بدأ بناء الجيش اليمني بعد الثورة السبتمبرية مباشرة بناءً ثورياً بروح وشكل عصريين مناسبين للحالة العصرية في ذلك الوقت، وبدأ بناؤه على الطريقة المصرية كون النظام المصري يومها هو الذي ساند اليمنيين في الثورة وساند الجيش في القتال ضد الملكية الإمامية، وأشرف الجيش المصري على تنشئته وبنائه في بداية الأمر بناءً احترافياً. بعد حصار السبعين يوماً وتوقيع الصلح بين الملكيين والجمهوريين ومقاسمة المؤسسات اليمنية بين أقطاب النظام الجديد (الجمهوملكية)، وتجنيد فلول إمامية في الجيش بدأ الشرخ والتقسيم يدب إلى صفوف هذه المؤسسة الوطنية الصلبة. ثم بعد ذلك ما لبثت أمراض المناطقية والقطبية السياسية الحاكمة تدب إلى هذه المؤسسة لتضاف إلى الأمراض السابقة، وبدأت التصفيات بين القيادات العليا للجيش وبروح طائفية مقيتة نفختها فيها العناصر الإمامية التي انكفأت إلى تنظيمات سرية إمامية داخل كل مؤسسات الدولة، مثلت فيما بعد صلب الدولة العميقة للجمهورية الوليدة. عمل التنظيم الإمامي السري في الدولة على اختراق صلب هذه الدولة وسعى لتوظيف عناصره بمؤهلات وبدونها في جميع مفاصل ومؤسسات الدولة، وسيطروا على قطاعات مختلفة منها واحتكروها على أنفسهم؛ كالعدل باعتبارها مؤسسة القضاء الأولى والأوقاف والثقافة والتراث ثم ما لحقها من مؤسسات أخرى كالمعهد العالي للقضاء. أدى ذلك الاختراق لمؤسسات الدولة ومنها مؤسسة الجيش إلى تكوين مراكز قوى أخرى مناطقية وطائفية وقبلية عملت على استبعاد كل ما كان فاعلاً ومؤثراً في النظام الجمهوري والعمل المؤسسي كالسلال وغيره، واستطاع التنظيم -بمساعدة دول إقليمية وقوى محلية اجتماعية- اغتيال قائد وبطل حصار السبعين المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب كمكافأة له في الدفاع عن الثورة والجمهورية في نهاية ستينيات القرن الماضي. وبدأت التشظيات العسكرية والولاءات القبلية والحزبية تنخر مؤسسة الجيش مما أدى إلى إضعافه وإضعاف العقيدة القتالية فيه بسبب هذه الولاءات المتعددة. بعد مجيء الرئيس إبراهيم الحمدي حتى إلى سدة الحكم من عمق المؤسسة العسكرية، حاول هذا الرجل أن يحدث عملاً مؤسسياً قوياً داخل الجيش وبقية مؤسسات الدولة لتوحيد وبناء الجيش بناءً عصرياً واحترافياً، وكاد أن ينجح في إقامة جمهورية مؤسسية تسابق دولاً إقليمية في البناء والتقدم، ولم يرق ذلك العمل لا للقوى الإمامية والمتخلفة الداخلية ولا لدول إقليمية فتم التآمر عليه واغتياله، كما هو معروف. وما إن تم اغتيال الرئيس الحمدي انكفأ مشروع توحيد الجيش وتوزع مناطقياً بين بعض قياداته وسحب الصراع المناطقي الطائفي نفسه على المؤسسة العسكرية، فكان لواء المظلات والصاعقة بيد عبدالله عبدالعالم، كما تمرد لواء العمالقة على الرئيس الغشمي بعد اغتيال الحمدي، وبقيت بقية الوحدات العسكرية كالفرقة الأولى مدرع بيد الغشمي ومحسن سريع.. هنا برز الضابط المقدم علي عبدالله صالح كواحد من أهم أذرع الإمامة المناطقية الخفية التي دفعته إلى الواجهة واتفق مع القوى الإمامية لمساندته وتصديره إلى الواجهة، واستطاع – بتشجيع هذه القوى داخل الدولة – أن يشن حملة مناطقية قوية على محافظة تعز ومنها منطقة الحجرية بحجة القضاء على تمرد لواء المظلات الذي يقوده عبدالله عبدالعالم، بينما كان الأمر ضرب أعمدة أقطاب الثورة اليمنية وتمكين مراكز قوى إمامية في الدولة. استطاع علي صالح أن يكسب ود الإمامة بالإضافة إلى كسب الولاءات القبلية خاصة تلك التي تعددت ولاءات الجيش لها حتى خاض