لم يفلح العراق الجديد بعد عشر سنوات من سقوط حكم صدام حسين، في بناء الدولة الديمقراطية القابلة للعيش، فالجميع في العراق اليوم يعلم قبل كافة المهتمين بتجربته و شؤونه، ان النظام الديمقراطي القائم ما كان له ليستمر يوما واحدا لو انه اخرج من غرفة الإنعاش التي وضع فيها منذ أيام الحاكم "بريمر" إلى يوم الناس هذا، أو قرر رعاته و المستفيدون من وجوده حتى و لو كان رجلا خائر الجسد مريضا، رفع أجهزة التنفس الاصطناعي عنه. و لا تملك إلا دول قليلة في العالم العربي، و ربما العالم بأسره، هذه الرفاهية في معايشة ديمقراطية فاشلة لمدة عقد كامل من الزمان، فتكاليف الديمقراطية العراقية الفاشلة باهضة جدا ليس بمقدور أي شعب تحمل تبعاتها، و هي على سبيل المثال ليست متاحة أمام الشعب التونسي أو الشعب المصري، الذي لو قدر لديمقراطيته الفاشلة حاليا ان تستمر سنة أخرى أو سنتين لوصلت حالته إلى الخراب التام بانهيار الاقتصاد و توقف دواليب المرافق العامة عن الدوران و عموم الفوضى التامة أرجاء البلاد. و يحق لكل من تحمس لتجربة العراق الجديد و تحمل بحب معاناة الدفاع عنها، ان يتساءل بكل براءة عن جدوى ديمقراطية ليس ثمة من ضامن لاستمرارها سوى ريع النفط و حراسة المحتل الأجنبي الذي غادر شكلا و لم يغادر حقاً، و قد يجيبه أحدهم بقوله ان يمول ريع البترول الديمقراطية خير من ان يمول الديكتاتورية، و أما عن حراسة الأجنبي فقائمة في الحالتين، و ما فارق العرب التبعية سواء كانوا في دائرة الظلم أو في دائرة المظلومية. غير ان هذا الحال لا يسري على بلد كالعراق، في حجم تاريخه و حضارته و إنسانه و موارده، كان يعتقد ان ما كان ينقصه لتحقيق نهضته سوى الحرية، فبدا و كانه طيلة السنوات العشر الماضية قد ضيع مشروعه النهضوي مع تحقق شرط الحرية، حتى وجدت هذه الحرية نفسها بعد معايشة العراقيين للفشل الذريع المتعاقب بلا معنى، أو بالأحرى بلا فائدة أو مصداقية، ثم ما معنى هذه الحرية العاجزة عن تحقيق الأمن و إيقاف هدر الدم و وضع حد لتفجيرات الإرهابيين التي ما انفكت تحصد رؤوس الغلابى و المساكين، ممن شكلوا وقودا لحروب الديكتاتور، و يشكلون طيلة العشر سنوات الفائتة وقودا لحروب الحالمين بإعادته. و تشكل المنطقة الخضراء العنوان الأبرز لغرفة الإنعاش التي جرى تجهيزها بأحدث الأدوات الأمريكية و الأجنبية للإبقاء على رجل الديمقراطية المريض حيا، على الرغم من شلل الدماغ و القلب و باقي أطراف الجسم، إذ من الغريب حقاً ان يقبع رجال الحكم و المسؤولين المنتخبين ديمقراطيا كل هذا الوقت غير قادرين على ممارسة وظائفهم إلا من وراء بروج مشيدة و حراسات متعددة و أجهزة أمنية تكاد تشبه أجهزة الديكتاتور من حيث حصر واجبها في حماية الحاكم لا المحكوم. و لقد كان اختيار نظام الديمقراطية البرلمانية من باب الحرص على القطع مع ثقافة النظام الرئاسي الاستبدادي، غير ان انقسام النخب العراقية وفقا لكافة أنواع الانقسام التي جبل الله الناس عليها، دينية و قومية و مذهبية و طائفية و أيديولوجية و سياسية و فكرية و مناطقية و حزبية، جعل التوصل إلى بناء مؤسسات الحكم بعد كل انتخابات شبه معجزة لا تتيسر عادة إلا بتدخل العم السام و قرصات اذن من هنا و هناك، و ليتها كانت مؤسسات مستقرة قادرة على المضي في تنفيذ برامج محددة تحقق للشعب بعض انتظاراته، إذ ما يبرح الراعي الرسمي يغادر لقضاء شؤون أخرى في دول ثانية، حتى يعود الساسة سريعا في بغداد و النجف و اربيل و الموصل و غيرها من مدن بلاد الرافدين العامرة الحائرة، إلى ألعاب شد الحبل و كسر العظم و المناورة و المداورة التي أفرغت العملية السياسية من كل معنى، و جعلت هذه النخب البائسة في غالبيتها فاقدة لأي قيمة أو مصداقية في نظر العامة. و يحضر ريع النفط، الذي ما كان في بلاد العرب إلا فيما ندر على أهله غير نقمة، ليمعن في إفساد الأخلاق و تمييع المعاني السامية للديمقراطية، حيث تتحول العملية السياسية إلى آلية لتوزيع الغنيمة الريعية، لتحل مكان قيم الشفافية و الكفاءة و المهنية و احترام القانون و المحاسبة، عادات المساومة و التغطية المتبادلة على الفساد و تبادل المنافع و المحاصصة و شراء الذمم و الضمائر و الأصوات، تماماً كما تحولت الحرب الأهلية في بعض الدول الفاشلة إلى اقتصاد و مصدر للارتزاق و استغلال للدول المحيطة ذات المصالح في مسعاها لإيجاد موطن قدم و الحفاظ على مركز تأثير. و اذكر أنني كتبت مقالا نشرته صحيفة الحياة يوم 9 نيسان/ أبريل 2003، قلت فيه حينها ان " أي بديل لن يكون أسوأ "، و كان قلبي معلق حينها برغبتي العقلية و العاطفية الجائحة في ان أرى العراقيين أحرارا و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، لكنني اعتقدت في نفس الوقت ان الحرية ستفك عقال العراق فتعيده إلى دائرته أنفع و أقوى، و ستجعله قاعدة لنهضة علمية و حضارية يستحقها بما يرده مثلا يحتذى في المنطقة و نموذجا ينسج على منواله، إلا انه و على الرغم من مضي سنين عشرة، و يا لأسف الذات و المعنى، ما شكلت سيرته الراهنة إلا عبئا يثقل كاهل كل حالم بالحرية و الديمقراطية، و يجبره على إعادة طرح تلك الأسئلة الكبرى عن أمة لم تنجح بعد في بناء مفهوم لها، ما تزال متأرجحة في الاختيار بين الخبز و الحرية و التقدم و الديمقراطية و العصر و الهوية. و إذ يلوح العراق الجديد ديمقراطية فاشلة بامتياز، تهدد البلد نفسه في وجوده بالانقسام، فان تونس الجديدة و مصر الجديدة و ليبيا الجديدة و اليمن الجديد، جميعها أمثلة قد ترفد الحالة العراقية لكي لا تكون شاذة في المنطقة، و لتفقد الديمقراطيين العرب كل ثقة في النفس و تزلزل الأرض الفكرية و السياسية من تحت أقدامهم و تعمق حيرتهم المستمرة منذ دق نابليون نهاية القرن الثامن عشرة أبواب المحروسة