في العشرة الأيام الماضية تنقلت بين حضرموتوأبينوعدن التي احتضنت في العقد الأخير ما يسمى عناصر تنظيم القاعدة؛ في حين كان يطلق عليهم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين «مجاهدي أفغانستان». خلال زيارتي حرصت على البحث عن تلك الحلقة التي تربط الجيلين بعضمها ببعض، عن تلك الأحلام التي تعتري كيانهم النحيل بأن يكونوا ضمن جيش قوامه اثنا عشر ألف مقاتل.
«المصدر أونلاين» يحاول في السطور التالية كشف الاستراتيجية الجديدة لتنظيم القاعدة، وعن الأسباب التي دفعت عناصره إلى التمركز في كور العوالق، ويفتح باباً للنقاش حول ما يمكن تسميته «التكوينات الثلاثة لتنظيم القاعدة»، كما يستعرض هذا التحقيق نماذج لضحايا أجهزة المخابرات... إلى التفاصيل:
القاعدة: بين أتباع بن لادن والقمش وأوباما أثناء الزيارة الميدانية، قدم البعض تساؤلات عميقة على شاكلة: كل العناصر القيادية لتنظيم القاعدة في اليمن تم الإفراج عنهم مسبقاً من سجن غوانتانامو!
لم تقم عناصر القاعدة في اليمن بقتل رعايا أمريكيين!
لم تتعرض القواعد الأمريكية في دول الخليج لأي استهداف من قبل عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
لم يقم الطيران الأمريكي منذ حادثة اغتياله لقائد التنظيم السابق أبو علي الحارثي، باستهداف واغتيال ناصر الوحيشي الزعيم الحالي للتنظيم منذ أن أفرجت عنه السلطات الأمريكية من سجن غوانتانامو.
بعد الإفراج عن ناصر الوحيشي والسعودي سعيد الشهري من سجن غوانتانامو تمكن الرجلان من توحيد القاعدة في اليمن والسعودية، وتولى الأول القيادة والثاني حل نائباً له.
ما سر صمت الأمريكان تجاه الوحيشي والشهري وحديثهم المفرط تجاه الداعية أنور العولقي، ولماذا يروج الأمريكان بأن العولقي هو زعيم القاعدة.
من جهة أخرى.. لماذا أفرجت السلطات اليمنية في العام الماضي 2009م عن 175 من أعضاء تنظيم القاعدة؟
لماذا تقوم أجهزة المخابرات اليمنية باعتقال أشخاص ليسوا على علاقة مباشرة بتنظيم القاعدة ومن ثم تقوم بالإفراج عنهم أو تقديمهم للمحاكمة التي يتم فيها تبرئتهم، في حين تغض الطرف عن العناصر الفعليين لتنظيم القاعدة؟
لماذا تنحصر العقوبات القضائية على سجن أعضاء تنظيم القاعدة من عامين إلى ثلاث أعوام فقط؟
لماذا تم الإفراج عن أبو بكر جعيول المتهم في قضية تفجير السفارة البريطانية بصنعاء، والمحكوم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً مع النفاذ ودفع غرامة مالية مقدارها عشرين مليون ريال؟ ومن الجهة التي تولت دفع الغرامة المالية المحكومة بها قضائياً لصالح السفارة البريطانية؟
ما سبب كل تلك الانتكاسات والإخفاقات الأمنية المتمثلة في تلك التصريحات المنسوبة لمصدر أمني يكشف فيه عن تنفيذ الأمن لعملية استباقية تسفر عن مقتل عدد من رموز القاعدة، وبتبجح تسرد أسماءهم تباعاً، وبعد أيام تنفي القاعدة ذلك؟ ولكن الأهم من ذلك هو أننا نريد معرفة لمن تكون تلك الجثث المتفحمة، أم إن الأمر لا يعني أجهزتنا الأمنية.
