بدأت كتابة هذا المقال على إيقاع تقليب القنوات التلفزيونية العربية والعبرية، حيث أجمعت أغلبها على نقاش تراجع نسب التصويت للتيار الإسلامي في مصر، ثم ناقلةً أخبار استقالة نائب الرئيس محمد مرسي، مضيفة توقعات بأن تكون نسب التصويت «بلا « على الدستور متقاربة ومتقاربة جدا مع تيار نعم، حتى خيل إلي أن الرئيس مرسي سيحزم أمتعته وسيهاجر قصر الاتحادية مذعورا. هذه القراءة شجعت الإعلام الإسرائيلي وبعض أقطاب السياسة كليبرمان، وإسرائيل كايتس، وغيرهم من القيادات السياسية في الكيان الحديث وبشكل علني على أن مصر ونظامها السياسي قابلان للتغير على نحو يعاكس ما هو قائم. عقارب ساعة الليل لم تكن طويلة حيث توالت مؤشرات الفرز، لكن ظلت قنوات البلطجة السياسية تنقل ذات الحديث، وذات القراءة من أن الفريق المؤيد للرئيس مرسي ضعيف فاشل ومنهك، حتى إذا علا مؤشر التأييد للدستور وباتت الأرقام تعاكس حلم المعارضة، بدأ سيل الاتهام يفصل المجتمع المصري بين مثقف واع قال «لا» للدستور «الرجعي»، وبين تيار أمي لا يفهم بليد في قراءة مفاهيم الحضارة والتمدن قال للدستور «نعم». حديث القسمة تجاوز الحديث عن الظاهر، بل غاص في مفاهيم المراهقة الديمقراطية المصرية، واصفا هذا الفريق إياها بالبدائية وغير الواعية، بل المضطربة، حتى إن بعضا من القيادات المصرية وصف الغلبة لنعم بالمهزلة!! المهزلة برأي هذا الفريق هي ذاتها التي أتت بمجلس شعب وشورى ورئيس، واستفتاء كلها قالت للتيار الإسلامي نعم، بنسب تفوق حاجز 60% ظلت ترتفع، وحاضرة عند كل مرحلة يسأل فيها الشعب المصري عن توجهاته. ختم المشهد وبانت النتائج، فأجمع دعاة الديمقراطية أن هذه الديمقراطية وقحة، خانت العهد، وانقلبت على معايير الاستعمال في وجه الإسلاميين؛ مما جعل منطق التعاطي معها بالرفض بسبب الخيانة التي أحدثتها للتيار العلماني والمدني والحداثي والفاهم وحده لأسس الإدارة والرقي والتقدم! هذه الخلطة الإبداعية التي لا تتوفر لإسلاميي تونس والمغرب ومصر هي ما جعل الفريق المعارض يرفض رأي الشعب في إعطاء الأغلبية لهؤلاء الجهلة! في متابعتي مسار حكم الإسلاميين بعد «الربيع العربي»، حيرني السبب وراء معارضتهم الإسلاميين، إن قاموا عورضوا! وإن ناموا اتهموا! إن سكتوا قيل في حقهم ضعفاء! وإن ردوا قيل عنهم جبابرة! إن صلوا وُسموا بالإرهاب! وإن قالوا بالمدنية وصفوا بالكفرة! حتى إني في كثير من الأوقات أعجز عن تفكيك الصورة التي يرسمها المعارضون. في الحديث عن هذا الموضوع تغادر الحيادية أحيانا، وينتقل الكاتب إلى مساحة رد الاتهام باتهام أشد وأكبر، حتى إن ظروف النقاش تتحول إلى صراع يديره المثقف والإعلامي بطريقة تخرج عن الموضوعية، والقسط في القول. لذلك حاولت اليوم الذهاب إلى مربع مهم، وجب الوقوف عنده حتى يسهل اللقاء في منتصف طريق يحفظ علينا مسار الفهم لمستقبل نريده اليوم أن يصنع. في المنتصف وجب الاعتراف بأن المنظومة الغربية تنظر للشرق على أنه حظيرة استخدام لمصالحها، وأن أي نهضة في الأمة وجب محاربتها؛ من خلال استخدام أدوات الداخل لتفريغ وشق المجتمع لإحداث حالة من الصراع كما هو اليوم واقع العراق، سوريا، الصومال وغيرها من النماذج التي يسيطر عليها منطق الحوار بالدم. لعبة الدم يسهل الحسم فيها لفريق معين، لكنها للأسف ستزهق أرواحا، وستغذي حالة الانهيار الذي معه سيغيب الأمل، لذلك وجب على أطراف المعادلة القبول بمنهج يحكم مسار التأييد حتى لو كان وقحا في نظر الخاسر. هذه المعادلة ليست سهلة، خاصة أن بعضا حسم أمره وقرر العمل وبكل وسيلة لإسقاط تجربة الإسلاميين حتى لو بتحالفه مع «إسرائيل» كما كشفت القناة العبرية في تقرير لها أول أمس. لكن تظل المراهنة على الظاهرة المجتمعية التي عاشت الظلم والجهل والقمع في عهود الظلام أيام حكم الأنظمة البائدة أن ترفض فعل العابثين، وأن تحاسب القائمين وفق معايير التقييم والمساءلة. اليوم يعيد شعب مصر كرة النار للغرب وأدواته في المنطقة، وخاصة بعض دول المال العربي التي تستعمل خيرات الأمة لتقويضها من خلال القول للمرة الخامسة نعم لثقافة الانعتاق والرقي دون مواربة.