سعد بن حبريش.. النار تخلف رمادا    فضيحة الهبوط    "الوطن غاية لا وسيلة".!    السامعي: تعز ليست بحاجة لشعارات مذهبية    عدن .. البنك المركزي يحدد سقف الحوالات الشخصية    السقلدي: تحسن قيمة الريال اليمني فضيخة مدوية للمجلس الرئاسي والحكومات المتعاقبة    جياع حضرموت يحرقون مستودعات هائل سعيد الاحتكارية    من المستفيد من تحسن سعر العملة الوطنية وكيف يجب التعامل مع ذلك    وادي حضرموت يغرق في الظلام وسط تصاعد الاحتجاجات الشعبية    في السريالية الإخوانية الإسرائيلية    مفاجأة مونتريال.. فيكتوريا تقصي كوكو    سمر تختتم مونديال السباحة بذهبية رابعة    أيندهوفن يتوج بلقب السوبر الهولندي    صومالي وقواذف وقوارير المشروبات لإغتصاب السجناء وتعذيبهم في سجون إخوان مأرب    شبوة .. توجيهات بإغلاق فروع شركات تجارية كبرى ومنع دخول بضائعها    العالم مع قيام دولة فلسطينية    رجل الدكان 10.. فضلًا؛ أعد لي طفولتي!!    جحيم المرحلة الرابعة    توظيف الخطاب الديني.. وفقه الواقع..!!    لمناقشة مستوى تنفيذ توصيات المحلس فيما يخص وزارة الدفاع ووزارة الكهرباء..لجنتا الدفاع والأمن والخدمات بمجلس النواب تعقدان اجتماعين مع ممثلي الجانب الحكومي    في خطابه التعبوي المهم قائد الثورة : استبسال المجاهدين في غزة درس لكل الأمة    مساعد مدير عام شرطة محافظة إب ل"26سبتمبر": نجاحات أمنية كبيرة في منع الجريمة ومكافحتها    العلامة مفتاح يحث على تكامل الجهود لاستقرار خدمة الكهرباء    إعلان قضائي    لجنة أراضي وعقارات القوات المسلحة تسلم الهيئة العامة للأراضي سبع مناطق بأمانة العاصمة    الراحل عبده درويش.. قلم الثقافة يترجل    مرض الفشل الكلوي (15)    الرئيس المشاط يعزّي مدير أمن الأمانة اللواء معمر هراش في وفاة والده    من بائعة لحوح في صنعاء إلى أم لطبيب قلب في لندن    اتحاد إب يظفر بنقطة ثمينة من أمام أهلي تعز في بطولة بيسان    عدن وتريم.. مدينتان بروح واحدة ومعاناة واحدة    بتوجيهات الرئيس الزُبيدي .. انتقالي العاصمة عدن يُڪرِّم أوائل طلبة الثانوية العامة في العاصمة    الشخصية الرياضية والإجتماعية "علوي بامزاحم" .. رئيسا للعروبة    2228 مستوطناً متطرفاً يقتحمون المسجد الأقصى    اجتماع يقر تسعيرة جديدة للخدمات الطبية ويوجه بتخفيض أسعار الأدوية    أبين.. انتشال عشرات الجثث لمهاجرين أفارقة قضوا غرقًا في البحر    من يومياتي في أمريكا .. تعلموا من هذا الإنسان    إصابة ميسي تربك حسابات إنتر ميامي    الاتحاد الرياضي للشركات يناقش خطته وبرنامجه للفترة القادمة    الهيئة العليا للأدوية تصدر تعميماً يلزم الشركات بخفض أسعار الدواء والمستلزمات الطبية    تدشين فعاليات إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف في محافظة الحديدة    مجلس القضاء الأعلى يشيد بدعم الرئيس الزُبيدي والنائب المحرمي للسلطة القضائية    انتشال