لماذا لا تكشف أجهزة المخابرات اليمنية عن جواسيس القاعدة المندسة في كياناتها المخابراتية؟
باختصار.. نحن أمام ثلاثة تنظيمات للقاعدة؛ الأول يتبع بن لادن، والثاني يتبع القمش، والأخير يقوده أوباما "السي آي إيه" المخابرات الأمريكية.
استراتيجية القاعدة جنوباً بعيد إعلان قيام الوحدة بين الشطرين، ذهبت برفقة والدي لزيارة ما كان يسمى حينها بالعاصمة الاقتصادية والتجارية عدن، وفي طريقنا إليها توقفنا في "الحوطة" عاصمة محافظة لحج لأداء الصلاة. لا زلت أتذكر ذلك اليوم جيداً، فحينها همس والدي في أذني ودفع بي لإلقاء حديث نبوي عقب صلاة العشاء على جموع المصلين.
لحظات ويصافحني العديد منهم، ويلتفون حولي لأسمعهم حديث الأعمال بالنيات مرة أخرى، كنت حينها في العاشرة من العمر، لكني أدركت تلك الحماسة التي كانت تعتريهم!
حماسة أودت بالبعض منهم ليلف اليوم حول خاصرته حزاماً ناسفاً، فيما صار البعض الآخر في نظرهم منافقاً وضعيف الإيمان بعد أن رفض المضي على درب الحالمين بالحور العين.
أمام ذلك المنبر ينحني ذلك الرجل السبعيني لخالقه خمس مرات في اليوم والليلة، ورغم أن تلك الثلة من الشباب هي من تسببت في ما تبدو عليه من حسرة، إلا أنه لا يزال كعادته يؤدي الصلاة في مسجد عبدالله عزام ب"الدكة" مديرية المعلا بمحافظة عدن.
يرى والد فتحي بأن أولئك الشباب هم السبب وراء ذلك الفراق المؤلم الذي يعيشه منذ عشر سنوات حينما غادره نجله لتلبية داعي الجهاد، فيما بقي أقرانه بين أهاليهم.
في العام 2001م اتجه فتحي نحو أفغانستان، وهناك تلقى التدريبات اللازمة التي مكنته من القتال مع "المجاهدين"، وبعد تضييق الخناق عليهم من قبل قوات حلف الناتو، اضطر للانتقال نحو أندونيسيا. وهناك تزوج من إحدى فتيات العاصمة جاكرتا وأنجب منها طفلاً أطلق عليه اسم أسامة.
لم يمتد به المكوث هنالك طويلاً، فسرعان ما تخلى عن بيع "البيض" وانطلق نحو العراق وكان ذلك في أبريل 2003م.
من بعد ذلك التاريخ ووالده ينتظر أي خبر عن ولده الوحيد، وعن حفيده الذي لا يعرف عنه شيئاً، سوى أنه يعيش بين 18 مليوناً من سكان العاصمة الأندونوسية جاكرتا.
لم يكن فتحي أول "المجاهدين"، ففي ثمانينات القرن الماضي سبقه إلى أفغانستان العشرات من سكان الشطر الجنوبي، ومن بقي على قيد الحياة منهم لم يتمكن من العودة إلى وطنه بسبب المعاملة الوحشية التي كانت في انتظارهم من قبل الحزب الحاكم آنذاك الموالي حينها لموسكو، وذلك بسبب ارتباط النظام في الشطر الجنوبي سابقاً بالمعسكر الشرقي.
بتوحيد الشطرين تسنى لهؤلاء العودة إلى مساكنهم، وباندلاع شرارة حرب صيف 94م، أتيحت لهم فرصة الانتقام. الانتقام.. ذلك التوصيف المناسب للصفقة التي أبرمت بين المحاربين القدامى والرئيس صالح.
أبرز تلك الأسماء كانت: طارق الفضلي، جمال النهدي، خالد عبدالنبي، علي زين العابدين المكنى أبو حسن المحضار.
عقب الحرب وانتصار ما كانت تسمى ب"قوات الشرعية"، استقر عدد من "المجاهدين" في مدينة جعار عاصمة مديرية خنفر، أكبر مديريات محافظة أبين.
