منذ سقوط الخلافة عام 1924 على يد أتتاتورك، دخلت الأمة مرحلت التّيه والضياع، ووقعت فريسة الاستعمار الغربي، الذى أتى على كيان الأمة، فتقاسمتها قوى الغرب من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، في موجة صليبية جديدة، محاولةً استنزاف ثروات الأمة وطمس هويتها، وتغريبها عن دينها، فبكاها شوقي في رائعته: ضجَّت عليكِ مآذنٌ ومنابرُ وبكَتْ عليكِ مَمالكٌ ونواح الهندُ والهةٌ، ومصر حزينة تبكي عليك بمدمعٍ سحَّاحِ وبعدها بعام 1925 ظهر الشيخ علي عبد الرازاق في كتابة «الإسلام وأصول الحكم» الذي يزعم فيه، في أول سابقة في تاريخ الإسلام منذ بدء الرسالة بأنّ «الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالحكومة والسياسة الدنيوية، وعمارة الكون وتنظيم المجتمعات. وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة! ولم يرأس حكومة! ولم يؤسس مجتمعاً! ولم يدعُ إلى شيء من ذلك، بل كان رسولاً فقط، ما عليه إلاّ البلاغ!» حتى صدق به قول شوقي: أفتى خُزعبلةً، وقال ضلالةً وأتى بكفر في البلادِ بواحِ وتزامن مع هذا موجات من التبشير بالنموذج الغربي، والتنفير من الإسلام، واعتباره سبب تخلف الأمة، وكثر الناعقون بالخراب، الذي تنبأ به شوقي بحسه المرهف مدركا حجم المصيبة التي أصيبت بها الأمة فقال: فَلَتَسمعَنَّ بكلِّ أرضٍ داعياً يدعو إلى الكذّاب والسَّجَاحِ وَلَتشهَدَّنَّ بكلِّ أرضٍ فِتنةً فيها يُباعُ الدِّين بيعَ سماحِ يُفْتَى على ذهبِ المعزِّ وسيفه وهوى النفوس، وحقدها المِلحَاحِ في هذه اللحظ المفصلية من تاريخ الأمة قام الإمام حسن البنا رحمه الله ليؤسس جماعة الإخوان المسلمين 1928، مع خمسة من إخوانه، ويصف لنا حالهم حينها: «وليس يعلم إلاّ الله كم من الليالي كنّا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونُحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حدِّ البكاء! وكم كنّا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة، والخليُّون هاجعون يتسكعون بين المقاهي، ويترددون على أندية الفساد والإتلاف». وقف رحمه الله ليذود عن الحمى، ويدفع الشبهات، ويبطل الكيد، ويؤسس للفهم الشامل للإسلام، كما أنزل على محمد، وكما أراده الله لا كما أراده المدلّسون: «الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف». وقال أيضا: «الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء». وقف الإمام وجماعته يواجهون عدوان الخارج «الاستعمار»، وكيد الداخل «التغريبيين»، وجهل العامة وفقرهم، وانحراف أو اختلال تصور الإسلام لدى الهيئات والمؤسسات والجمعيات القائمة، فأقاموا المساجد والمدارس وشيدوا المصانع وثقّفوا الفلاحين، وأسسوا الصحف، وصاروا رقما صعبا في المشهد. تنبَّه الغرب لخطورة هذه الجماعة، وأدركوا أنّها العقيبة الوحيدة في طريق مخططاته، خاصة بعد انخراطها في المقاومة الشعبية ضد الإنجليز في القنال، ثم في فلسطين، ثم دعمها لكل الثورة العربية ضد الاستعمار في المغرب العربي، فتآمروا عليها، وقرروا ضربها وتشويهها، ومسح أثرها في الحياة السياسية، حيث أقرّ وكيل وزارة الداخلية بنفسه للأستاذ المرشد أنّ مذكرة قُدّمت لرئيس الوزراء النقراشي من سفراء إنجلترا وفرنسا والقائم بأعمال سفارة أمريكا، بعد أن