ولا يتسع المجال هنا لسردها.. فإلى متى نظل نائمين بهذا الشكل؟! وإلى متى نستمر في إهدار الفرص النادرة؟! حال النظام العربي باتت معروفة للجميع، والدور المرتقب في هذا الصدد تنتظره الجماهير العربية من المؤسسات الفكرية والثقافية والحضارية والإسلامية المستقلة.