استوطنَ بِلا إذنٍ حديقَةَ منزلي الخلفيّة، وأزعجنا بنُباحِه ليالٍ طويلة، دَخْلَ فصلُ الشتاءِ، وجاء معه بالوحلِ والطّين.. خرجتُ ذاتَ يومٍ، وإذا بكلبِ صاحبِنا في فناءِ البيت، وقد عاثَ فيه فسادا، ولوّثَ المدخلَ والأدراج، ومع انفتاح البابِ ولّى هاربا بين أشجار الزيتون، وهو ينظر إليّ إلى الخلف، وعندِ الشّجرة التي أحبُّها أكثر رفعَ رِجلَه اليُسرى وبالَ على ساقها. ذكَّرَنِي هذا الكلبُ بكلبٍ آخرَ كنت رأيتُه يتنقلُ بين السّياراتِ المتوقِّفةِ على رصيف الطريق السريع، وعند إحْدَاها رفعَ رِجلَه -كذلك- وبالَ على إطارها الخلفي. لا أدري لِمَ كان هذان المشهدُ سبباً في استدعاءِ صورة الحداثيِّين المنَاضلين والثوريين، وشجرة اليسار بفروعها وغيرهم وغيرهم في زمن «الربيع العربي» إلى ذهني، ودفعني إلى التّساؤل المرير: لِمَ تحوَّلَ هؤلاء في زمنِ الديمقراطية التي ظلُّوا يدّعون احتكارَها منذ انطلاقة أحزابهم وهيئاتهم في مُواجهة الإسلاميين مِن «البرستيج» الرَّاقي الحَدَاثِي التّقدمي في لغة التَّخاطب إلى النُّباح الهابِط الرَّخيص؟!! لِمَ انتقلَ هؤلاء مِن التَّحالف المبدَئي الإنسانيّ الواسع -في محطات هامة مرّت بأوطانهم- مع فُرَقاء الأمس، ليصيروا شركاء في استنقاذ الوطن مِن السلطة الغاشمة، إلى التَّعاقدِ النَّفعي الشّخصيّ الضَّيقِ مع سُلطةِ المستبد المتسلط ذاتها؟!! ولِمَ مَالَ هؤلاء في معالجتهم لِخَيبتِهم، وعُزوف الناس عنهم إلى سِواهم مِن الإسلاميين والوطنيّين الصّادقين، مِنَ العقل الواعي في تحليل الأسباب، واستدراك الخلل وتداركه، إلى الانقضاض على المنافس الدِّيمقراطي، وتأجير الهمجي المتوحش، وتوجيهه ضدَّه، والتَّواطؤِ معه بالرأي والتبرير؟!! لم باع أولئك الشعارات العريضة، والدعاوى الكبيرة التي رفعوها لأوَّلِ بارقة مِن غيمة الفساد، وممن يتلفَّعون بها، فألقوا بعُقودهم ومواثيقِهم خلفَ ظهورهم، وألقوا الشَّعب بين يدي جلاديه، الذين كانوا يزعمون أنهم يقودونه للثورة عليهم، ثم أمالوا رأسه لسكّين الجزار بذرائع مفضوحة، وادعاءات مكذوبة ينقضها الواقع، وتعوزها المصداقية، وهي أَوْهَى وأضعفُ مِن أن تُقنع أصحابها القائلين بها، عدا عن إقناعِها غيرَهم من المخالفين أو المحايدين؟! لِمَ جنّدَ هؤلاء الإعلام وهَبطوا به إلى دَرَكٍ سحيقٍ، وبلغوا مبلغا من الإسفاف والإزراء بالكلمة الصادقة حتى ذرفَت دمعتها، وتمنَّت الموت، قبلَ أن يُريقوها على مذبحِ الكذب، ويبذُروها رخيصةً تحت أقدام المتسلِّطين، ليضلِّلُوا بها البسطاء من المستضعفين، ويُسقِطوا في أيدي الأتقياء الأنقياء الذي تُسقِطُهم طيبة نواياهم ببعض الهفوات أحيانا؟! لِمَ اجتهدوا في تَسيِيسِ القضاء، وكسَّروا موازين العدالة، وأطفؤوا عينَ الحقيقة، وسخّروا الأمْنَ لتكريس الفوضى، وأربكوا الجيش، ووضعوه في العُدوة القُصوى، والشعبَ والشرعيةَ في العُدوة الدنيا ؟!! الأمرُ لا يحتاج إلى إجابةٍ، وهو أبسط من فلسفة المتفلسفين، وتحليلِ الخبراء والمستشارين المتحذلقين. إنهم جزء من الحملة المسعُورة الموجَّهة لهذه الأمة وتاريخها ودينها المجيد عقيدة وشريعة، وموروثا الحضاري المشرق؛ كي لا تستفيق وتنهض لممارسة دورها الرِّسالي في استنقاذ العالم من مأساته الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية. إنهم امتدادُ الاستعمار، وأدواتُ الانتداب، ونُوّابُ «سايكس» وفتيانُ «بيكو»، وعُشَّاقُ «راشيلَ»، خدّامُ النَّجمة والصَّليب. إنهم عثرةُ السَّاري نحو الفجر، وعقبةُ الطريقِ في وجه المدلجين نحو النهضةِ الجديدة، ورمالُ الغوصِ في مَحَجَّةِ السَّابِلَة على ظهورِ الْمُورياتِ وهم بطريق الجهاد لاسترداد الْمُضَاع، واستنقاذِ المقدّس، وبَلْسَمةِ الجُروح. إنهم مَدُّ الزبدِ، وغثاء السَّيل، والأبالسة الذين مردوا على الفساد، وقرّبوا مع الشياطين الوِسَاد، باتوا معهم بنفس الوَكِرِ وعلى ذات المهاد: { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}. إنهم المجتمعون في أرضٍ مَكلبة تكثر فيه الكلاب، والبائلون على ساق الفضيلة، والغائطون على دولاب الحركة، الحالمون بإغراق المركبة، واستنزاف الطاقة، وإطفاء النّور، وأنَّى لهم ذلك، فالله {متمُّ نورِه}، رغم أُنُوفِ المتكلِّبنين مَن جرُّوهم خلفهم: {من الجوارح مُكَلِّبين}، في مصر وتونس وليبيا والأردن، واليمن، وسوريا الشعب والثورة. الحمد لله الذي لمْ يجعل في طوقِ الكلاب المستأجرة إلا علوّ الصَّوت بالنباح، فأكثر الكلاب نباحا أجبنُها وأخسُّها، ولن يضيرَ القافلةُ السائرة شيءٌ، والمفارقة عندي أنني رُبما لو راجعت جاري في كلبه لَحُلَّتِ المشكلة، لأن كلبه يجري على فطرته، وصاحبُه محترم يقدّر معنى الجيرة، لكن هؤلاء دُخلاء على عالم الكلبنة، فمارسوها أسوأ ممارسة، وهم مدفوعون من أصحابهم حملة العظام في الدَّاخل والخارج، ومنقادون إلى أطماعهم وطموحاتهم الدفينة التي تمكنهم من التلوّن مع كل رغبة بلونها. ليس في مصر وحدها فلول، ولا في سوريا وحدها شبيحة، فعندنا منهم وفرة، ولهم عندنا امتداد، والمخاض مستمر، وللميلاد آلامه، لن تنام الصحوة، ولن يتوقف دولاب التغيير، مهما بردعت البردعاوية في مصر والأردن وسورية: [سيهزم الجمع ويولون الدبر].