جثة طفل من خزان مياه في العاصمة صنعاء    قيادة اللجان المجتمعية بالمحافظة ومدير عام دارسعد يعقدون لقاء موسع موسع لرؤساء المراكز والأحياء بالمديرية    هناك معلومات غريبيه لاجل صحتناء لابد من التعرف والاطلاع عليها    تشلسي يعرض نصف لاعبيه تقريبا للبيع في الميركاتو الصيفي    الحكومة تبارك إدراج اليونسكو 26 موقعا تراثيا وثقافيا على القائمة التمهيدية للتراث    توقعات باستمرار هطول امطار متفاوة على مناطق واسعة من اليمن    الرئيس الزُبيدي يطّلع على جهود قيادة جامعة المهرة في تطوير التعليم الأكاديمي بالمحافظة    نيرة تقود «تنفيذية» الأهلي المصري    صحيفة امريكية: البنتاغون في حالة اضطراب    مشكلات هامة ندعو للفت الانتباه اليها في القطاع الصحي بعدن!!    تدشين فعاليات المولد النبوي بمديريات المربع الشمالي في الحديدة    من تاريخ "الجنوب العربي" القديم: دلائل على أن "حمير" امتدادا وجزء من التاريخ القتباني    من يومياتي في أمريكا.. استغاثة بصديق    من أين لك هذا المال؟!    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    رسالة نجباء مدرسة حليف القرآن: لن نترك غزة تموت جوعًا وتُباد قتلًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطاب المقدمات في الرواية اليمنية (2-2)
نشر في الجمهورية يوم 16 - 01 - 2010

يتأسس النص الإبداعي على جملة من الأنشطة والفعاليات الذهنية والمتخيلة تحيل مدخلات العملية الإبداعية إلى «إنتاج لغوي منغلق على ذاته، ومستقل بدلالاته»، الأمر الذي يجعل من التلقي والممارسة القرائية للنصوص الإبداعية عملية شاقة ومجهدة وتتطلب التسلح بأدوات منهجية قادرة على استبطان النصوص واستشراف آفاقها واجتراح المعاني الكامنة في بنيتها العميقة.
الخطاب المقدماتي الغيري
يتجلى هذا النوع من الخطابات المقدماتية في ذلك التقديم الذي يكتبه مقدم آخر للنص، يقوم من خلاله بتقديم شهادة حول النص أو مؤلفه أو كلاهما في نفس الوقت، وعادة مايكون بين المقدم والمقدم له قواسم مشتركة, كأن تجمع بينهما علاقة الصحبة والصداقة أو الاتجاه الأدبي ولذا قل أن تخلو المقدمات الغيرية من روح المجاملة والدعاية والإشهار.. إلا أنها تظل الأقدر على إنتاج معرفة نقدية لها فاعليتها وخصوصيتها وبالذات إذا كان المقدم شخصية لها مكانة إبداعية خاصة، ووضع اعتباري مميز, ويحضرنا في هذا السياق المقدمات النقدية للأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي يعد بلامنازع رائد الحركة الإبداعية والنقدية المعاصرة في اليمن وأكثر من احتفى وقدم للأعمال الإبداعية للجيل الجديد من المبدعين اليمنيين ليس في مجال فن الرواية فحسب, بل في مجال الشعر والقصة وفنون الإبداع المختلفة.. وسيدرك من يتهيأ له الاطلاع على شيء من تلك المقدمات مدى خصوبتها وثراءها المعرفي والنقدي, فمقدماته للأعمال الإبداعية وإن بدا في بعضها كما يقول: رقيقاً ومحباً