جنوبيون يطلقون وسم #قنوات_اخوانيه_يمنيه_ساقطه ويفضحون خبث إعلام العدو    فريق التوجيه والرقابة الرئاسي يزور فرع مصلحة الضرائب في شبوة    الراية الثقيلة... عام على رحيل صالح الناخبي الحاضر في الغياب    الوزير الأشول: اليمن يسعى لاستعادة عافيته الاقتصادية والانخراط في النظام التجاري العالمي    العليمي: العدالة في تعز ماضية كمسار مؤسسي شامل لا استثمار سياسي    صنعاء.. تشييع جثمان رئيس هيئة الأركان العامة السابق    اليمن يودع الشهيد الغماري على درب الفتح الموعود والجهاد المقدس    الارصاد: أجواء باردة على المرتفعات وتوقعات بأمطار متفرقة على عدد من المحافظات    الونسو: مبابي لاعب حاسم يمنحنا النقاط، وهذا ما نحتاجه    بكأس مونديال الشباب... المغرب يتربع في قلب التاريخ    الدين العام الأميركي يسجل رقما قياسيا    اتفاقيات لدعم موازنة الحكومة اليمنية وتوفير نفط للكهرباء    تقرير حقوقي يوثق ارتكاب مليشيات الحوثي 4896 جريمة بحق رجال الدين ودور العبادة    أمين عام حزب الرابطة: الجنوبيون يدفعون ثمنًا باهظًا لجريمة "يمننة الجنوب"    مؤسسة مياه عدن: الانقطاع الكامل لمنظومة الكهرباء سيؤدي إلى توقف خدمة المياه والصرف الصحي    انطلاق مراسيم تشييع الشهيد المجاهد الغماري    قبل الكلاسيكو.. مبابي يعيد الريال إلى الصدارة    يونايتد يذيق ليفربول الخسارة الرابعة تواليا    مدرب ليفربول متفاجئ من خسارة فريقه أمام مانشستر يونايتد    عدن غارقة في الظلام والمرتزقة ينهبون الايرادات    خلال 7 دقائق.. عملية سرقة "لا تقدّر بثمن" في متحف اللوفر    مقتل شخصين بحادث اصطدام طائرة أثناء هبوطها في مطار هونغ كونغ    الشهادة بداية حياة وليس نهايتها    وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن. "17"    بالنظر إلى تعاطيه الإيجابي مع مأساة (قطاع غزة) وكادره الطبي ..تخطى (غوستافو كولومبيا) 21 حاكمًا عربيّا    شبابنا.. والتربية القرآنية..!!    فيما تم تدمير 300 لغم من مخلفات العدوان .. المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام يبحث توسيع الشراكة والتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر    اللواء الغماري.. فارس الميدان ومرعب الكيان    قراءة تحليلية لنص "رغبة في التحليق" ل"أحمد سيف حاشد"    الاتحاد السياحي اليمني يكشف عن فساد في مجلس الترويج السياحي    سامي غالب يطالب الداخلية والنيابة بعدن بايضاح أسباب اعتقال الكابتن طيار محمد المتوكل    قافلة من وادي حضرموت تصل إلى الضالع دعماً للمقاتلين وتجسيداً لوحدة الصف الجنوبي    الإمارات شعلة العلم في سماء الجنوب .. من بناء المدارس إلى ابتعاث العقول.. بصمات لا تُمحى في مسيرة التعليم الجنوبي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة المناضل والأكاديمي محمد الظاهري    أبعدوا الألعاب الشعبية عن الأندية!    