إذا جلستَ، على سبيل الصدفة، إلى مجموعة من الأطباء المرموقين في اليمن وخطر لك أن تتلفظ بمجرّد اسم وزير الصحة الحالي، فإن أكثر ما سيدهشك ليس فقط رفض الموجودين لحضور اسمِه وإنما الأقسى هو كم العُنف المُزاح تجاه الوزير في تعليقاتهم. لو تريّثت قليلاً، استمعتْ لتعليقاتهم التي غالباً ما تكون مختصرة ودقيقة، فستعرف أن كثيراً من الحق يقف إلى جانِبِهم. سيقول الوزير عنهم: هؤلاء أعداء النجاح، بينما سيكركرون بقسوة وهم يتساءلون كعادتهم: ضع سبّابتك الناعمة على هذا النجاح، لو سمحت. في الحرب السادسة (هيَ كانت السادسة وإلا السابعة يا جماعة؟ الواحد تعِب من عدْ الحروب في اليمن) تحدث معالي وزير الصحة إلى وسائل الإعلام عن خطته العبقرية لاحتواء مشاكل النازحين والضحايا على الصعيد الصحّي: أؤكّد لكم أن الوزارة لن تمنع وصول أي قافلة تبرّعات إلى النازحين. يا عيني عليك، منتهى الحكمة والصلابة، وغاية السعي الدؤوب لمصلحة البشر في نسختهم اليمنية. كانت هذه هي خطة الإنقاذ التي دشّنها وزير الصحة: لن نمنع القوافِل. وطبعاً هو لم يكُن بمقدورِه أن يمنع القوافل، فهو ليس أبا بصير عليه السلام، كما أن مسؤولي منظمة الصحّة العالميّة ليسوا من سلالة أبي سفيان وهند بنت عُتبة! قبل أقل من أسبوعين نشرت وسائل الإعلام الرسمية قصّة جديدة – قديمة: إحالة ملف فساد هيئة مستشفى الثورة إلى نيابة الأموال العامة. الفساد المُشار إليه تجاوز الرقم 880 مليون ريال يمني، عن عامٍ واحد. لم تشر الهيئة إلى اسم وزير الصحّة، بالرغم من كونِه المسؤول الأول عن شؤون الصحّة في اليمن. وفي الجانِب الآخر: كان وزير الصحّة يصرخ بكل ثقة في وجه بعض أعضاء هيئة مكافحة الفساد «أنا مرشّح لمنصب دولي». موضوع الترشيح للمنصب الدولي يشبه اشتراك منتخب اليمن في البطولات الخارجية. الحدثان قُصدَ من خلالهما دفع الجانب اليمني إلى «الاحتكاك» مع الآخر العربي، والدولي، وليس منافسته. بخصوص وزير الصحّة، لا أعرِف إلى الآن ما إذا كان قد نال الاحتكاك الكافي ( يُسمى في لغة الفلاحين: الصقل، بالرغم من أن الفلاحين لا يستخدمون هذه المفردة بالمرّة). كان رئيس الجمهورية هادئاً في مجلسِه المُعتاد. اقترح أحدُهم ترشيح شخصية يمنيّة إلى منصب الممثل الإقليمي لمنظمة الصحّة العالمية. راقت الفكرة للسيد الرئيس، فمن المناسب أن يُشار إلى اسم اليمن في هذه الظروف الميلانخولية بحسبانها لا تزال دولة متماسكة، وحتى أنها قادرة على أن تفكر على مستوى إقليمي ودولي، وأن بمقدورِ اسمها أن يرتبط بشؤون لا علاقة لها بالقاعدة والانهيارات البشرية. طُرِح اسم السيد وزير الصحّة فوافق عليه السيد الرئيس فوراً. لم يكن الحاضرون ينظرون إلى فرص نجاحه، فهم يعلمون أنها منعدمة تماماً لأسباب سنشير إليها لاحقاً. فقط كانت أعينُهم تتجه صوب تكتيك سياسي مهمته الأساسية تشتيت أنظار الخارج عن بؤر التوتر في اليمن تجاه بؤر عالية الرمزية الإيجابية. ولمعلوماتكم الخاصّة: قررت وكالة رويترز مؤخّراً منح مراسليها في اليمن بدل مخاطر مساوٍ تماماً لبدلات المخاطر التي تدفعها لمراسليها في أفغانستان والعراق. وبحسب صحفي مرموق فإن على مراسلي رويترز في اليمن أن يتحدثوا عن جسامة المخاطر التي يواجهونها في اليمن، على الأقل: لكي يضمنوا بقاء بدلات السفر المرتفعة. ذاتَ مرّة كان مسؤول أجنبي رفيع في صنعاء يتحدث إلى مجموعة مصغّرة من الصحفيين. حدث هذا قبل عام ونصف تقريباً. قال لهم الأجنبي، صاحب الظل الطويل: ستُحال مجموعة كبيرة من الموظفين الكِبار