ومجاملاً(27) إلا أنها بما أثارته من قضايا الجديد والقديم, وما أنتجته من معرفة نقدية وأدبية تمثل نقطة تحول في مسار الحركة الأدبية في اليمن.. ونظراً لضيق مساحة الدراسة وصعوبة استقراء كل ماكتب منها, يكون من المفيد الإشارة إلى أن إفرادها برسالة علمية أو دراسة جامعية هو أنسب الطرق وأسلمها لتقديم نظرية متكاملة عن منجزها النقدي وأبعادها المعرفية.. وسنكتفي فيما يخص التقديم الغيري للرواية اليمنية بقراءة ثلاث مقدمات تمثل مراحل مختلفة من تاريخ تطور الرواية اليمنية, فضلاً عن أن لها من الوفرة الورقية أكثر ما لغيرها مما جعلها تنتظم من الإشارات النقدية قدر ما تنتظم من التقريض، ومنها الأصلية التي صدرت بموازاة النص في طبعته الأولى واللاحقة التي صدرت مع الطبعة الثانية ,وفيها الموقع من لدن اسم محلي والموقع من اسم غير محلي وغير ذلك من المبررات المنهجية.. وأول تلك المقدمات مقدمة د.عبدالحميد إبراهيم لرواية الشهيد الزبيري «مأساة واق الواق» وهي تقريباً أطول مقدمة غيرية لرواية يمنية ظهرت رفقة الطبعة الثانية 1985 كمقدمة لاحقة لصدور الطبعة الأولى عام 1960, وعلى الرغم من طول المقدمة (15صفحة) إلا أنها تركزت حول قضية تأثر الزبيري بغيره ممن سبق وشيدوا مدناً فاضلة في كتبهم التي صورت رحلاتهم الخيالية إلى الدار الآخرة وتحديداً الشاعر الباكستاني «محمد إقبال» في كتابه (رسالة الخلود) أو (جاويد نامة).. واستئثار قضية التأثير والتأثر بمقدمة الرواية ليس إلا ترجمة لأهداف المقدم التي أعلن عنها في بداية خطابه المقدماتي.. وتمثلت في «الكشف عن فكر الزبيري, وعن أصالة ذلك الفكر والبحث عن مصادره»(28).. وهذه الأهداف لاشك أهداف طموحة ومشروعة تنم عن وضوح شخصية المقدم وعمق تفكيره واتساع آفاق رؤيته النقدية.. فسؤال التأثير والتأثر في الأعمال الإبداعية أو ما يطلق عليه حديثاً ب(التّناص) (Intertextuality) أو (التفاعل النصّي) سؤال غاية في الأهمية كونه يستحضر التجارب الإنسانية ويكشف تراكم الخبرة الفنية والمعرفية في بنية النصوص الأدبية.. وهو أعني التناص «التأثر» من مميزات النصوص في النظر النقدي الحديث, إذ لم يعد ينظر للنص كخبرة خاصة بمنتجه بل غدا كما تقول جوليا كريستيفا: «عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى»(29), بيد أن الخطاب الماثل أمامنا لم ينطلق من هذا الوعي ليستقصي التجارب السابقة والخبرات المكتنزة في رواية «مأساة واق الواق» كي يصل من خلال دراسة حضورها وقدرة النص على تمثلها والتفاعل معها إلى إنجاز هدفه المعلن وهو الكشف عن أصالة فكر الزبيري وخصوصية تجربته الإبداعية, فذلك مالم يتحقق لأن أصالة المبدع كما يفهم من هذا الخطاب تعني التفرد ووضوح الشخصية بعيداً عن أثر القراءات وتلاقح الأفكار(30).. ولأن مفهوم الأصالة لديه هو هذا فقد كرس نفسه لنفي أي تفاعل أو تعالق بين نص الزبيري «مأساة واق الواق» وبين نص محمد إقبال «رسالة الخلود».