رئيس تنفيذية انتقالي لحج الحالمي يُعزي الشيخ نائف العكيمي في وفاة والده    وزارة الإعلام تُكرم الفائزين بمسابقة أجمل صورة للعلم اليمني    اليمن تحقق ذهبيتين في فئة الناشئين بالبطولة العربية للجودو في العراق    الأرصاد يكشف عن تكوّن منطقة ضغط جوي منخفض فوق جنوب شرق بحر العرب    حين تتزين الثورة بالترف... تموت الفكرة وتُباع القضية    اجتماع موسع للامناء الشرعيين لمناقشة آلية تفعيل وتنفيذ وثيقة تيسير الزواج في البيضاء    عدن.. مصلحة الجمارك توضح حول رفع سعر الدولار الجمركي    700 طالب وطالبة يؤدون اختباراتهم في المعهد العالي لتأهيل المعلمين بذمار وفرعيه    الدوري الالماني: بايرن ميونيخ يفوز على دورتموند ويبتعد في الصدارة    إشادة بتمكن عامر بن حبيش في احتواء توتر أمني بمنفذ الوديعة    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على اوساسونا بهدف يتيم    قراءة تحليلية لنص "العيب المعوَّق للمعرفة" ل"أحمد سيف حاشد"    هيئة الآثار تدعو للتعرف على متاحف اليمن عبر موقعها الإلكتروني    السقاف يزور الشاعر المخضرم عبدالله عبدالكريم للاطمئنان على صحته    حضرموت بحاجة إلى مرجعية دينية بحجم السيد "الحداد"    لو فيها خير ما تركها يهودي    المداني خلفا للغماري .. بعضاً مما قاله خصمه اللدود عفاش في الحروب الست    اليمن انموذجا..أين تذهب أموال المانحين؟    ابتكار قرنية شفافة يقدم حلا لأزمة نقص التبرعات العالمية    معهد امريكي: شواء اللحوم يزيد خطر الاصابة بالسرطان    متى يبدأ شهر رمضان 2026/1447؟    الرمان... الفاكهة الأغنى بالفوائد الصحية عصيره يخفض ضغط الدم... وبذوره لها خصائص مضادة للالتهابات    ما فوائد تناول المغنيسيوم وفيتامين «بي-6» معاً؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطاب المقدمات في الرواية اليمنية (1-2)
نشر في الجمهورية يوم 15 - 01 - 2010

يتأسس النص الإبداعي على جملة من الأنشطة والفعاليات الذهنية والمتخيلة تحيل مدخلات العملية الإبداعية إلى «إنتاج لغوي منغلق على ذاته، ومستقل بدلالاته»(1)، الأمر الذي يجعل من التلقي والممارسة القرائية للنصوص الإبداعية عملية شاقة ومجهدة وتتطلب التسلح بأدوات منهجية قادرة على استبطان النصوص واستشراف آفاقها واجتراح المعاني الكامنة في بنيتها العميقة.
وقد وجد النقد الحديث فيما اصطلح النقاد الغربيون - وفي مقدمتهم «جيرار جينيت» -على صكه - مصطلحاً- باسم النص الموازي (Le paratexte) أو«العتبات» Seuils(2)- وهي مجموع العناصر المحيطة بالنص كالعناوين والإهداءات والمقدمات وكلمات الناشر.. و«كل ما يمهِّد للدخول إلى النص، أو يوازي النص»(3) - مدخلاً أولياً ومهماً لتقريب علائق النص وتفعيل تلقي القارئ . وأهمية هذه العناصر تكمن في أن «قراءة المتن تصير مشروطة بقراءة هذه العناصر، فكما أننا لا نلج فناء الدار قبل المرور بعتباتها، فكذلك لايمكننا الدخول إلى عالم المتن قبل المرور بعتباته، لأنها تقوم من بين ما تقوم به بدور الوشاية والبوح، ومن شأن هذه الوظيفة أن تساعد في ضمان قراءة سليمة للكتاب أو للنص.»(4)
خطاب افتتاحي
والمقدمات بماهي خطاب افتتاحي من أهم عتبات النصوص ومداخل قراءتها, كونها «وعاء معرفياً وأيديولوجياً تختزن رؤية المؤلف وموقفه من العالم..وتتيح للكاتب العديد من إمكانات التعبير والتعليق والشرح»(5) كما تضطلع بدور مهم في بسط الأسس والمفاهيم النظرية الخاصة بالإبداع والكتابة والتأليف , ومن ثم فهي «خطاب موجه نحو النص والقارئ , قصد بناء, أو تحديد نمط من القراءة المتوخاة , وهذه الوظيفة التوجيهية جزء من استراتيجية المقدم في تحديد علاقة القارئ بالنص»(6).
