لا يروم كتاب "تطريز الحكاية في المقامات" للباحث عبد المالك أشهبون الصادر مع مجلة "تراث" التابعة لنادي "تراث" الإماراتي، في عدد يونيو 2013، تقصي أصل المقامات، أو البحث في قضايا انتشارها شرقا وغرباً، أو مدى تأثيرها في الآداب الأجنبية، أو طبيعة امتدادها حتى عصرنا الحالي في شتى مناحي أدبنا العربي المعاصر، وإنما هو يسعى إلى فتح آفاق نقدية جديدة في مقاربة عوالم المقامة الرحبة، من خلال تغيير زاوية النظر إلى نصوصها التي يُفترض فيها أنها حمَّالَة بنيات وقيم فنية وجمالية منقطعة النظير. انطلق أشهبون في تأليف هذا الكتاب من فرضية مركزية مفادها أن المقاميين لم يقدموا على تأليف مقامتهم لتعليم الناشئة أساليب البلاغة، وفنون القول فحسب، وهو ما كان متداولا على نطاق واسع من قبل، بل أبدعوا، موازاة مع ذلك وفي تواشج معه، فنًّا قصصيًّا مشوِّقاً وممتعاً لا يقل متعة وفائدة. من هنا، وجدنا أن الغاية السردية وحدها، جديرة بأن يُفْرد لها بحث، بل بحوث مستقلة، وفي إطار هذه الغاية بالذات يندرج هذا الكتاب. مقاربة سردية يرى المؤلف أن تعدد وجهات النظر حول فن المقامات، ما بين من يعتبرها ذروة ما وصل إليه الأدب العربي من حيث الزخم اللغوي والبلاغي والأسلوبي بالدرجة الأولى، ومن رأى أنها علامة فاقعة من علامات انحطاط أدبنا العربي، بعد أن ترسخت حولها وجهة نظر سلبية في كثير من المراجع والمصادر، مفادها: أن فن المقامة عبث بهلواني لغوي فحسب، حيث شُغل المقامي الشاغل هو رصف للكلمات الصامتة، والعبارات الجامدة التي تخلو من نبض الحياة، لا يمضي فيها (المقامي) على سجيته، ولا يكون شعوره قائده، كما لا تنساب كلماته انسيابا وبدون تكلف...الخ. كل هذا وذاك، حال دون نهوض المقامة زمنا طويلاً من وضعها الإشكالي هذا. ويقول "ترتب عن هذين التصورين لفن المقامة رؤيتان مركزيتان: الأولى يطبعها الاحتفاء المنقطع النظير بهذا الفن، لما حواه من ذخيرة لغوية هائلة، والثانية إقصائية تعتبره عبئاً على أدبنا العربي، وجب تنحيته، وتهميشه ولم لا التخلص منه. وعلى إيقاع تجاذب هذين الرأيين المتعارضين، اقترحنا وجهة نظر جديدة، تعتمد المقاربة السردية سبيلا ثالثا، في أفق البحث عن خصوصية مغايرة تتميز بها المقامات، وذلك عبر تبئير الانشغال النصي حول مقامات ثلاثة من أهم رموز هذا الفن وممثليه، وهم بديع الزمان الهمذاني ومحمد الحريري البصري وجلال الدين السيوطي". ويضيف "نحن نمهد الطريق لبحث الوضع الإشكالي للمقامة في التلقي النقدي العربي، لم يَفُتنا التوقف عميقا عند أصل هذا الإشكال، وهو في نظرنا يرتد إلى أن النقاد العرب القدامى لم يعطوا النثر ما أعطوه للشعر من عناية، ربما لأن مقولة: "الشعر ديوان العرب" كان لها الأثر السلبي على المكتبة السردية العربية القديمة. عالم المقامات ترتب عن هذه القولة المأثورة أثراً سلبيا واضحا، تمثل في كون النثر العربي ظل مهمشا في الدراسات النقدية، ولم ينل من أنفس النقاد منزلة الشعر. على الرغم من أن في الثقافة العربية كتاب منثور هو القرآن الكريم شُغل به النقاد أيما انشغال، دون أن ننسى كتاب الليالي ("ألف ليلة وليلة")، الذي ذاع صيته في الآداب العالمية شرقا وغربا". يشير المؤلف إلى أنه حتى بعض الذين غامروا في مجال دراسة المقامة متأثرين بمقولة "الشعر ديوان العرب"، اكتفوا بمقاربتها بوسائل مستعارة من مجال فنون البلاغة التقليدية عموما، والشعر على وجه الخصوص، وهذا ما جعلهم يختزلون المقامة في مظهرها لا في مخبرها، في شكلها لا في مضمونها، في تجزئ مكوناتها لا اعتبارها صرحا معماريا متكاملا. وقد كان منطلقنا في هذه المقاربة الجديدة، هو أننا حين نقرأ المقامات الهمذانية مثلًا، نشعر بتضافر المكونين النصيين وتكاملهما: المكون القصصي والمكون الأسلوبي. من هنا كان تمثلنا للمؤلفين/المقاميين باعتبارهم قصاصين متمكنين