ويبدو لي وقد أكون مخطئاً أن سعي المقدم لإثبات براءة «مأساة واق الواق» من التأثر ب«رسالة الخلود» لم يكن دافعه تصحيح واقع نقدي يرى عكس ذلك.. فلم يسبق لأحد من النقاد حسب علمي وقال بتأثر رواية الزبيري برواية إقبال فضلاً عن أن المقدم ذاته لم يذكر شيئاً من هذا القبيل.. وما نميل إليه هو أن قراءته لكلا النصين أفرزت في ذهنه جملة من الرؤى والتصورات بإمكانية وجود علاقة تأثير بين النصين.. ففضل بدلاً من البحث عما يعززها أن يؤسس لخطاب استباقي ينفي وجود أية صلة بينهما؛ كي يظل مطمئناً على نقاء فكر الزبيري وأصالة تجربته التي خطط لإثباتها له منذ دشن خطابه المقدماتي, ومايقوي هذه الظنون هو اعتماده أي المقدم على أسلوب الحدس والافتراض في إثبات رؤيته.
فمعرفته ببعض الحقائق التاريخية كإعجاب الزبيري بإقبال وترديد اسمه في شعره وكذا علاقته بسفير جمهورية مصر في باكستان الدكتور عبدالوهاب عزام المشهور بكتاباته حول إقبال وبترجمته لكثير من كتبه فضلاً عن أن باكستان بلد إقبال كانت الملجأ الآمن للزبيري من بطش الإمام إثر فشل ثورة 1948 (31).. كل هذا دفعه لتصور علاقة تأثير وتأثر بين إقبال والزبيري, وبأن رسالة الخلود ربما تكون أحد مصادر رواية «مأساة واق الواق» وشجعه على ذلك تشابه كثير من ظواهرهما الفنية.. فالصورة التي صورها إقبال للخائنين (جعفر البنغالي وصادق الركني) تشبه في فظاعتها صورة الإمام, وروح الهند التي تظهر لإقبال, تشبه روح لميس التي تنبري للزبيري بين السحب وهي تنشد الأشعار, وكلاهما أي إقبال والزبيري يلتقيان بجمال الدين الأفغاني ويطارحانه الحديث(32), ولأن هذه الحيثيات مبنية على التخمين والافتراض وليست قائمة على البحث والاستقصاء فقد سجلها الكاتب في طي مقدمته كي ينفذ من خلال تفكيكها إلى تدوين نتيجة مفادها صعوبة الجزم بوجود صلة بين العلمين «فالدليل المادي على وجود التأثير والتأثر غير متوافر. فلم نسمع الزبيري يتحدث عن رسالة إقبال, ولم تكن تلك الرسالة قد ترجمت إلى العربية حتى وفاة الزبيري, الذي كان يشكو وهو في باكستان من حاجز اللغة الذي حال بينه وبين التحدث مع الباكستانيين»(33) وفضلاً عن هذه الاستنتاجات ثمة حشد آخر من الأدلة والبراهين التي اشتغل عليها الكاتب ليثبت أن «الزبيري لم يتأثر بإقبال في روايته.. وإنما هي الحرارة والمعاناة بسبب مشكلات مواطنيه»(34).
وكل ماسبق يشجعنا على القول إن الخطاب المقدماتي في رواية «مأساة واق الواق» خطاب استباقي لا يكتفي بتفسير النص وفق معطياته الحالية وملابساته التاريخية, ولكنه يشتبك مع وقائع نقدية احتمالية يمكن أن تنتجها عملية المثاقفة واتساع دائرة الممارسات البحثية مستقبلاً وذلك بقصد توجيه التلقي والقراءات المستقبلية صوب الانطلاق من مفاهيم أصالة الرواية كمنتج محلي خالص وخال من شوائب الآخرين وإفرازاتهم سواء على مستوى فكرتها أو موضوعها أوتكنيكها الفني.