ولا يخفى ما للمقدمة من حضور فاعل ومكثف في مختلف الحقول المعرفية والفكرية حتى أنه لا يكاد يخلو منها مؤلف أو كتاب , غير أن أهميتها في تلك الحقول تقل بالنظر إلى أهميتها في حقل الإبداع الأدبي ؛ وذلك عائد إلى طبيعة الأدب بماهو خطاب فني متخيل , لايحايث السائد, ولايجترح المألوف, ولا يطمح – بدرجة أساس - إلى أغراض توصيلية بقدر توقه إلى إحداث متعة جمالية.أما المقدمات فتقدم – في الغالب– خطاباً معرفياً توصيلياً , ومن ثم فأهميتها في هذا الحقل تأتي من أهمية المعرفة التي تقدمها حول تشكل النص وملابسات إنتاجه بمايعين القارئ على فك شفراته , وفتح مغالقه , واستكناه أعماقه؛ وفي الوقت ذاته تحمي النص من التأويلات المغرضة أو المغلوطة ؛ وهي بهذا المعنى «جزء من النص تمده بقوة قصدية وظيفية تصير ملازمة له» (7) . غير أن ثمة من لايستسيغ المقدمات في الأعمال الأدبية, بل ويعدها «عتبة قد تشوش على طبيعة النص الإبداعية ووشاية - بطريقة غير مباشرة – بأسرار النص المركزي الجوهرية» (8) وفضلاً عن ذلك فهي لا تشكل –وفقاً لهذا الاتجاه - أية قيمة إضافية للنص ؛ بل هي نص مضاف يعد في واقع الأمر «إساءة حقيقية لجوهر عمل إبداعي يفترض فيه توافره على القدر الكافي من الاستقلال والاكتفاء الذاتيين المطلوبين لمواجهة كل الاحتمالات التداولية الممكنة» (9).
وبرغم هذه العيوب التي يقترح جيرار جينيت لتجاوزها تأجيل قراءة المقدمة إلى مابعد الاطلاع على النص الإبداعي(10) ؛ فإنه لا أحد ينكر ما يمكن أن تضطلع به المقدمات من مهمات استقطابية توصيلية تساهم في فتح نوافذ النص للقارئ , وتمكنه من القبض على خيوطه المتشابكة , وتؤمن قراءة جيدة له ، إنها «وباختصار شديد: بمنزلة بوصلة يهتدي بواسطتها القارئ إلى القراءة الجيدة التي تجنبه شطط التأويل وسوء التقدير» (11).
مصاحبة النص وتأطيره
ونظراً لأهميتها في مصاحبة النص وتأطيره، فقد أوليت مؤخراً عناية كبيرة في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة ، ومنذ وضعت على منصة التداول النقدي أمست مهمة تفحصها قرائياً أمراً متلازماً مع دراسة نصها, الأمر الذي حتم على النقاد معاينة وظائفها, والأدوات التي تشتغل بها, وإقامة بعض التصنيفات الأولية بشأن أنواعها. وفي هذا الخصوص ميز النقاد بين أنواع متعددة من المقدمات , منها:الذاتية التي يوقعها كاتب النص نفسه، وهي هنا «عبارة عن تعاقد ضمني أو صريح بين الكاتب وقارئه»(12) فهي تخبره حول أصل الأثر الأدبي , وأهم الموضوعات التي سيتناولها, علاوة على تنبيه القارئ بملابسات وظروف الكتاب ومراحل تأليفه ومقصد مؤلفه، وهو ما اصطلح عليه باستراتيجية البوح والإعتراف(13) .ومنها: الغيرية التي يتكفل مقدم آخر بكتابتها، بناء على طلب من كاتب النص ذاته أومن ينوب عنه ممن يعنيهم أمر النص ، «وهذا المقدم لا يختاره المؤلف (أو الناشر) اعتباطا، فهو شخصية ذات مكانة إبداعية خاصة، ووضع اعتباري مميز»(14)، بمايعني أن العلاقة ما بين المؤلف والمقدم يطبعهاً أكثر من قاسم مشترك.