في فن القص، بقدر درجة تمكنهم في مجال اللغة، وتوظيف المحسنات البديعية... إلخ. ويوضح الباحث ذلك بقوله: "عندما نحاول تغيير زاوية النظر إلى فن المقامة في أدبنا العربي، فإننا ننظر إليها من حيث البناء والدلالة والتلقي معاً. فأكيد أن هذه النظرة، التي تريد أن تكون مغايرة توجد وراءها مرجعية نقدية متماسكة، ننهل خطوطها العريضة ومصطلحاتها من عالم السرديات أساساً. في اعتقادنا الشخصي، أن هذه المرجعية النقدية الجديدة، تؤدي إلى زحزحة المفاهيم القديمة التي تلقينا من خلالها هذا الفن الأدبي الراسخ في تاريخ أدبنا العربي. أما الغرض من تلك الرؤية المغايرة، فهو تغيير الصورة الثابتة التي تجمدت داخلها المقامات، من خلال تكريس ارتباط المقامة بالشروح اللغوية والبلاغية في غالب الأحيان. رهانات فنية ولما كان الأمر يتعلق بتجريب عُدَّةٍ نقدية مختلفة؛ فإن هذا الكتاب يروم تقديم مقاربة سردية في المقام الأول لفن المقامات، بدل الرؤية التقليدية التي حنَّطته، وأحالته إلى مجرد ألاعيب لغوية شكلية. القول، إذاً، بالاستفادة من مجال الدراسات السردية في مقاربة عالم المقامات، يعني استبدال المقاربة القائمة على القراءة اللغوية الضيقة، بالمقاربة السردية المنفتحة على أفاق نقدية أخرى يتطلبها المقام التحليلي طلباً. انطلق الكتاب من مقدمة خصصت للبحث عن دوافع التأليف، وتحديد أهم محاور الكتاب وفصوله، بالإضافة إلى مدخل يتقفى التلقيات المتفاوتة والمتضاربة لهذا الفن من قبل القدامى والمحدثين، لذلك كان من الضروري أن ننشئ هذا المدخل، حتى نقدم مقترحنا بخصوص مقاربة المقامة من منظور جديد مغاير لما كان سائدا. كما يشتمل الكتاب على خمسة فصول، وكل فصل منها يدور حول مكون رئيس من مكونات النص المقامي. الفصل الأول في مكون العتبات، مع تركيزه على عتبتي: العنوان والتعيين الجنسي، حيث انتقل المؤلف بعدها إلى المكون الخطاب الافتتاحي، وقارب فيه العبارات الافتتاحية التي تتردد في بداية المقامات، معمقا البحث في طبيعة الأفعال والعبارات المسكوكة، من حيث التشكل، والرهانات الفنية والوظائف المنوطة بها في فن المقامة. كما توقف مليا عند الأصوات السردية في المقامات، من خلال تسليط الضوء على موقع كل من الراوي والبطل والمروي له، وانتقل بعدها لمقاربة مكون آخر لا يقل أهمية في خطاب المقامات ألا وهو المكون المكاني، الذي تتبع فيه دلالات (أولا) موقع المكان وتعدده وتنوعه في فن المقامة وإيحاءاته، كما استقصي (ثانيا) ما يمثله السفر للمقامي من أهمية حيوية في توليد فكرة المقامة نفسها. الوعي بالتراث وفي الأخير عمق المؤلف البحث في الخطاب الختامي، من حيث تجلياته وجماليات تلقيه، وأولي لهذا المكون الحيوي ما يستحقه من عناية، قصد الاستجابة لدواعي إعادة الاعتبار لكل مكونات البناء المعماري في فن المقامة من البداية حتى النهاية. ولقد وقف المؤلف عند خلاصة مركزة مؤداها "أن لكل مكون نصي نصيبه من جمالية القدرة على تطوير وتفعيل باقي مكونات النص الأخرى، كما له نصيبه، كذلك، من الضعف الذي قد يصيب نص المقامة ببعض الاختلالات الجوهرية في بنائه ككل. ولعل الذي دفعني إلى خوض غمار إعادة قراءة فن المقامات من منظور سردي جديد، وأغراني بهذا المشروع النقدي الطموح أدين به للباحث العميق عبد الفتاح كيليطو تحديداً، وهو الذي بات الباحث العربي الأمهر في إعادة الاعتبار إلى النصوص التراثية عامة، والمقامات خاصة، فبفضله عادت المقامة مجددا لتتربع عرش الدراسات النقدية من منظور نقدي جديد، دون أن نغمط حق الكثير من الباحثين الذين حملوا على عاتقهم نفض الغبار عن التراث، وهذا هو المطلوب الآن لتجديد وعينا بإنتاجاتنا القديمة التي أبانت مقاربات هؤلاء الباحثين أنه تراث غني وزاخر ومتنوع لا يمكن تهميشه أو إقصاؤه أو ازدراؤه، بناء على حكم قيمة مسبق من السابقين أو حتى اللاحقين".