وبالرغم من أن هذا اللون من الخطابات المقدماتية يعد في نظر البعض إساءة متعمدة للنص(35) تحد من حرية القارئ وتلزمه برؤية قبلية من شأنها إضعاف تعدد التفسيرات والتأويلات التي تمنح النص الحياة والتجدد المستمر مع كل ممارسة قرائية؛ إلا أن له هنا وجهاً ايجابياً فحيثيات المقدم لنفي علاقة التأثير والتأثر بين نصي الزبيري وإقبال لا تشكل إطاراً مقنعاً يمكنه صرف النظر النقدي عن البحث والاستقصاء في هذه القضية بقدر ما تكنه من تساؤلات يمكنها أن تحفز الباحثين وتثير فضولهم لاستنطاق آفاق التعالق بين النصين الإبداعيين, ولو حدث ذلك وليس ثمة ما يمنع حدوثه ,خاصة والدراسات المشتغلة على التناص لا تزال في أوج شبابها فضلاً عن أن نجم الدراسات التي تستهويها المقارنة بين الإبداعات المتشابهة للشعوب المختلفة لم يأفل بعد إذا حدث ذلك يكون هذا التقديم قد خدم النص المقدم له مرتين, الأولى: حينما أبرز خصوصيته المحلية وفي ذلك رد غير مباشر لمن رأى أن إبداع الزبيري يخلو من الخصوصية المحلية(36).. والثانية: إذا ما أثارت حيثياته لنفي التفاعل بين نصي الزبيري وإقبال من الأسئلة مايدفع الباحثين لإثبات عكس ذلك ويعيد الرواية إلى منصة التداول النقدي والقراءات المنفتحة على كل الاحتمالات.
جدوى الخطاب المقدماتي
يدشن الشاعر عباس الديلمي مقدمته لرواية «طيف ولاية» للروائية عزيزة عبدالله بالتساؤل عن جدوى كتابة المقدمات وأهميتها في الأعمال الإبداعية عموماً قائلاً: «هل يحتاج الكتاب إلى مقدمة»(37) وحيرة الديلمي وتردده إزاء جدوى المقدمات وليد قناعة مسبقة لديه بأن «الكتاب مولود جديد وربما أنه كذلك لدى المؤلفين فماذا يحتاج إذن»(38)، وحسب هذه القناعة فان المولود الجديد لا يحتاج لمن يعرف به أكثر من حاجته إلى اسم يدل على شخصيته وبعدها هو من سيقول للناس من هو أو هو من سيعرف بنفسه(39) ومن هذا المنطلق لا يخفي عباس الديلمي تبرمه من كتابة المقدمات, بل ويعتبرها كذلك الثرثار الثقيل الظل.. الذي يحول بينك وبين ما تريد النظر إليه مباشرة.. أو يراك متجهاً إلى صالة الطعام فيمسك بك ويأخذك جانباً ليحدثك عما حوته المائدة وكيف تم إعدادها(40).. ورؤية كهذه لاشك لها أهميتها لأنها تكشف جانباً مما يحبذه المبدع إزاء التعامل مع منتجه الإبداعي.. ف«عباس الديلمي» مبدع مشهور عرف بكونه شاعراً وليس ناقداً ومن ثم فهو يفضل أن يلتقي قارئه مباشرة في فضاء النص دونما واسطة أو إعاقة من أحد شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين إلا أن الوضع يختلف مع الناشئة فهم بأمس الحاجة إلى من يعرفهم إلى الجمهور ويشجع محاولاتهم الإبداعية.. ومادامت المقدمات غير ذات جدوى في نظر الشاعر فلماذا كتب المقدمة التي نحن بصددها؟ يستطرد الديلمي فيعترف أن صاحبة الرواية استكتبته وطلبت منه تقديم روايتها(41). ومعلوم أن تلبية الدعوة يظهر حسن احترام وتقدير الداعي ويلزم المدعو في الوقت ذاته بواجبات الضيف وآدابه حتى لو تعارضت وسلوكياته المعتادة.. وهذا يضعنا إزاء مقدم يرى نفسه ضيفاً على الرواية وليس ناقداً أو قارئاً لها.. ولذا يرفض أن يعد ما كتبه مقدمة أو تعريفاً بالرواية أو بصاحبتها.. مع أن مقدمته لم تخل من التعريف بالكاتبة والزعامة القبلية والدور النضالي لعشيرتها أسرة أبي لحوم وكذا الدور النضالي لزوجها محسن العيني رئيس الوزراء الأسبق, فضلاً عن التنبيه إلى بعض الإشارات الفنية التي تكتنزها الرواية(42), بيد أنه كان في كل ماكتب ملتزماً أيما التزام بآداب الضيف, متفادياً الخوض في أية قضية نقدية يمكن أن يصل من خلالها إلى خلاصات قد تزعج المضيف ولا ترضيه أو قد ترسم صورة مهتزة ومشوشة للرواية منذ بدايتها.