وثمة تصنيفات أخرى تنطلق من مضمون المقدمات وطبيعة الخطاب الذي تقدمه ,منها(15):
أ‌- مقدمات تقريظية تحاول إبداء المحاسن والتغاضي عن العيوب.
ب‌- مقدمات نقدية :تدخل في مجال تحليل العمل الإبداعي ، وإضاءته مستلهمة مختلف المفاهيم النقدية قديمها وحديثها.
ت‌- مقدمات فنية: تقدم للنص من جنسه .
ث‌- مقدمات موازية وتكون مستقلة عن المتن الإبداعي تسبح في أفق عام لا علاقة له بالعمل الذي تقدمه.
ولاشك فقد أفضى تعدد المقدمات إلى تعدد الوظائف التي تؤديها, ويمكن تحديدها في:
1 - وظيفية تعريفية:تنبيهيه حيث يتم التعريف بالأثر الإبداعي أو بصاحبه أو بانتماء المبدع ومسقط رأسه,أو بأسباب تأليفه.
2 - وظيفة تحليلية:وتخص المقدمات التي تدخل في تحليل بعض دلالات العمل الأدبي.
3 - وظيفة توجيهية :تحدد وجهة التأويل والقراءة كتحليل العنوان وشرحه .
4 - وظيفة تجنيسية وجمالية : تحدد جنس المقدم له في لغة نقدية أو شعرية .
5 - وظيفة ميتالغوية: تحول المقدمة إلى خطاب نقدي حول المكونات الفنية للظاهرة الإبداعية.
6 - وظيفة أيديولوجية: ترسل خطاباً ذا حمولة إيديولوجية تعكس مواقف المقدم نحو قضايا ثقافية أو سياسية أو اجتماعية.(16)
مع أن هذا التوصيف الوظيفي والتصنيف النوعي ليس نهائياً بحيث يمكن سحبه على مختلف المقدمات, إذ بقدر ما تتعدد المقدمات بقدر ما تتعدد وظائفها؛ إلا أن أغلبها لايخرج عن هذا التوصيف الذي يبقي لها ارتباطات مباشرة مع النص المقدم له، إما بدراسته أو بإضاءة جوانب منه أو من سيرة مؤلفه.
وسوف تسعى هذه الممارسة القرائية من خلال مفاوضة الخطاب المقدماتي في الرواية اليمنية -لاستقراء مرجعياته الوظيفية والتعرف على مكوناته ومقاربة خصائصه الشكلية وامتداد تأثيره على النصوص الروائية ومستقبل قراءتها. . وماينبغي الإشارة إليه أن الخطاب المقدماتي في النصوص الروائية اليمنية لم يسبق له–حد علمي - أن تعرض للمساءلة والدراسة، ربما بسبب حداثة الدراسات التي التفتت للخطاب المقدماتي ونظرت له, وقد يكون السبب قلة النصوص الروائية المتضمنة لخطابات مقدماتية ، وربما لكون بعضها مقدمات لم تطرح من القضايا النظرية ما يسعف القارئ أو الناقد على استجلاء طبيعة الفن والمفاهيم ذات الصلة بالإبداع الروائي نظرا لتحول جلها إلى مجرد قراءات انطباعية تكيل المديح للنصوص المقدم لها.