اجتمعوا في مدينة فايد قرب الإسماعلية في العاشر من تشرين الثاني 1948 بحل الجماعة، والإخوان يخوضون حينها معركة التبَّة 86 في فلسطين، والتي سماها الجيش تبة الإخوان، فتمَّ اغتيال حسن البنا عام 1949، وزُجَّ الإخوان في السجون، وتمّت تصفية الكثير من قياداتهم في المعتقلات. ثم دارت الدائرة عليهم على يد عبد الناصر الذي وصل على أكتافهم للحكم، بانقلابه على ملكية فاروق، ووجّه له ضربتان غادرتان في عهد القوميات التي أدرات ظهرها للمشروع الأسلامي، وانحرف بعيدا عن مسار الأمة وأمجادها، فزجّ بالإخوان في السجون عام 1954، وأعدم عددا من قادتهم، نتيجة لمطالبتهم له بالعودة للثكات وتسليم الحكم لسلطة مدنية فأعدم عددا منهم أحدهم محمد فرغلي المرشح لرئاسة الأزهار، ثم كرر تصفيتهم واعتقالهم مرة أخرى بمسرحية محاولة اغتياله في المنشية عام 1966 وكان على قائمة المعدمين سيد قطب رحمه الله، وقضى الآخرون 10- 20 عاما من أعمارهم في السجون ومن ضمنهم مرشدي الإخوان محمد مهدي عاكف، ومحمد بديع. ثم جاء العهد الساداتي واللامباركي الذي مضت فيه سنة الاعتقال والقتل داخل السجون بذرائع واهية كالانتحار كما حصل مع الشيخ كمال السنانيري عام 1985، أيام مبارك بعد أن كان قضى 20 سنة في السجن بعد سيد قطب. هذه سيرة هذه الجماعة باختصار، وها هم أعلامها، وهذه صفحة نضالهم ما زالت مستمرة، وما زالوا يحملون الراية، ويعضون على الجراح فداءً للأمة، ويبذلون النفوس من جديد على يد العسكر في ساحات ثورة الحرية، في رابعة والنهضة ورمسيس ومحافظات مصر، بعد أن اختطفها فلول مبارك وطراطير العرب، ويُجابهون نفس الأعداء والعملاء، وحثالة الفساد، من التغريبيين، ليبراليين وعلمانيين، ومعهم نخب القومية واليسار للأسف. هذه هي الجماعة التي ما زالت وستبقى أمل الأمة، وحامية الإسلام، والغُصَّة في حلوق أعدائه، يشهد لها تاريخها، ويشهد لها المخلصون من أبناء الأمة بالحق، حتى قال فيها علي عزت بيجوفيتش رئيس البوسنة السابق: «لولا الإخوان لضاعت البوسنة والهرسك». هذه الجماعة اليوم تتعرض لحرب قذرة، ومحاولة إبادة، وجهد محموم للتشويه والإقصاء، وهي التي ما طلبت مالا، ولا عرضا من الدينا، ولو أرادت لنالت ما أرادت، لكنها آثرت الله والإسلام والحق، حتى قيل فيها ما روي عن بوش في حق خالد مشعل: «مشكلتنا معكم أنّه ليس لكم ثمن!» هذه الجماعة التي قضى قادتها في السجون نصف أعمارهم، ومكثوا وراء القضبان أكثر ممّا قضوه خارجها، تجتهد اليوم أجهزة الإعلام الفاجرة والمخابرات العميلة للموساد والسي أي أيه، والجيوش والأجهزة الأمنية المختطفة من زمر الفساد والعفن، ومال النفط وسياسته، يجتمعون حزبا واحدا شعارهم: «أخرجوهم من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون» هذه الجماعة لن يخذلها الله، ولن تسفطها، الأمة، ولن تركع لغير الله، وإنّها على موعد مع نصر الله وتمكينه رغم أنوف أعدائه وأعدائهم، ذلك قول الله في ذروة الأزمة والرغبة المهووسة للإخراج والتصفية: «فأنجيناه وأهله أجمعين إلاّ عجوزا في الغابرين». عجوزكم يا أعداء الله هالكة، ونحن ناجون بأمتنا وديننا ومشروعنا، بإذن الله، وأنوف مرغمة وكيد باطل، وباطل زاهق: «ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا». [email protected]