وفي مقابل هذا الخطاب الذي يقرر عدم جدوى المقدمات كي يتفادى الخوض في قضايا ينبني عليها أحكام قيمة, ثمة خطاب آخر لا يتجاهل أهمية المقدمات بل ويعدها من أسس الفهم العميق للأعمال الإبداعية, وعلى هذا فهو يحاور ما أمكنه من متعلقات النص وقضاياه المختلفة محللاً ومفسراً وناقداً مع احتفاظه بروح التعاطف مع النص وصاحبه.. وهذا الوعي يطالعنا به فضل النقيب مقدم رواية «الناقلة بلو أوشنز» ل«علي محمد الزريقي» حيث يبدأ خطابه بالإشارة إلى أهمية المقدمة وكذا أهمية الرواية قائلاً: «هذه مقدمة لابد منها للفهم العميق لعمله الذي بين أيدينا والمعنون «فصول من رواية يمنية مفتوحة ذلك أن مدار هذا العمل وفحواه إدانة صريحة ومباشرة للشمولية السياسية والقهر الاجتماعي والتخريب النفسي والتدمير الاقتصادي وتحويل الحياة إلى كابوس والناس إلى أشباح والوطن إلى ساحة مطاردة للصيد والقتل»(43).. ويذكر النقيب أن أحداث الرواية دارت في مدينة عدن في فترة السبعينيات التي شهدت انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان نزح على إثرها الآلاف من الكوادر منهم الزريقي صاحب الرواية(44)، والكشف عن موضوع الرواية ومكان وزمان أحداثها لا يشكل جديداً في هذا التقديم فذلك ما ألفيناه في الخطابات التقليدية, بيد أن الجديد في مقدمة النقيب هو أن كشفه لموضوع الرواية وزمانها والفضاء الذي دارت فيه أحداثها لم يكن إلا وسيلة توصل بها للكشف عن قيمة الرواية وأهميتها, إذ يرى أن الأحداث التي قصتها الرواية وهي أحداث واقعية قد أحدثت شرخاً نفسياً لإنسان ذلك الزمن مازال يعاني آثاره النفسية والأخلاقية والعقلية حتى الآن(45), وعلاج تلك الآثار النفسية برأيه يكمن في التوصيف الدقيق والموضوعي والقراءة المتأنية والهادئة لتلك الأيام والأحداث, وهذه المهمة الشاقة هي ما حاولت رواية الزريقي أن تنهض بها(46).. وكي لايتهم النقيب بإطلاق أحكامه جزافاً فقد عمد إلى استدعاء ماحدث لبطل الرواية من اختطاف وتغييب وما أصاب عائلته من خوف وترويع ومأساة(47)، بل إن استصحاب الدليل يبدو سجية حرص عليها النقيب في أغلب أحكامه النقدية التي أودعها هذه المقدمة.. فعندما يصف الرواية بأنها شهادة على التاريخ, يعلل ذلك بأنها توثق للكثير من الضحايا بأسمائهم الحقيقة(48) ويعلل انحيازه وتقديره لصاحب الرواية بأنه إنسان حضاري واسع الأفق بعيد عن التعصب وقريب من الفطرة ...إلخ(49) ومع كل هذا الانحياز للروائي والرواية وهو انحياز مبرر فانه أي المقدم وفي سياق حديثه عن أسلوب الكاتب يعترف «أن الزريقي ليس روائياً محترفاً ولكنه احتال لإيجاد شكل مقبول وبسيط وممتد ليقول كلاماً لايستطيعه في مقالة أو كتاب نظري وقاله هنا بلغة حياتية فصيحة, لاهي بالمتقعرة ولاهي بالسوقية وإنما هي بين ذلك قواماً»(50) وهكذا يضعنا خطاب النقيب أمام جملة من الأحكام والإشارات نحسبها مهما اختلفنا في دقتها وموضوعيتها تنظمه في سلك الخطابات التي تقدم معرفة نقدية عن النصوص التي قدمتها للقارئ.