ولا تدعي هذه القراءة أنها قاربت كل مقدمات الرواية اليمنية– وإن كان ذلك طموحها منذ كانت فكرة – إلا أن الخطاب المقدماتي في الروايات التي وقع عليها الاختيار يشكل نموذجاً حياً ودالا على أنماط التقديم الماثل في الرواية اليمنية. والوظائف التي نهض بها في سبيل قراءة النص وتجسيد حضوره وتلقيه.
أولاً: الخطاب المقدماتي الذاتي:
سبقت الإشارة إلى أن المقصود بالخطاب الذاتي هو الخطاب الذي يوقعه المبدع ذاته ويتوجه به إلى القارئ قصد بناء علاقة دافئة بينه – أي القارئ- كمتلق, وبين النص باعتباره رسالة المبدع إلى ذلك القارئ .وإزاء ذلك قد يلجأ المبدع إلى الكشف عن موضوع عمله وتوضيح الهدف منه والبوح بملابسات وظروف كتابته.كي يسهل على القارئ استيعاب تعرجات النص وفضاءاته الواسعة , ويغريه من ثم بمتابعة أحداثه المتنوعة ودلالاته المختلفة, وهذه الإستراتيجية في التقديم لها حضور متجذر في الفن الروائي اليمني منذ أول رواية تؤرخ له وهي رواية (سعيد) لمحمد علي لقمان التي صدرت في 1939(17), بما يعني أن الخطاب المقدماتي في الرواية اليمنية خطاب أصيل لازم الرواية منذ يومها الأول.
يفتتح لقمان مقدمة روايته بعنوان يشعر معه القارئ أنه إزاء خطاب مقدماتي لاعلاقة له بالمتن الروائي ولاينهض بأي دور وظيفي يخدم السياق السردي. فعنوان المقدمة «عدن بين الأمس واليوم» يشي بخطاب غرضه المقارنة بين وضعين مختلفين ل «عدن» «المدينة - الناس» في زمنين مختلفين , وهي وشاية صحيحة, فقد كرس لقمان مقدمته للمقارنة بين حالة اليسر والرخاء التي كانت عدن تعيشها أوائل القرن العشرين حيث» كان أهلها قابضين على زمام التجارة يملكون عشرات الآلاف من حيوانات النقل والأبقار والماعز والضان يصرفون ما يكسبون على راحتهم ورفاهيتهم ويدخرون أموالاً طائلة لأبنائهم» (18) وبين حالة الفقر والعوز التي اكتسحت المدينة جراء تسلل الأجانب وسيطرتهم على مرافقها , فضلاً عن تفشي الجهل بين أبنائها وخاصة في أوساط النساء «أما الجهل بين النساء فحدث عنه ولا حرج فإنهن يعتقدن بسفاسف الأمور من زار وحروز وتمائم ونذور وزيارات أضرحة ولطالما شددن الرحال إلى البلدان المجاورة ليتداوين من العقم أو الهستيريا أو حتى من داء السكري والتدرن الرئوي عند أضرحة الأولياء»(19) وواضح أن حالة التخلف الاجتماعي وضعف الوعي المعرفي لدى العدنيين أزعجت لقمان فاستثمر جل مقدمته لمحاربتها والتحذير من اضرارها , وهي وإن كشفت عن عمق الهم الاجتماعي المعتمل في وجدان الروائي وعقله ,إلا أن ثمة سؤال عن جدوى هذا الخطاب وعلاقته بالنص الروائي.