حروباً حدودية مع الجنوب عام 1979م ومني جيشه بالهزائم بسبب ضعفه وتشظيه بين الولاءات المتعددة وصولاً إلى محاولة الانقلاب عليه عام 1979، بعكس الجيش الجنوبي الذي كان في مرحلة فتية من التأسيس والبناء حتى ضعف بنفس عوامل الجيش الشمالي وهي الصراعات السياسية البينية داخل الحزب الاشتراكي وتعدد ولاءاته المناطقية والتي وصلت ذروتها في أحداث يناير عام 1986م. خصخصة صالح للجيش إنتقل ذلك التشظي في الجيش وتعدد الولاءات حتى في الشطر الجنوبي سابقاً إلى جيش الوحدة، حيث كان هناك جناح علي ناصر المجند من أبين وعلى رأس هذا الفريق اليوم كان الرئيس هادي ووزير الدفاع محمد ناصر أحمد وغيرهم. بينما كان على رأس الفريق الآخر وزير الدفاع الأسبق في دولة الوحدة العميد هيثم قاسم طاهر وآخرون من القيادات التي تمت تصفيتها في الفترة الانتقالية أوائل التسعينيات. عمل الرئيس السابق علي عبدالله صالح على محاولة لملمة هذا الجيش بعد الانقلاب عليه عام 1979 من مراكز القوى ليخصخصه أسرياً وتوزيعه بين أقطاب قبيلته سنحان وأسرته الضيقة. بعد توحيد اليمن عام 1990 بقيت المؤسسة العسكرية غير موحدة ولم يتم دمجها في مؤسسة واحدة وذلك عائد إلى تخوف كل طرف وعدم ثقته بالآخر، فكانت دولة بجيشين، وعلى الرغم من إجراء عملية تنقل في الجيشين بين شمال اليمن وجنوبه إلا أن الولاءات ظلت منفصلة كحالها السابق، وانتقل الصراع المناطقي وتعدد الولاءات بين الجيشين الشمالي والجنوبي إلى أن انفجر الصراع المعروف بين القيادتين السياسيتين لكلا الشطرين عام 1994، الذي كان من نتائجه دمج الجيش في مؤسسة عسكرية واحدة.. غير أن هذا الدمج لم يكن مهنياً ومؤسسياً بل كان بحسب الولاءات وبالإكراه أيضاً بفعل عوامل الانتصار وكذلك بفعل الأمر الواقع للجيش. عمل الطرف المنتصر في تلك الحرب عملية انتقاء وفرز في صفوف الجيش وسرح كثيراً من ضباط وصف وجنود من الخدمة كونهم محسوبي الولاء على الحزب الاشتراكي في عملية إقصاء ممنهجة حزبية ومناطقية، ليس لأصحاب الجنوب فقط بل حتى لبعض أبناء الشمال خاصة من محافظتي تعز وإب. وبعد حرب 1994 تلاشت الولاءات القبلية وقوى النفوذ في الجيش وانتهزها صالح فرصة لإعادة بناء الجيش اليمني ولكن هذه المرة على حساب الولاء الكلي للوطن ليكون جيشاً للأسرة الحاكمة. بدأ الرئيس صالح بتقسيم الجيش إلى فريقين؛ جيش الحرس الجمهوري كقوة خاصة بالقصر والرئيس وأولاه عناية خاصة من جميع النواحي، ثم عمل على توريثه لنجله بعد ذلك. وقسم هو بقية وحدات الجيش الأخرى في ظل إهمال متعمد لوسوسته بالانفراد بالساحة السياسية والعمل على توريث الحكم لنجله، فقلم كثيراً من القيادات العسكرية ذات النفوذ داخل الجيش حتى من أسرته الخاصة؛ حيث عمل على اغتيال كل من اللواء محمد إسماعيل، واللواء أحمد فرج، وعزل اللواء محمد عبداللاه القاضي، بينما ظل اللواء علي محسن عقبة كأداء في طريق مخططه التوريثي رغم محاولات عدة لإقصائه بطرق متعددة منها محاولة اغتياله في الحرب الرابعة في صعدة، وقبلها كان كمين الطائرة المدبر لاغتيال كل القيادات الكبرى السابقة ومن ضمنها اللواء علي محسن لولا تخلفه عن الطائرة. في كل مرحلة من مراحل اليمن تبرز عوامل جديدة من الولاءات والتشظيات للجيش بسبب غياب العمل المؤسسي وهيكلة الجيش بطريقة احترافية ومهنية، انفجرت بعض هذه الولاءات في المحطة الأولى بعد اغتيال الرئيس الحمدي وصولاً إلى انقلاب الناصريين عام 1979، بينما انفجرت في الجنوب في عام 1986، وتوحد الجميع فانفجرت الانفجار