نشوة النصر دفعتهم حسب قول ناصر أحمد إلى أسلمة المدينة؛ "نحن مسلمين"، قالها وعيناه تحدقان نحو المسجد الذي بناه "المجاهدون" على أنقاض دار السينما التي دمرها "الفتية". أيام ويتمكن "المجاهدون" من إحكام سيطرتهم على المدينة، يشير ناصر إلى أجزاء متفرقة من جسده النحيل: "كسروا عظامي واتهموني بشرب الخمر".
يعتقد بعض المتحدثين ل"المصدر" بأن أبو حسن المحضار هو من يمكن وصفه بالمجاهد حقاً، فالرجل رغم تشدده الديني إلا أنه كان يمنع مقاتليه من الاعتداء على السكان المحليين.
"كانت له نظرة ثاقبة". قالها علوي ابن الخامسة والعشرين عاماً، مضيقاً: "هو شيخ "المجاهدين" في أبين، لكن عملاء أمريكا (يقصد الحكومة) قاموا بقتله".
من المعروف بأن المحضار لم يلتق إطلاقاً بأسامة بن لادن الذي أعلن في فبراير 1998م عن تشكيل الجبهة العالمية لمقاتلة اليهود والنصارى "القاعدة".
قبل الإعلان عن نشأة ما يسمى بتنظيم القاعدة انطلق أبو حسن المحضار نحو تأسيس جيش عدنأبين، وذلك في أواخر 1997م، لكن عدداً من مقربيه والمرتبطين بعلاقات واتصالات مستمرة بجهاز المخابرات قاموا بارتكاب العديد من أعمال العنف، والتي بلغت ذروتها باختطاف عدد من السواح الأجانب بهدف الضغط على الحكومة لإطلاق عدد من "المجاهدين" المحتجزين لديها.
رجال المخابرات سعوا إلى تشويه سمعة المحضار وجيشه عبر دفع هؤلاء إلى إقناع المحضار بصوابية خططهم التي خلصت إلى القبض عليه وتقديمه للمحاكمة والحكم عليه بالإعدام، وهو الحكم الذي لم يتكرر في حق عناصر القاعدة، الذين صدرت في حق البعض منهم أحكام بالسجن فقط، فيما البعض الآخر يتم الإفراج عنهم (عفو) أو تسهيل عملية تهريبهم.
تعتبر اليمن في نظر عدد من المحللين من الدول القلائل التي استطاعت احتواء "المجاهدين" العائدين من أفغانستان. وعلى الرغم من استخدامها لهذه العناصر كورقة لتصفية خصومها الداخليين إلا أنها تمكنت من احتوائهم عبر وسيلتين إحداهما تكمن في التصفية الجسدية وتقليم الأظافر، والأخرى عبر ادماجهم في الحياة السياسية والاجتماعية.
لعل المحضار أنموذج للأولى، فيما الفضلي وجمال النهدي أنموذج للأخرى، والأخير تم تعيينه عضواً باللجنة الدائمة للمؤتمر وتقليده منصباً أمنياً رفيعاً في حضرموت.
في حين تمكنت أجهزة المخابرات من استمالة العديد من المحاربين القدامى كخالد عبدالنبي خطيب الجمعة في جامع حمزة بمدينة جعار التي يسكن فيها بجوار مزرعته التي تنتج المانجو والباباي، ويتردد بأن الاعتمادات المالية المخصصة له من صنعاء هي من مكنته من امتلاك تلك المزرعة والتخلي عن أفكار القاعدة.
وبالعودة إلى حكاية أبو حسن المحضار الذي تم تنفيذ الحكم عليه بالإعدام في 1999م، فقد تلقى أولياؤه العزاء فيه من زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
ومع أن الرجلين لم يسبق لهما أن التقيا من قبل إلا أن بن لادن لم يشأ تفويت هذه الفرصة وسعى إلى الإشادة به وبأعماله الجهادية. ولكي يتمكن تنظيم القاعدة من استمالة أتباع المحضار، وبالتالي إيجاد موطئ قدم له في محافظتي أبينوشبوة، قامت عناصر من تنظيم القاعدة بتوجيه ضربة للمدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" قبالة سواحل عدن في أكتوبر 2000م، بدعوى الانتقام لمقتل المحضار.