والحقيقة أن لقمان وإن أسهب في توصيف الحالة العدنية فإنه في آخر سطرين من المقدمة الممتدة عبر ثلاث صفحات حدد أبعاد تلك العلاقة بقوله: «وقد حاولت في هذه الرواية التي وقعت أحداثها في عدن أن أبين كثيراً من عيوب العدنيين الاجتماعية لعلهم يجتنبوها فيصيروا قوما صالحين يرثون الأرض»(20) لقد وضع لقمان متلقيه بهذه الكلمات القليلة أمام هدف الرواية والموضوع الذي ستعالجه, فمتنه الروائي - كما أعلمنا بذلك- مؤسس على تشخيص حالة العدنيين والعيوب التي أوصلتهم إلى تلك الحالة , وهدفه من تشخيص تلك الحالة وفضح المساوئ التي جرت إليها القصد منه تجنبها والتخلص منها , فنحن – إذن- إزاء خطاب مقدماتي محكوم بهاجس اجتماعي يؤشر إلى انخراط الروائي في أتون الحالة المرضية التي يعيشها مجتمعه. فهذه الحالة هزت كيانه، وجعلته ينغمس بين ثناياها ويعيش أعراضها ويصور حالتها ليس في خطابه المقدماتي فحسب بل في متنه الروائي أيضاً, فالرواية بحسب د عبدالحميد إبراهيم تصف: «حالة العدنيين في العقد الأول من القرن العشرين . وماهم عليه من رخاء ويسر ، وتصف مجالس التجار ، وما هي عليه ، من فرش وثيرة وأثاث ناعم وخيرات طيبة ،ولكنها تحذرهم من خطر داهم .. وتدعوهم إلى تربية أبنائهم وتعليمهم» (21) .
وما يميز هذا الخطاب - على الرغم من بساطته- أنه قدم مهمات توصيلية توجيهية مهمة, فهو خطاب استباقي كشف مضامين الرواية وأحداثها ، وكذا الأزمنة والأمكنة التي ستدور فيها هذه الأحداث. وهو خطاب مساعد:أعطى المتلقي خبرة قبلية حول مضمون العمل الروائي وطبيعة أحداثه مما قد يساعده على تكوين فهم مناسب لهذا النص.
ويمكن القول: إن هذه الوظائف التي ألفيناها في خطاب لقمان الذاتي هي في الغالب جل ما تضطلع به الخطابات المقدماتية الذاتية في روايات المراحل الأولى من تاريخ تطور الرواية اليمنية ,على نحو مانجده في الخطابات المقدماتية لروايات علي أحمد باكثير التي تنتسب فنياً إلى نفس المرحلة التي تنتمي إليها رواية سعيد وهي مرحلة النشأة «(22).
مواجهة مباشرة
فخطاب باكثير المقدماتي يضع المتلقي ومنذ الوهلة الأولى في مواجهة مباشرة مع مقصدية الرواية ومضمون العمل السردي فيها فضلاً عن الإشارة إلى المكان والزمان اللذين دارت فيهما الأحداث.ففي روايته «واإسلاماه» يفتتح خطابه المقدماتي على هذا النحو: «هذه قصة تجلو صفحة رائعة من صفحات التاريخ المصري في عهد من أخصب عهوده وأحفلها بالحوادث الكبرى, يطل منها القارئ على المجتمع الإسلامي في أهم بلاده وهو يستيقظ من سباته الطويل على صليل سيوف المغيرين عليه من تتار الشرق وصليبيي الغرب ... فيهب للكفاح والدفاع عن أنفس ماعنده من تراث الدين والدنيا . ويشاء الله أن تحمل مصر لواء الزعامة في هذا الجهاد الكبير ..وبطلها الملك المظفر قطز»(23). ف«باكثير» لايدع للقارئ فرصة الحدس أو الخوض في غمار العمل الروائي كي يستنتج تقريره الخاص به عن الرواية ومضمونها , بل إنه يعفيه من تلك المهمة ويتكفل هو بانجازها .