الأكبر عام 1994، ووقفت كتلة الجيش المحسوبة على الرئيس الأسبق علي ناصر محمد مع الرئيس السابق صالح والمؤتمر الشعبي العام وحسبت عليه فيما بعد حتى اللحظة ممثلة بالرئيس هادي ووزير الدفاع. ظلت بعض الولاءات القديمة في الجيش بين الشمال والجنوب حتى تفجرت الحروب في صعدة فظهرت بعض الولاءات وظهرت الخفايا السياسية لصراعات قوى النفوذ في الدولة، حيث كان الرئيس السابق قد عمل على تأسيس قوى عسكرية خفية كمليشيات طائفية مناطقية احتياطية لإشهارها في وجوه خصومه ومنافسيه سواء كان شريك الوحدة الحزب الاشتراكي اليمني، أو منافسيه من الإسلاميين التجمع اليمني للإصلاح، وهذه القوى هي (الشباب المؤمن) المتمثلة اليوم في الحركة الحوثية. افتعال الحروب لاستنزاف الجيش عمل صالح للزج بقوة المنطقة الشمالية الغربية والفرقة الأولى مدرع لاستنزافها في حروب صعدة الست، بينما كان يبني قوة الحرس الجمهوري بناءً خاصاً نقي الولاء له ولنجله من بعده، فأزاح شقيقه علي صالح الأحمر من قيادة الحرس وسلمها لنجله أحمد. في حروب صعدة الست التي كان يشعلها صالح باتصال ويوقفها باتصال، كانت المنطقة الشمالية الغربية تكون على وشك حسم المعركة فيوقفها صالح حفاظاً على الحركة الحوثية وقوتها وجيشها، وكانت تتلقى هذه القوى (كقوى إمامية خفية) دعم ومساندة وتمويل الحرس الجمهوري عتاداً وعدة ومواقف عسكرية، مما داخل اللواء علي محسن شيء من اليقين بالتآمر عليه فأسرها في نفسه حتى انفجرت ثورة الشباب عام 2011 ليعلن اللواء علي محسن تأييده لثورة الشباب، فكانت مرحلة أخرى من مراحل انقسام الجيش، وشن نظام صالح حرباً بقواته الخاصة والحرس الجمهوري على الجيش المؤيد للثورة بينما ظل الجيش المساند للثورة في حالة دفاعية متجنباً خوض أي صراع مع نظام صالح التزاماً بالموقف العام للثورة وهو (سلمية الثورة). أشهر صالح ورقته الخفية (الحركة الحوثية) ليخوض عدة حروب في عدة مناطق في محاولة لجر قوى الثورة لهذا الصراع واستنزافها؛ إلا أن جيش وقوى الثورة ظلت محايدة وخاضت القبائل حروباً دفاعية عن مناطقها من العدوان الحوثي، حتى جاءت بداية العام 2013 في عهد الرئيس هادي ليقوم بإعادة هيكلة الجيش ودمجه بحسب المبادرة الخليجية. لم تجر الأمور كما رسم لها في المبادرة الخليجية ولم يتم التطبيق الأمين لهذه المبادرة من قبل الرئيس هادي، وظلت دول إقليمية تمارس ضغوطات وإملاءات معينة من تحت الطاولة على الرئيس هادي لهذه الهيكلة التي تمت من طرف واحد مستهدفة تشتيت القوى التي انضمت للثورة فتمت بعثرتها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، بينما ظلت قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة على حالها إلا قليلاً من ذلك. وكان آخر ظهور هذه الانقسامات في الجيش وتعدد ولاءاته في عام 2014 عندما بدأت الحركة الحوثية بالتمدد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وصولاً إلى محاصرة العاصمة صنعاء وخوض معارك فيها لإسقاط الجمهورية وسط ذهول واستغراب واستنكار من تصريحات وزير الدفاع المتكررة بأن الجيش مؤسسة حيادية ويقف على مسافة واحدة من الجميع. مجدداً تظهر هذه الولاءات والقوى الخفية التي تتحكم بالجيش في حصار صنعاء والحرب عليها، فظهر من العسكريين المحسوبين على الإمامة وهم ينضمون وينحازون للحركة الحوثية مسنودين بالحرس الجمهوري والقوات الخاصة سابقاً واللذين يتحكم فيهما الرئيس السابق وعبدالملك الحوثي، بدعم خارجي من إيران، وضمت هذه القوى أيضاً ذات النفوذ القبلي. بينما