نجاح عناصر القاعدة في هذه العملية التي استهدفت المدمرة كول، لم تتمكن المخابرات اليمنية من استيعابه والتعامل معه كما ينبغي، فقد سارعت إلى استغلاله بهدف جني الأموال الطائلة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وهي النغمة التي أتقنت عزفها حتى اليوم.
وبدلاً من القبض على العناصر المتورطة، سارعت الأجهزة الأمنية إلى اعتقال "المجاهدين" القدامى وعدد من الموالين لهم، وتوجيه الاتهامات لهم، وبعد شهور من التحقيقات تبين لها أنها تمضي في الطريق الخطأ.
بين تارة وأخرى كانت تعلن السلطات اليمنية أنها انتهت من التحقيقات مع المعتقلين المشتبه بتورطهم، وبالتالي تكشف عن نيتها لتقديمهم إلى المحاكمة، إلا أن السلطات الأمريكية كانت ترفض ذلك وتطلب تأجيل تقديم ملفاتهم إلى القضاء خاصة بعد أن تأكد ل"السي آي إيه" وجود رابط بين الهجوم على المدمرة كول في عدن وتفجير مبنى السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام.
يعتقد الشاب علوي بأن إعدام شيخه المحضار أوجد له وأقرانه من "المجاهدين" في اليمن بيئة خصبة للقتال الذي بلغ ذروته باستهداف المدمرة كول في عدن والناقلة لامبرج الفرنسية التي تمت مهاجمتها في أكتوبر 2002م.
لست أدرك ما العلاقة بين التوقيتين، فكلا العمليتين تمتا في شهر أكتوبر وبفارق زمني يمتد لعامين كاملين، والأولى انتقاماً لإعدام المحضار والأخرى انتقاماً لاغتيال أبو علي الحارثي الذي قصفته طائرة أمريكية بدون طيار في نوفمبر 2002 أثناء تنقله في صحراء مأرب.
مع نهاية العام 2002م، بدأ أطراف الصراع (المخابرات اليمنية، المخابرات الأمريكية، تنظيم القاعدة) يتقنون اللعب جيداً.
تلك الأطراف الثلاثة كان ضحيتهم هو اليمن، حيث استغلت المخابرات اليمنية والأمريكية وتنظيم القاعدة ما يمكن وصفه بالشباب المتحمس والعاطل عن العمل لتنفيذ أجندتها وخططها وهذا ما سنعمل على تفسيره في مساحة أخرى من هذا الملف الميداني.
ومع ذلك لم يتردد هؤلاء الشباب في تلبية تلك الدعوات التي كانت تدعوهم للدخول إلى الجنة عبر حزام ناسف!
تورا بورا أم شرارة من جهنم كور العولق.. حلم يراود اثني عشر ألف مقاتل مطلع مارس الفائت تسنى لي ولأول مرة زيارة مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين، وكان ذلك في اليوم التالي لنزع الأعلام التشطيرية.
كان الهدوء يعم أرجاء المدينة، ولم يكن هناك ما يثير القلق بعد أن تمكنت السلطة من إبرام صفقة مع الشيخ طارق الفضلي. وحينها تمكنت وببساطة تامة من الولوج إلى مكتب مدير أمن المحافظة عبدالرزاق المروني وإجراء مقابلة صحفية ودونما ترتيب مسبق.
الأسبوع الفائت عدتُ مرة أخرى إلى أبين، وفي صباح السبت 18 سبتمبر الجاري عزمت على زيارة المروني الذي يتمتع بعلاقة فريدة مع الصحفيين على عكس أقرانه من مدراء الأمن.