وهذه الإستراتيجية في التقديم هي ذات الإستراتيجية التي انتظمت خطابه المقدماتي في رواية «ليلة النهر» الذي يفتتحه بالقول: «في وسعك اليوم أيها القارئ الكريم أن تشهد في هذا الكتاب مايشوقك من حياة الموسيقار المصري العظيم المرحوم فؤاد حلمي»(24) وهو لايكتقي بكشف موضوع الرواية بل إنه يبوح بالمصادرالتي استقى منها معلوماته عن حياة الموسيقار والأحداث التي صنعت حبكة روايته, حيث يقول: «وقد استقيت حوادث هذه القصة وأخبارها من كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بصاحب السيرة, غير أن معظمها تلقيته عن صديقه الحميم الأستاذ مراد السعيد الذي تفضل فأعارني مذكراته عن تلميذه الكبير ولم يضن علي بشيء أردت الاطلاع عليه من شؤونه وأحواله إلا مايراه من قبيل السر الذي لايذاع»(25), وخطاب مثل هذا كفيل بنثر جملة من الانطباعات والإيحاءات في ذهن المتلقي بعضها يخدم الممارسة القرائية للرواية والبعض الآخر يعيقها . فالوعي بواقعية «ليلة النهر» والاطمئنان إلى أنها رواية حقيقية وأن بطلها الموسيقار فؤاد حلمي شخصية حقيقية وغير متخيلة يجنب الرواية التأويلات المغلوطة والتفسيرات المشوشة , ولكنه في الوقت ذاته يحرم القارئ متعة الاستكشاف ويلزمه برؤية قبلية تصادر حقه في التفسير الخاص به ناهيك عن تقييد حريته في إعادة إنتاج النص وفق رؤيته الخاصة.
البوح بأسرار النص
على أن البوح بأسرار النص المركزية في الخطابات الذاتية يقل في مقدمات الروايات التي تنتمي لتيارات التجديد والحداثة لتحل بدلاً عنها إشارات بسيطة ولكنها ضرورية لإضاءة بعض الجوانب المتصلة بتقنيات الكتابة الروائية , ف«محمد مثنى» في مقدمة روايته «ربيع الجبال» يطالعنا بهذا التقديم: «إنني استميح القارئ عذراً لتوضيح بعض الضرورات ليس فيما يتعلق بشكل الرواية أو مضمونها ولا أي شيء من هذا القبيل الذي يمكن أن يتدنى إلى حد السفافة والمصادرة واتهام الناس بالبله , وإنما فيما يتعلق بشخصية القصة الرئيسية .فقد تركت له قدراً من الحرية الانسيابية اللغوية في كلماته وجمله ورواياته معتقداً في قرارة نفسي أن مامن شيء يفسد العمل الفني والجمالي مثل تلك التنطعات اللغوية القاموسية ... ليتحول القروي البسيط إلى مثقف وعالم لغوي بقدرة الكاتب ونيابته المخبولة أو يصبح الإنسان المسحوق العادي أزهرياً» (26) لقد أبان هذا التقديم ل»محمد مثنى» عن صيغة مغايرة لما ألفناه من صيغ التقديم الذاتي في روايات الاتجاه التقليدي ,كما كشف عن نفور الذات المقدمة وعدم استساغتها لمثل تلك الخطابات التي تعد -من وجهة نظرها- نوعا من التدني والاستخفاف بعقلية القارئ وقدرته على اكتشاف آفاق النص ودلالاته المختلفة , ولأن هذا النوع من التقديم لم يعد مقبولا ولا مستساغا لدى الذات المقدمة فقد انحصر خطابها على عرض وجهة نظر نقدية ذات صلة بالعمل الروائي ولها تعلقها بأحد عناصره الأساسية هو عنصر الحوار والمستوى التعبيري للبطل والشخصيات الورقية.
المستويات الفرعية
والحق أن قضية المستويات اللغوية في العمل السردي التي أثارها الخطاب المقدماتي ل»محمد مثنى» قضية متداولة وذات حضور قوي في الخطاب النقدي العربي ولكنه حضور إشكالي له مبرراته الفنية والموضوعية. والتطرق إليها في مقدمة الرواية جاء على سبيل استصحاب المبررات الفنية لتقنية من التقنيات الموظفة في المتن الروائي هي تقنية التعبير باللغة المحكية في حوار الشخصيات بشكل يجعلها قريبة من حياة المتلقي ومشاغله اليومية ويضفى على الرواية بعدا واقعياً, ولم يكن القصد من إثارتها هو إعادتها إلى منصة التداول النقدي , وإلا لكان المقدم أسهب في سرد الحيثيات والمبررات ووجهات النظر التي خاضت غمار هذه القضية كي يوفر لوجهة نظره دعما لوجستيا يجذرها, ويضمن لها الفاعلية والإقناع, ولايعني ذلك براءة المقدم من الانخراط في أتون الصراع الدائر حول لغة الحوار القصصي وانحيازه الواضح للغة المحكية لغة الحديث اليومي.