عطل وزير الدفاع بحكم عمله ومنصبه الشق الآخر من القوى بحجة الحياد وتصوير الصراع كأنه بين فئتين متصارعتين لا بين دولة ومليشيا خارجة على القانون، وكذلك تعطيل الرئيس هادي للجيش وكأن الحلقتين تنبعان من مخطط واحد.. بينما القوى الأخرى محسوبة على الإسلاميين والثورة وعلى رأسها اللواء علي محسن. الجيش كوظيفة وليس احترافاً النقطة الأبرز خطورة على هذه المؤسسة هي أن معظم منتسبي الجيش ينتسبون إليه كوظيفة للرزق وقبض الراتب لا كمؤسسة احترافية، الأمر الذي ساهم في تدمير قدراته واستنزف إمكانياته على حساب المهنية والأداء وسد حاجة المجتمع في الأمن والدفاع عن مكتسبات الثورة والجمهورية ومقدرات البلد، وصارت مؤسسة الجيش مجلبة لكثير من الدخول الفردية للمتنفذين فيه ومن على قمته. في بعض الوحدات العسكرية والألوية تصل إحصائيات منتسبيه مثلاً إلى 15 ألف ضابط وجندي بينما العدد الفعلي المتواجد على الأرض لا يتجاوز الخمسة آلاف منهم كقوة فعلية؛ أي بمقدار الثلث فقط، بينما تذهب ميزانية الثلثين الآخرين إلى جيوب المتنفذين الفسدة وهي بمليارات الريالات مما يستنزف ميزانية الدولة وميزانية الجيش ويؤثر على أدائه المهني، فتتحول معظم وحدات الجيش كراعٍ لضمان اجتماعي لبعض المواطنين، وحيثما يتم ترتيب الدفعة الأولى أو الجيل الأول من هذه الوحدات يتم رفدها بجيل آخر، بينما يعمل منتسبو تلك الوحدات في أعمال تجارية خاصة أو عالة في البيوت كضمان اجتماعي، ومن بينهم من يشغل أكثر من وظيفة حكومية. وظل هذا الأمر مشكلة فساد كبرى في مؤسسة الجيش لا يراد لها أن تنتهي من قبل أصحاب النفوذ والمستفيدين من هذه الظاهرة بينما الوطن ينزف منها فساداً كبيراً، كما تظل عصية على القائمين عليها بسبب فقدهم مصالحهم من ناحية ومن ناحية أخرى أن تشكل هذه القوى ردة فعل قوية ربما تتسبب في مشاكل مستعصية على الدولة من ناحية الرفض وتحولها إلى مشكلة أمنية مقاومة. ولهذه الأسباب نجد التذمر وسط الجيش فيعمل البعض منهم على الهروب في الحروب أو تسوية وضعه بمقاسمة قيادات الوحدات العسكرية الرواتب نصفين ويكثر المسرحون بشكل اختياري في الجيش ويكثر بينهم اللجوء إلى التقاعد المبكر من الخدمة بعد ضمان الراتب، ويكثر منهم الهرب في المواجهات أو التسليم للخصم بسبب الوضع المعيشي المتردي للقوات المسلحة والامتيازات الطبقية والمفاضلة بين منتسبيه، ولذلك تكون في أية مواجهة عسكرية خسارته أكبر من الخصوم. الدرجات الوهمية تعد مؤسسة الجيش المؤسسة الأولى من حيث الفساد واستنزاف خزينة الدولة وصرف الدرجات الوظيفية الوهمية التي كان يمنحها نظام صالح للمشايخ والواجهات الاجتماعية لكسب ودهم وتوزيع الدرجات الوظيفية بينهم بميزانيات خاصة تصل بين 100 و300 درجة وظيفية للشخصيات الاجتماعية من العيار الثقيل، بينما تجاوزت بعض المشيخات الألف درجة وظيفية بألوية عسكرية وهمية. وعلى المدى المتوسط ما بين 50 و100 درجة، وهكذا حتى تصل إلى 20 درجة وظيفية. وهناك مجالات متعددة من أنواع الفساد في المؤسسة العسكرية ومنها العمولات الكبيرة والرشى عند شراء الأسلحة من الخارج، والتموينات الغذائية والبدلات المتعددة التي لا تصل إلى مستحقيها من الجيش وتذهب لجيوب النافذين فيه. كما يتم التصرف بالأسلحة الخفيفة وتوزيعها على بعض القبائل المساندة للنظام السابق، وكذلك السيارات المختلفة التي تصرف باسم الجيش والمحروقات المتمثلة في الوقود من البنزين والديزل التي تصرف بنظر القادة ويتم بيعها في السوق السوداء. * نقلا عن صحيفة الناس