ثورة انتخابية شهدتها إيران، فخلافاً للكثير من التوقعات، شارك الإيرانيون بكثافة عالية في الإدلاء بأصواتهم. حضروا قبل فتح أبواب المراكز الانتخابية، وضاق بهم الوقت فتم التمديد أربع مرات متتالية حتى بلغ خمس ساعات، وهي المرة الأولى التي تحدث في الانتخابات الإيرانية. والسبب الأبرز في ذلك، هو المنافسة الحادة بين أتباع التيارين المتصدرين للمشهد السياسي، فقد كان كل طرف يدرك أن التفريط بصوته معناه منح الطرف المقابل صوتاً إضافياً، فحفزت هذه الفكرة الجميع على المشاركة المكثفة. وفي النتيجة اختار الإيرانيون التغيير، صوتوا للأمل في تغيير الواقع الموسوم بأزمات داخلية، وأزمات إقليمية، وأزمات مع العالم، وحجبوا الثقة عن المرشحين الذين يمكن أن يؤبدوا الواقع القائم. خطة واقعية.. وإن فشلت فوز المرشح الإصلاحي حسن روحاني كشف صحة القراءة التي أجراها المحافظون في احتمالات الفوز، فقد خاضوا المنافسة بعدة مرشحين معتمدين آلية التشتيت الممنهج للأصوات، لكسب جولة ثانية من المنافسة، فقد كانوا يدركون ان حظوظهم في الفوز كتيار ضئيلة أمام الاصلاحيين، غير ان هذه الخطة الدفاعية لم تنجح، لكنها من جانب آخر حفظت بعض ماء الوجه بتقليل نسبة الاصوات التي حصل عليها روحاني فوق حاجز النصف. هدية المحافظين للإصلاحيين إذا أردت أن تزيد حجم التعاطف الشعبي لشخص ما، فعليك أن تظهره بمظهر المظلوم، هذا هو قانون المشاعر في شعوبنا، وربما هي طبيعة بشرية عامة، وقد حدث ذلك مع الاصلاحيين، فقد خاضوا المنافسة الانتخابية تحت خيمة المظلومية بعد ان اقصى مجلس صيانة الدستور المرشح الشهير هاشمي رفسنجاني. وفي الحقيقة، فإنهم اقصوا مرشحاً يضمر مسبقاً قرار الانسحاب، فلم تكن في نية الشيخ المنافسة على المنصب الرئاسي، بل أرادها خطوة اولى تتوقف قبيل يوم الاقتراع بالانسحاب لمصلحة روحاني، من اجل زيادة دعمه، فحاول المحافظون قطع الطريق عليه وعلى روحاني، لكن النتيجة جاءت معكوسة، فقد زادت من تعاطف الجماهير مع الاصلاحيين، وقد نجح رفسنجاني في اظهار نفسه بمظهر المظلوم، فقد اعلن احترامه للقرار من جانب، وطعن بتوجهات المحافظين من جانب آخر، وكان ذلك توظيفا ناجحا منه للموقف لمصلحة معسكره الإصلاحي. أزمة مثلثة الأضلاع هذا في الشكل، أما من حيث المضمون، فبين «كولونيل الحرس الثوري» و«التابع المخلص» للولي الفقيه، كما يسمون أنفسهم، محمد باقر قاليباف محافظ طهران، وسعيد جليلي رئيس المفاوضين النوويين، ومحسن رضائي قائد الحرس الثوري السابق، وبين «الدبلوماسي المعمم» رجل الدين الحقوقي، الشيخ حسن روحاني، اختار الناخبون الإيرانيون الأخير، وبأكثرية كاسحة، أملاً في الخروج من الأزمة المتفاقمة التي يعيشون فيها. إنها أزمة مثلثة الأضلاع: 1 – بطالة تتزايد باستمرار، وتضخم وارتفاع متماديان في الأسعار. 2 – عزلة عن العالم بسبب البرنامج النووي، تبعها حصار دولي وتردٍ مستمر للوضع الاقتصادي، وتدهور في قيمة العملة الوطنية. 3 – توتر مع دول المحيط في منطقة الخليج، كما مع دول الإقليم، بسبب حلم التحول الى قوة اقليمية عظمى فيه. وحده المرشح «المعتدل» حسن روحاني، وهو شخصية مثقفة، حاصل على دكتوراه في القانون، وله نحو عشرين مؤلفاً، عكس أمل الإيرانيين في الخروج من النفق. وضع «المفتاح» شعاراً لحملته الانتخابية، وكان الوحيد الذي بعث الى الجوار برسائل ايجابية لتجاوز التوتر، واعادة العلاقات الى حالة طبيعية. بينما ركّز المرشحون المحافظون على شعارات «حزبجية»، خصوصاً في ما يتعلق بالملفات الخارجية. سيناريو خامنئي أم ضده؟ بعض المراقبين، يعتبر أن الحدث – المفاجأة، سيناريو أعده المرشد الأعلى نفسه، فيما يرى آخرون، أن النتيجة مؤلمة للسيد علي خامنئي، لأن أقرب المرشحين إليه مستشاره ووزير الخارجية الأسبق علي ولايتي، حصل على أقل عدد من الأصوات. صحيح أن الملفات الاستراتيجية للدولة الإيرانية، مثل النووي والعلاقات الدولية والقضايا العسكرية، هي بيد المرشد الأعلى، الولي الفقيه، وهو اختار نهج التشدد للوصول الى الغايات الايرانية، لكن الواقع هو دائماً أقوى من الرغبات، فلم يعد في الامكان تجاهل الضائقة التي يعانيها معظم الايرانيين، والتي تضغط بقوة على النظام. إن فوز المرشح المدعوم من التيارات المعتدلة والاصلاحيين لن يشكل خروجاً على سياسة الجمهورية الإسلامية، ولكن الانتخابات كشفت ان التغيير بات ملحاً: في الوجوه، كما في أسلوب العمل، وهو ما يمكن ان يمثله الشيخ روحاني ذو الصلة الوثيقة بخامنئي وممثله الشخصي في مجلس الأمن القومي. لكنه في الوقت نفسه، بنى علاقات قوية بالحركة الإصلاحية، وتحديداً بالرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. معادلة جديدة هذه المعادلة من المرجح ان تنعكس في السياسة الإيرانية الجديدة. ولعل اختبارها المباشر سيكون في قدرة روحاني على وقف تدهور العلاقات مع الخليج، خصوصاً مع المملكة العربية السعودية، وهو أعلن ان بين أولى مهماته اعادة تأهيل تلك العلاقات. كما كان روحاني ألمح إلى إمكان إجراء مفاوضات مباشرة مع الجانب الأميركي لتسوية الأزمة النووية. فضلاً عن وعوده بتحسين معيشة الإيرانيين، عبر السعي لتخفيف الحصار. والسؤال: هل تتجسد هذه المرونة في المواقف بإجراءات عملية؟ وكيف؟ ومتى؟ لن يحدث ذلك سريعاً. بل هو مسار تدريجي بطيء. انتهت المعركة الرئاسية بثورة انتخابية، وستبدأ معركة جديدة في تشكيل الحكومة والمصادقة عليها، ويبدو من خلال بعض التسريبات ان المحافظين في البرلمان سيظهرون مرونة مع التشكيلة الحكومية للرئيس الجديد.