يعيش الإسلام "السياسي" في مأزق كبير جدًا عقب فشل تجربة العمل السياسي من داخل الأنظمة العربية الحالية، فبعد فشل ثورات الربيع العربي في إنضاج نموذج تداولي للسلطة وتصديره للصراعات "الصفرية" ليس بين الثورة والثورات المضادة فقط؛ بل في طرح الإشكال التاريخي للمنطقة وهو "مقبولية" دمج الإسلاميين بالأساس في لعبة السلطة والحكم، وتصدير خطر "الأممية" و"الدينية" اللذين يشكلهما الإسلام السياسي على صيغ الحكم والواقع السياسي في المنطقة، حتى بعد إدخال هذه الحركات تعديلات على صيغها وتصوراتها للنمط الإسلامي للسلطة ومفاهيم الخلافة، جعلها أكثر اتساقًا مع الطرح الحديث للدولة، وتم تطويع مصطلح كالخلافة ليتناسب والكونفيدراليات، وتمت عملية قدمتها حركات الإسلام السياسي كي يتم قبولها جزئيًا في لعبة المشاركة في السلطة. إلا أن الربيع العربي وما تلاه من خريف "نفطي-خليجي" مضاد أتى على كل تلك التنازلات النظرية والسلوكية التي قدمها "الإسلام السياسي" وأحالها أثرًا بعد عين، حتى بما فيها تجربة تونس التي يدعي البعض أنها نجحت، ولكنها في حقيقة الأمر نجحت في تجنب "المصير" الذي تلقاه نظراؤها، لكنها لم تنجح أبدًا في تقديم نموذجها للسلطة والحكم، فهي مازالت حتى الآن تقدم فنون "المراوغة" والدفاع عن النفس عبر تفادي الضربات؛ إلا أنها فشلت فعليًا في تقديم أي نموذج حكم إسلامي أو حتى تجربتها الخاصة في السلطة؛ ولذلك، فالحديث يجب أن يكون عن "تقليل" الخسائر وليس عن المكاسب مطلقًا، وبالتالي فهي حالة "انسحابية" وليست حالة تقدم. كذلك في المغرب، فبعد سنوات من حكم "الإسلاميين" الصوري لايوجد تحولات جوهرية في الحالة المغربية ولا حتى في أرقام التنمية، و لايوجد أثر لنجاح كان يستهدف نمط النموذج "التركي" ويستبطنه جزئيًا، كذلك في الشق "الإسلامي" من التجربة لايعكس الواقع أي حالات "أسلمة" حقيقية للسياسة المغربية، ولا حتى أي تلاقح بين الأفكار الإسلامية والداخل المغربي، ولا نجاحات مجتمعية كبيرة، كل مايحدث هو أن الإسلاميين دخلوا صراعًا مريرًا مع أحزاب مقربة من الملك والمخزن، ومازال فساد مؤسسة إمارة المؤمنين لم تمس ولم تفتح، وكأن ما يحدث هو تحويل الإسلاميين من موقع المعارضة لموقع الدفاع عن الوضع حال كونهم سلطة تالية لسلطة الملك، وأحد أركان نظام أمير المؤمنين هنالك. وعليه، فتوالي "خيبات" التجارب السياسية لحركات الإسلام السياسي سحبت منها البريق الذي أخذته في مطلع الألفية، وترويجها أنها بديل عن حركات الإسلام الجهادي والعنيف، وأطروحات الصدام الحضاري والديني، واستغلت وقتها الحملات الدولية والمحلية التطرف لتقديم صورة أكثر قبولًا غربيًا مما أهلها لتكون محل قبول جزئي من دوائر غربية تحاول دمج الإسلاميين بالديمقراطية والحداثة تدريجيًا عبر متتالية إصلاح سياسي يُضغط بها على دول المنطقة؛ إلا أن انقلاب التجربة بعد 13 عامًا من الصعود، أعاد البريق مجددًا للطرح الجذري في صفوف الشباب الداعمين للحركات الإسلامية والمنضوين تحت لوائها، وأصبحت حركات "نوعية" كالقاعدة وداعش تحظيان باهتمام كبير في نظر الشباب، وما هجرة الشباب التونسي والمغربي تحديدًا، يليهم المصري، لمناطق الصراع المسلح إلا دليل من ضمن أدلة على أن هناك عدم اقتناع من قبل قطاع مهم من الإسلاميين بجدوى التجربة السياسية ومآلاتها. قدمت "داعش" و"القاعدة" نفسيهما كبديل منطقي لفشل "الإسلام السياسي"، بالقدر ذاته الذي قدم العلمانيون مجددًا أنفسهم على أنقاض تجربة الإسلاميين؛ فالصعود العلماني مجددًا في خطابات النخب السياسية وازاه صعود إسلامي جذري في خطابات الحركات الجهادية وخطابها الفكري والعقدي، وأصبح التباهي بالمفاصلة والمواجهة والجذرية أحد أهم ملامح التراشق العلماني-الإسلامي و(الإسلامي-الإسلامي) أيضًا، وتصدرت عناوين "نقاء الراية" و"نقاء الصف" لتؤكد على دلالات الخطاب الجديد وماهيته، وبدأت أطروحات الإسلام السياسي تفقد بريقها مع تصاعد النجاحات المسلحة في العراق وسوريا، وما أسماه البعض "عزة السلاح" و"ذل السلمية" كمدخلين لمقارنة المآلات بين التوجهين الإسلاميين. يقف الإسلام السياسي اليوم أمام مفترق طرق كبير؛ فالمفاهيم والتصورات التي طورها للتعامل مع واقع ما قبل الثورات العربية لم تعد تعمل مطلقًا، فالواقع ذاته تبدل وبحاجة لمفاهيم جديدة تتعامل مع هذا التحدي، فلم يعد هنالك عمل نقابي ولا مساحات هامش حرية ولا دول مستقرة ولا مجالس شعب ولا منظمات أهلية، فنحن في زمن "ما بعد الدولة العربية" ومرحلة صعود الإثنيات الطائفية والعرقية والصراع الأيديولوجي والدولي الجديد الذي لم يعد يسمح في بنيته الجديدة بتكرار مثل تلك التجارب، فزمن الحرب هذا يتحدث دومًا عن "السيطرة" والتوسع ومساحات التوغل والانسحاب والكر والفر ولم يعد يعترف بحدود للعبة، فالتحولات تطال الجميع؛ ولهذا، فموقع "الإسلام السياسي" من الأحداث لم يتطور على الرغم من كونه أحد أهم أطرافه؛ إلا أنه لم يقدم أجوبة مقنعة على الأقل لأبنائه، ولم يجب على سؤال اللحظة الراهنة! إن أهم ما يحتاجه "الإسلام السياسي" الآن، هو الإجابة عن إشكالية "مفترق الطرق" هذه، وما هي رؤيته للعمل الإسلامي خلال عقود الحرب القادمة، وماهي رؤيته لنمطه للإسلام ونموذجه في ضوء ما استجد من واقع؟، وهذه نقطة مهمة وعامل هام في معرفة "مصير" الإسلام السياسي مستقبليًا، فالجهاديون قدموا أجوبة مقنعة لشرائح واسعة من الشباب مما انعكس على التضخم "البشري" الحاصل في تنظيماتهم و"التقدم" الميداني المستمر، كذلك في تزايد أطروحات "المفاصلة" الجهادية عبر مساحات التواصل الشبابية، مقابل انسحاب فعلي لأطروحات الإسلام الوسطي والحضاري التي كان يدعيها الإسلام السياسي من خلال تجربته المأزومة الآن.