إلى هيئة مكافحة الفساد. أضاف المسؤول الأجنبي: على رأسِهم وزير الصحّة. تحدّث أيضاً عن ملاحظات خارجية مستمّرة حول أداء وزارة الصحّة، وأن القيادة السياسية في اليمن اقتنعت بفكرة إحالة مسؤولي الوزارة، بمن فيهم الوزير، إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. يمكن أن نلصق هذه القصة الموثوقة بتلك القصة المضحكة حول ترشّح وزير الصحّة لمنصب دولي لكي نتعرف - عن قُرب- على فرص معالي الوزير في الفوز بمنصب أممي على مستوى: منظمة الصحة العالميّة. ثمّة سؤال بدائي: لماذا إذن لم يُحَل وزير الصحّة حتى الآن إلى أي جهة قانونية؟ الجواب يبدو لي أسطوريّاً محضاً، أسوقه من فيلم «المُجالِد Gladiator» بطولة راسل كرو. يقف الابن الوحيد للملك الروماني ماركوس أوريليوس أمام والده المكتهل، قبل أن يقتله بيديه. يقول له بصوتٍ يفتعل الانكسار والحزن: أعرفُ يا أبتاهُ أنك لا تحبني، وأنّك تفضّل عليّ القائد ماكسيموس لأنني ارتكبتُ أخطاء كثيرة. فيرُد عليه الأب: your mistakes as a son are my mistakes as a father. بمعنى: إن خطاياك كولد هي أيضاً خطاياي كأبِ لك. هل يمكن اعتبار هذا التأويل كافياً، ولو إلى حدّ ما؟. في صحيفة «الوسط»، العدد الأخير، تحدّث وزير التعليم العالي باصرّة عن وزارة الصحّة. كان مندهشاً، إذ كيف يسمع وزير الصحة عن الملاريا وحمّى الضنك وخلافهما تفترس البسطاء في حضرموت، ثم لا يفكّر حتى بمجرّد زيارة بسيطة لن تكلّفه أكثر من خمسين دقيقة عبر الطائرة. على الأقل لترضية الخواطِر، لكي يقتنع الناسُ في حضرموت- ولو بالإيماء- أن صنعاء تُعنى بشؤون حضرموت غير الريعية. طبعاً، سبق أن ذكرت مطبوعات إعلامية عديدة في السابق أن وزير الصحّة يخزّن ب500$ في اليوم الواحِد. ويبدو أن باصرّة كان يضع هذا الأمر في الحُسبان. فقد قال مستدركاً: يمكن للوزير أن يسافر إلى حضرموت في الصباح ويعود إلى صنعاء في الظهر. برافوا سيد باصرّة، يعني تخزينة الوزير مضمونة بإذن واحد أحد، جبّار منتقم. وبالنسبة لوزير الصحّة، خلاص بقى ما بقاش في عندك عذر! لماذا نتحدّث عن وزير الصحّة الآن؟ ببساطة: أنا لا أتحدث عن وزير الصحّة بحسبانه السيد راصع، بل أتحدّث عن السيد راصع باعتباره وزير الصحّة. وكما قال مقوّت يساري سابق: اللي ما يشتيناش نتكلم عنّه يروح يرقد في بيته، ويخلي المناصب العامة لأصحابها. طيّب كويس: نشر موقع «عدن برِس» قبل حوالي 8 أشهر أن سفارة عُمَان تبرّعت بمبلغ 5 ملايين دولار لقاءَ ترميم مستشفى الصداقة ومستشفى الجمهورية في عدن. وبحسب الموقع فإن دولاراً واحِداً لم يُنفق، إذ جرى ترحيل الأموال إلى صنعاء. لم يتحدّث الموقع عن تلك الأماكن التي انتقلت إليها الأموال، لكنه زوّد المتصفّحين بصور حديثة عن مستشفى الجمهورية وهو يرفِل في واحدة من أسوأ حُلل الدُّنيا. تحدّث الموقع عن خيبة أمل فاقعة أصابت مسؤولي السفارة العُمانية، ولم يُشر إلى وزير الصحّة. وسواءً أكانت هذه المعلومة دقيقة أم مختلقة، فإن المؤكّد أن وزير الصحّة لا يعلم عنها شيئاً. وربما إنه لا يعلم الشيء الكثير عن مستشفى الصداقة أو الجمهورية في عدن. ما الذي يمكن أن يفعله وزير الصحّة؟ أشرتُ في أعلى المقالة إلى أن السيد الوزير لا يحظى بأي بادرة تقدير من قبل أغلبية الطاقم الطبي في الوزارة وفي الجامعات. وغنيّ عن الذّكر: ولا من قبل المواطنين. خذوا هذه القصة: في يوم الجمعة الفائتة هاتفني زميل، طبيب، من الحُديدة. قال: يأتي الفقراء إلى عيادتي من أقاصي الحُديدة، لا يملكون حتى تعرفة الكشف الطبّي. وعندما أسألهم: لماذا إذن لا تتجهون إلى المستشفيات الحكومية، مثل العُلفي أو الثورة، أسمع إجابات مرعبة. حدّثني عن نماذج أسطورية حول مستشفيات الحُديدة الحكومية، لن أسردها هُنا وسأكتفي بالقول: إن الزبيري ذاته لم يفطن لها في روايته عن بلدة «واق الواق». وأضيف سؤالاً أخلاقياً وقانونياً: متى كانت آخر مرّة زار فيها وزير الصحّة مستشفيات الحُديدة؟ أقصِد الزيارة الحقيقية والتقريرية، تلك الزيارة التي تحدث تحولاً دراماتيكيّاً في قواعد وأسس المستشفى؟ خلونا نكون عاقلين شوية ونسأل الوزير: كم مرّة مررت من أمام مستشفى العُلفي في الحديدة؟. عندما سقطت أسوار الملعب الرياضي في إب على أجسام المحتشدين، في مهرجان الرئيس الانتخابي المعلوم، اتجه السيد الرئيس إلى مستشفى الثورة في إب. في المستشفى لمس السيد الرئيس بيديه الموت وخراب الدّيار. فقد كان المستشفى يفتقر إلى كل شيء تقريباً، باستثناء المرضى. تحدثت مطبوعات إعلامية عديدة آنئذٍ عن السيد الرئيس الذي أبدى امتعاضه، وقيل غضبه، وفي رواية ثالثةٍ: حزنه الشديد، بسبب ما آل إليه مستشفى الثورة في إب. وبعد خروجه من المستشفى انشغلت وسائل الإعلام الرسمية بقصة مختلفة: لقد قررت الرئاسة منح درجة «شهيد» لكل روح فارقت الحياة في ستاد مدينة إب. ولتحديد نوع الشهادة، فللجنّة أبواب ثمانية كما نعلم، فقد قرّرت الرئاسة إضافة كلمة: الوفاء. وهكذا أصبح لدى الجنة باب تاسع اسمه: باب شهداء الوفاء. موضوع مهمٌ غاب عن الحكاية برمّتها: وزير الصحّة. وبدلاً من بناء باب تاسع للجنة على نفقة الرئاسة، وتنفيذ صحيفة «الثورة»، كان الأجدى أن يُستحضر وزير الصحّة كما تستحضر العفاريت، وأن يُسأل عمّا يفعل بالمنقلة والفرجال! قبل أيّام كنتُ في صحبة مدير تحرير صحيفة «الصحوة». ودون أن يرفع نظره إليّ قال لي: اقرأ هذا الملف. في الصفحة الأولى من ذلك التقرير المُهِم: وزير الصحة يمنح الدكتور فُلان، المتّهم في قضية فساد كبيرة في بنك الدم، منحة للدراسة في الخارج. تهريب يعني! صدّقوني لو أردنا أن نتحدث عن قصص وزارة الصحّة فلن ننتهي قبل خليجي 2030. ويكفي أن يلخص المشهد الصحّي في اليمن في جملة وردت في صحيفة «الثورة» على لسان المستشار الطبي لسفارتنا في مصر، نجل مدير مكتب السيد الرئيس: يصل مصر سنويّاً 250 ألف مريض يمني. ومع أن هذا الرقم يحمل دلالة مخيفة أشد قسوة من تنظيم القاعدة وبقعة الزيت المكسيكية وإعصار غونو، وخروج إيطاليا من الدور الأوّل، إلا أن أحداً في القيادة التي لا تقود البلد لم يفكّر في سؤال وزير الصحّة على نحو عاجل أو بطيء حول هذه المعلومة ومدى دقتها، ليبدأ مشوار الحفر الأركيولوجي في وزارة الصحّة، في شأن الصحة العام الذي كان أحد أهم يافطات الثورة ضد الحكم الإمامي البائد. على وزير الصحّة أن يعلم هذه الحقائق: إن تدمير مستشفى الثورة يعني قتل الثورة نفسها، وإن تدمير مستشفى الجمهورية يعني الانقلاب على الجمهورية، وإن تدمير مستشفى العُلُفي يعني قتل العُلفي ومن خلفه كل الثوّار، وإن تشريد المرضى في المطارات لا يعني سوى التآمر على الإنسان اليمني وعلى التاريخ اليمني وعلى الكبرياء الوطنية التي تعيش في هذه الساعة أكثر مراحلها انحطاطاً. أمّا الآن، وقد أصبحت الحقائق أعلاه جليّة وواضحة أمام السيد الوزير، فهل نتوقّع أن نسمع تهديداً صارماً من قبل «أبناء الثوار» يحذّر السيد الوزير من القتل الرمزي المتعمّد لآبائهم الشهداء؟ وهذه الأخيرة قصة لا تقل تراجيكوميدية عن قصة الوزراة ذاتها.