وتأسيساً على ماسبق يمكن القول إن خطاب المقدمات من أهم عتبات النصوص ومداخل قراءتها.. فالمقدمات من النصوص التمهيدية التي قد يعول عليها الكاتب كثيراً في جذب قارئه أو في التأثير عليه أو في الإيعاز له باستراتيجيته الخاصة.. وهو مايمكنها من أن تقدم وعياً معرفياً أياً كانت قيمته من شأنه أن يضيء بعضاً من الجوانب المعتمة في النص الإبداع.. وخطاب المقدمات في الرواية اليمنية لا يخرج إجمالاً عن هذه الوظيفة المركزية، سواء في سياق خطاباته الذاتية أو الغيرية.. بيد أن الخطابات الغيرية أظهرت كفاءة على إنتاج معرفية نقدية أكثر من الخطابات الذاتية مع ما شابها من الانطباعية والتأثرية كون أغلبها كتب بطلب من كاتبي الروايات.. وقد تراوحت وظائف هذا الخطاب بين التعريف بالنصوص الإبداعية وكذا التعريف بأصحابها بينما اقترب بعضها من مكونات النص وعناصره المختلفة محللاً ومفسراً وشارحاً.
ولاتدعي الدراسة أن هذه الاستنتاجات هي أحكام تعميمية بل هي وجهة نظر قابلة للجدل والحوار ولها من احتمالات الذاتية قدر ماتحمل من الموضوعية.. وعزاؤها إن كان ثمة خطل في رؤيتها أو منهجها النقدي أنها طرقت الباب ولفتت الانتباه إلى حقل من حقول المعرفة والنقد هو غائب فعلاً عن اهتمام الباحثين ونقاد الأدب اليمني.
الهوامش
27 - د.عبدالعزيز المقالح, من البيت إلى القصيدة, دار الآداب, بيروت, 1983, ص2.
28 - محمد محمود الزبيري, مأساة واق الواق, دار الكلمة, صنعاء , ط2, 985 , ص5 .
29 - د.عبدالله محمد الغذامي: الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر, النادي الأدبي الثقافي, جدة, 1985- ص322 وينظر: مصدره.
30 - ينظر:محمد محمود الزبيري ,ص14.
31 - ينظر: نفسه, ص 11ومابعدها .
32 - ينظر: نفسه , ص13. 33 - نفسه, ص14.
34 - نفسه, ص14.ومابعدها.
35 - ينظر: ص2ومابعدهامن هذه الدراسة.
36 - عبدالله البردوني, أدبنا في عشرين عاماً, العدد الأول من مجلة الحكمة .ينظر: حيدر محمود غيلان, البردوني ناقداً, إصدارات وزارة الثقافة والسياحة, 2004 , ص163.
37 - عزيزة عبدالله , طيف ولاية , مطابع دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة , صنعاء , د.ت , ص5 .
38 - نفسه, ص5 . 39 - نفسه, ص5 .
40 - نفسه, ص5 . 41 - نفسه, ص6 .
42 - نفسه, ص7,8,9 .
43 - علي محمد الزريقي , الناقلة بلو أوشنز, إصدارات وزارة الثقافة والسياحة , صنعاء , 2004, ص5.
44 - نفسه, ص6. 45 - نفسه, ص6.
46 - نفسه, ص6. 47 - نفسه, ص6,7.
48 - نفسه, ص7. 49 - نفسه, ص5. 50 - نفسه, ص9. س


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.