إذا كانت الإجابة بنعم، فذلك يعني تحولاً جذرياً في المسار السياسي بالمنطقة، ويمكن أن يكون موارباً لما ترضاه الولاياتالمتحدة، لكن بشكل أو بصيغة أخرى تناسب تلك الدولة التي فرضت بصمتها محليا وعالميا. أما إذا كانت الإجابة بلا، فلا يملك كل من غاص بالتحليل واستقراء اسباب تنحي الشيخ حمد بن خليفة لولده تميم إلا الانتظار، ذلك لن يكون طويلا، التسمر امام قناة الجزيرة لأيام يكفي لكشف الحقيقة. لعل العرض التي قامت به تلك القناة المحترفة لطريقة تنحي الأمير من سرد للأحداث وردود الافعال تكفي لملء رؤوس اقلام تشي بوجود استراتيجية جديدة تقودها الدوحة مرة اخرى، بدءاً بالقضية الفلسطينية ومرورا بمبادرة ايرانية نحو سوريا، وليس أخيرا ضخ دماء جديدة معتدلة في "الاسلام السياسي". محاور عدة ذهب إليها المحللون في طرحهم، لكن أهمها تلخص في أربعة: أن الرجل تعب من السياسة ويعاني صحيا، ضغط أمريكي لوقف دعم الاسلاميين واستلام واشنطن الملف برمته، رصيد الدوحة في امداد الثورات العربية أوشك على الخلاص في المقابل فإن التحديات كانت أقوى، والرابع خلافات داخلية أوجبت التغيير. غالبا ما تقرأ الأمور في سياق أن الدول العربية بدون استثناء تخضع للهيمنة الغربية- الأمريكية تحديدا، حتى إن البعض ذكر أنه كان بإمكان واشنطن أن تأمر بغير تنحي الأمير وسيصار إلى تنفيذ طلبها، غفلوا أن العالم العربي يتغير، ووضع المسؤولين الامريكيين في حيرة أكثر من مرة. في هذا الشأن، تقليل من أهمية "الربيع العربي" الذي انطلقت شرارته في تونس وهو مستمر والدليل سوريا وقلاقل في دول أخرى، لذلك كان من الضرورة قراءة بُعد جديد يتمثل في أن الدوحة بلغت مرحلة التمكن لدرجة التمرد، لكن هذه المرة بهدوء بعيدا عن حماس الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، ومن خلال إعادة التموضع استعداداً لانطلاقة جديدة. كيف ذلك؟ مالياً، الدوحة تملك المقومات كافة من موارد طبيعية غير مسبوقة، واستثمارات خارجية تعد الأولى عربيا، أما سياسياً فهي تعي أن واشنطن مرتبكة حيال حلفائها في تركيا ومصر وسوريا وفلسطين بشقيها -حماس وفتح- وتونس وليبيا وأماكن أخرى كثيرة. الخلاف القطري الخليجي موجود، وبخاصة مع السعودية والامارات، في المقابل بقيت تلك الدولة الصغيرة على وصال مع طهران بعكس الآخرين، وحفظت خط الرجعة أكثر من مرة حتى مع "إسرائيل". مثلما فاجأت قطر العالم قبل أكثر من عامين بتأثيراتها سياسيا وماليا وإعلاميا، ساهمت في أكثر من مقام بإحداث تحولات استراتيجية في المنطقة، يمكن أن تفاجئنا هذه المرة، وتكون هي سابقة الأولى من نوعها بأن تبدأ دولة عربية رفض الهيمنة الغربية، وهذا ما نأمله. إذا كانت السياسات في المنطقة تعيد إنتاج ذاتها هذه المرة بزخم أكبر في ظل ارتباك أمريكي لما ستؤول إليه الأمور في سوريا وعملية السلام، فإن قطر تجد نفسها أقوى من قبل، ويمكن أن تخطو خطوة أخرى في هذا الاتجاه، فمن أهم أسباب تنحي الامير لولده وتَجَاهَله كثيرون أن الدوحة تحصن ذاتها بشاب متحمس يدعمه والده من الخلف، ويملك ذلك الكم من المال والحلفاء، فلماذا تخشى قطر المواجهة. ليس بالضرورة أن تقف الدوحة أمام واشنطن معلنة عدم تطبيق سياساتها في المنطقة بحذافيرها، بل يكفي أن تعرض قطر أوراقها في سياق جبهة داخلية قوية، وربيع عربي أمدها بمزيد من الوقود، ومن يراهنون على انتهاء ذلك "الربيع" عليهم فقط النظر إلى ما يحدث وسيحدث عندهم وفي جوارهم.