لكل معركة بين أيديولوجيات متناقضة لا بد أن تمر بمرحلتين : الأولى صراع فكري حول الأسس لكل فكرة ، لأن الواقع هو نتاج التصورات وانعكاس لها ، فإذا نجح أحد الأطراف في الصراع الفكري اتجه الصراع بين الطرفين إلى صراع سياسي من أجل أدوات السلطة التي يمتلكها الطرف الأقوى سياسيا لكنه انهزم فكريا ، وهذه هي المرحلة الثانية للصراع ، وستكون الحرب سجالا لكن النتائج طال الوقت أو قصر انتصار صاحب الفكرة المتفوقة على المهزوم فكريا في النهاية . يشهد لذلك صراع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع قريش أنظروه بتأمل . فإذا انهزم سياسيا فإنه يحرض غيره للانقلاب بثورة مضادة وهو مترقب في مكر ودهاء بدون ظهور سافر خشية انتصار الطرف الآخر والاتجاه لحربه ، كما فعلت قريش حين لم ترتد مع العرب في حروب الردة ولكنها حرضتهم على ذلك ، واختفت هي من الصورة في نفاق مقنع . فلما انهزمت العرب حل اليأس بقريش وفقدت الأمل من النيل من الرسالة وحملتها ، وعندها قرروا المشاركة في الرسالة ليكون لهم نصيب من الكعكة لقرابتهم من حامل الرسالة ، ثم السعي للانقلاب الثاني سياسيا في تآمر بني أمية في السيطرة على سدة الحكم وتحويل الخلافة إلى ملك عاض ، ونقض أول عرى التدين وهو الحكم ، والتأصيل لمنع الخروج على الظالم وجعلها عقيدة ، ليبقى العقد مقطوعا فتتناثر عقده حتى تنتهي الفكرة ويموت المشروع فتهلك دولة الإسلام وهذا الذي وقع حين سقطت الدولة العثمانية ، وصارت شعوب المسلمين تتسول الفكر على موائد الشرق والغرب كأنها لا فكرة لها ولا حول ولا قوة إلا بالله . لربما لم يقصد بعض ملوك بني أمية ذلك أو لم يريدوه جلهم أو كلهم ولكن النتيجة هي هذه فقد تولوا السلطة وليسوا أهلا لها ، ولا من السابقين الحريصين على مبادئها ، وعدم القصد يخفف الذنب ، ولكنه لا يمنع سير السنن الإلهية في تناقض العقد وضياع الدولة التي تحمل الإسلام مستقبلا ، فهل نستفيد من هذه التجربة ؟ وكذلك الحال في ثورات الربيع العربي إنما هي نتاج صراع من أجل الإسلام فكرة وعقيدة وصلاحيته لحكم العالم في كل زمان ، فكان القرن العشرين الماضي صراعا بين الفكر الإسلامي والاشتراكي والقومي والبعثي والرأسمالي لكن النتائج هو سقوط كل الأفكار والنظريات في بلاد المسلمين ماعدا الفكر الإسلامي ، ولذا اتجه الصراع في بداية القرن العشرين نحو الصراع السياسي وتتوج بثورات الربيع العربي . والآن هناك حرب ردة ضد هذه الثورة سياسيا وفكريا . أما سياسيا فإن التآمر على الثورات جار على قدم وساق ، وقد كانت الجولات لهم في بعض البلدان العربية ، ولكنه الصراع لم ينته بعد ، فإذا نجحوا سياسيا فإنهم سيسعون لتدعيم هذا النصر بإقناع الشعوب أن الطريق إلى الحرية والكرامة والعدل ليس عن طريق الإسلام ولكنه عن طريق الفكر الغربي بعجره وبجره ، وسنجد من المغفلين من سيصدق ذلك وللأسف ، وهذه هي الحرب الفكرية المحتملة . الطريق لتحقيق ذلك هي إثارة الصراع بين التيارات الإسلامية بعضها البعض ، وإثارة مواطن الخلاف وإشعال الصراع ، ثم الصراع السني الشيعي الإسلامي ، ونتيجة ذلك حرب ودمار وضعف يزيد من معاناة المواطن بحيث يقتنع مع الفترة الزمنية الطويلة والصبر أنه لا خير للبلد في الإسلام شيعيه وسنيه ، وأن الحل من أجل الأمن والأمان والكرامة هو الفكر الغربي بحقه وباطله ، وصدق رسول الله : ( وعدتم من حيث بدأتم ) ، فهل يعي الإسلاميون خطورة الموقف ؟ ولأجل هذه فإن التصالح بين التيارات الإسلامية مهما تباعدت رؤاها الفكرية في الجزئيات بما يؤهلها للتنافس المثمر والتحدي لتقديم الخدمات للشعب وبلورة فكرة سياسية إسلامية خالصة ولو كان فيها دخن ، فقطعا هذا التصالح يصب في مصلحة الدين ، والعكس بالعكس ولو جهل المغفلون . ويتم بذلك تجاوز الصراع مع الباطل في المرحلة الثانية : الصراع السياسي على مستوى الدولة إلى صراع سياسي حضاري بين الحضارة الغربية القائمة على المادة ، وبين حضارة الإسلام القائمة على الروح والقيم والأخلاق السامية والحرية والعدالة ، وستنضجها تجارب الزمن بما يكفل نصرها بإذن الله ، ونحن معنا أمل وبشرى بخلافة على منهاج النبوة هذه بوادرها ظاهرة وإن خفيت على بعض قاصري النظر إلا أن الأيام ستكشف ذلك إن شاء الله . فهذه دعوة لليقظة التامة من التيارات الإسلامية بكل أيديولوجياتها في الدفع نحو الالتفات حول المجمع عليه والتعاون فيه ، ومعرفة مكائد الأعداء وإفشالها واستخدامها سلاحا في وأد الفكر الباطل بإذن الله . مع العلم أن الإصلاح في كيان ما هو السير بالتركيب بعكس الفك ، وأول انفكاك العقد هو ملك وقع بعد الخلافة ، فهل إعادة الخلافة سيسبقه ملك هذا محتمل . ويشهد بذلك قصة طالوت الملك حين قاد حاملي الرسالة من مرحلة المجتمع إلى الملك مع وجود نبي كريم قائد للدعوة ، ثم تحول ملكه إلى يد نبي وهو داوود عليه السلام وأقيمت دولة الإسلام ثم خلافة على يد سليمان بن داوود عليهما السلام ، فهل التاريخ يعيد نفسه ؟ ربما ولكن الأيام ستكشف ذلك إن شاء الله تعالى ، وصدق الله : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ) ( والعاقبة للمتقين ) ولا عدوان إلا على الظالمين . اللهم هيئ لنا قائدا ربانيا يرفع رايتك ويحكم شريعتك وينشر دينك في العالمين يا أكرم الأكرمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .