هو الزمن العربي الرديء بجراحاته العميقة بلا شك: لم نشهد أبدا هكذا استقطاب سياسي ومذهبي واجتماعي يمعن في تفتيت عضد هذه الأمة. اليوم يختزل المشهد في مصر في فريقين: حركتا «تمرد» المناهضة للرئيس المصري و»تجرد» المنافحة عنه باسم الشرعية. وكل فريق يضم بين جنباته فصائل واحزابا وجماعات قد تتفق مؤقتا على نهج لكنها تختلف فيما بينها ايضا. يفرض الواقع المرير على المصريين ان يختاروا واحدا من فريقين، وان ينحازوا الى صف في مقابل الصف الآخر. عقلية القطيع هي التي تحكم لتسمو على مفاهيم الدولة والنظام والقانون والدستور والقيم المدنية وحرية الفكر وغيرها. في فلسطين ذات المشهد يتكرر وعلى الفلسطينيين ان يختاروا بين «فتح» من جهة وبين «حماس» من جهة اخرى، وأن يخوضوا في حوار عقيم حول المصالحة الوطنية وان يعقدوا المؤتمرات الصحفية ويتبادلوا الاتهام حول الاخفاقات المشتركة. ان لم تكن معنا فانت ضدنا: هذا هو المنطق السائد اليوم. الشعب الفلسطيني يعيش حالة استقطاب مدمر لهويته الوطنية وحقه التاريخي في الحياة والاستقلال وانهاء الاحتلال. وكذلك المشهد في سوريا حيث عليك ان تختار بين الوقوف الى جانب النظام، رغم كل جرائمه، او التحلق حول المعارضة التي اخفقت في لم شتات الشعب السوري والتخفيف من آلامه. ذات الثنائية التي تفرض عليك ان تنحاز الى جانب ضد الآخر تشتعل نارها في ليبيا وتونس واليمن. في لبنان التي خبر اهلها لعنة الاستقطاب والاصطفاف والتخندق تتمثل الثنائية القاتلة في محورين متقاتلين هما 14 آذار و8 آذار. وفي العراق حيث الاقتتال المذهبي والطائفي المحتدم منذ سنوات يختزل المشهد في فريقين متناحرين: سنة وشيعة. وصل هذا الاستقطاب القاتل الى سوريا وهو اليوم فيروس هوائي معد ينتقل من بلد الى آخر ومن قرية الى اخرى! من يكسر هذه المتوالية الخبيثة ليوقظ العرب من حالة الهذيان هذه؟ وكيف نعيد العقل والحكمة الى حوارنا لنتغنى بتنوعنا الثقافي والديني والاجتماعي بدلا من أن نشجبه ونحوله الى كابوس مرعب يقض مضاجع العقلاء فينا؟ كيف لنا ان نجد طريقا ثالثا ومخرجا آمنا من تلك الثنائية القاتلة لنعيد الحوار الى جادة الصواب ولنصب جهدنا على بناء المجتمع الديمقراطي التعددي المدني الآمن؟ بين «تمرد» و»تجرد» تجد مصر نفسها على الحافة بينما تعصف الثنائيات القاتلة بغيرها من الدول والشعوب. انه زمن الفتنة الكبرى التي لم نكن نصدق انها قادمة لتبتلع كل شيء.