نخلص فنقول: إن مقدمة ربيع الجبال – رغم أنها لم تتجاوز الصفحة – صورة متقدمة من صور الخطاب المقدماتي الذاتي , ومن المقدمات التي تحمل وجهة نظر الكاتب تجاه قضايا الإبداع الأدبي , فضلا عن اجتراح إجابات مسبقة للأسئلة التي يطرحها النص المقدم له .
الهوامش والمراجع:
-1 د.محمد عزام: النص الغائب تجليات التناص في الشعر العربي, منشورات اتحاد الكتاب العرب, دمشق , 2001,ص14.
-2ينظر كتابي جينيت : «Palimpsestes «(1972) «Seuils»1987ولترجمة المصطلح ينظر : د. محمد بنيس: الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، 1, دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،1989، ص 77.
3 - د. حميد لحمداني,عتبات النَّص الأدبي (بحث نظري), مجلة علامات في النقد,النادي الأدبي بجدة,مج12,ع46, شوال1423ه ،ص32.
4 - د.عبد الرزاق بلال : مدخل إلى عتبات النص ، دراسة في مقدمات النقد العربي القديم, أفريقيا الشرق , الدارالبيضاء 2000,ينظر: ص 23-24.
-5 د.عبد المالك أشهبون: خطاب المقدمات في الرواية العربية، مجلة :عالم الفكر ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب المجلد،33 ، أكتوبر-ديسمبر، ص 88 .
-6 . أحمد المنادي: النص الموازي :آفاق المعنى خارج النص , مجلة علامات في النقد, النادي الأدبي بجدة, ج61,مج 16, مايو 2007, ص145
7 - نفسه, ص144. 8 - د.عبد المالك أشهبون ، ص89.
9 - نفسه,ص 89. 10 - ينظر: نفسه,ص 90.
11 - نفسه,ص 90. 12 - عبد الرزاق بلال, ص 37 .
13 - ينظر:نفسه، ص 51 .14 - د:عبد المالك أشهبون ، ص 105 .
-15 ينظر:د.أحمد المنادي , ص148. 16 - نفسه , ص148.
-17 ممن ذهب إلى أن رواية سعيد أول رواية يمنية :هشام علي وآمنة يوسف وإبراهيم أبو طالب, ينظر: سامي الشاطبي, الرواية اليمنية (70)عاماً من الكتابة(70)عاماً من الإصدار, دراسة منشورة في موقع صحيفة إرباك الالكترونية www.erback.com. وينظر:صادق السلمي , اثر التراث في الرواية اليمنية ,ص16.
18 - محمد علي لقمان , سعيد , المطبعة العربية , عدن 1939، ص3.
19 - نفسه, ص5. 20 - نفسه ,ص5
21 - د. عبد الحميد إبراهيم – القصة اليمنية المعاصرة (1939 – 1976) – دار العودة – بيروت– 1977 – ص 150,151.
22 - ينظر: صادق السلمي , أثر التراث في الرواية اليمنية , رسالة ماجستير غير منشورة ,جامعة ذمار ,2004, ص19.
23 - علي أحمد باكثير, واإسلاماه, الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة 1998 ,ص9 .
24 - نفسه, ص4. 25 - نفسه,ص4.
26 - محمد مثنى, ربيع الجبال, دار الهمداني, عدن, 1983 ,ص6 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.