في البوابة الخارجية للمبنى المحاط بأسوار عالية تواجهك أحجاز أسمنتية، ومن خلفها أكياس رملية وضعت بعناية فائقة لتكون كجدار صد "متارس احترازية"، ومن ورائها عدد من رجال الأمن أصابعهم على زناد البنادق.
استوطنني الخوف، فالعادة جرت أن تتدلى تلك البنادق على أكتافهم، لكن الانفلات الأمني الذي تزخر به المحافظة أجبر أولئك الجنود أن يبقوا على أهبة الاستعداد، تماماً كما أجبر سائقي الدراجات النارية على التخلي عن قيادتها بعد أن حظرت السلطات المحلية والأمنية ذلك، نظراً لما تسببه الدراجات النارية من تسهيل لعمليات الاغتيال التي راح ضحيتها عدد من الجنود والضباط حسبما ورد في الملصقات الورقية التي وضعت على جدران وأسوار وأبواب المنشآت العامة والخاصة في زنجبار.
لصعوبة التنقل رافقت أحد مدراء المكاتب التنفيذية ولكننا اضطررنا للوقوف عند البوابة الخارجية لإدارة الأمن لما يزيد عن عشر دقائق.
أيقنت أنه لم يعد من السهل الدخول إلى هذه المنشأة الأمنية، فالمسؤول الحكومي الذي كنت برفقته لا بد أن ينال تصريحاً تلفونياً حتى يسمح له الجندي بالعبور لمسافة تصل إلى نحو 700 متر يصل بعدها إلى مكتب مدير الأمن.
إدارة الأمن تقع في شارع فرعي، ومبنى فرع جهاز الأمن السياسي يقع في الشارع الرئيسي للمدينة، لكن الأخير قام بإغلاق الشارع واستحداث أحجار أسمنتية لإعاقة وسائل المواصلات من السير بمحاذاة أسواره لإجراءات احترازية. بينهما التقيت بشاب حديث الانضمام للقاعدة.
"بكر" في الثانية والعشرين من العمر، فشله الدراسي سببه مدرس التربية الإسلامية الذي كان يتعامل معه بغلظة أثناء التحاقه بالصف الأول الثانوي.
كان الشاب يجد صعوبة في الحفظ، وكان المدرس يتقن معاقبته.. "طفشني" قالها بصوت عالٍ.
يبرر بكر التحاقه بمقاتلي القاعدة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يخرج من عدنأبين اثنا عشر ألفاً ينصرون الله ورسوله، هم خير من بيني وبينهم"، وسرد على مسامعي بشارات عدة عن جيش عدنأبين، واستمعت إليه وهو يستشهد بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية عن فضل الجهاد وأجر الشهيد.
عن ظهر قلب أسمعني تلك الآيات والأحاديث، سألته فأجاب: "الهمة هي من دفعتني لحفظ كل ذلك.. وشوقي إلى الجنة هو من سهل لي الحفظ".
تلك البشارة النبوية هي من دفعت عناصر تنظيم القاعدة إلى التمركز في كور العوالق.
حيث تتميز مناطق العوالق بسلسلة من الجبال المرتفعة المتصلة ببعضها البعض، والتي تقع على الأجزاء الغربية والجنوبية من محافظة شبوة، والأجزاء الشرقية والشمالية الشرقية من محافظة أبين.
العوالق التي ينتمي إليها الداعية أنور العولقي الذي يتردد بأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما وافق على قيام المخابرات الأمريكية باغتياله بتهمة انتمائه لتنظيم القاعدة، تعتبر من المناطق الأشد وعورة في اليمن.
سبق وأن اتخذ أبطال ثورة 14 أكتوبر من هذه المرتفعات ملاذاً آمناً لهم أثناء سعيهم إلى تحرير الجنوب المحتل من بريطانيا.
ربما أن المحتل البريطاني يدرك أهمية هذه المنطقة بالنسبة لنا كمسلمين، باعتبار أن جيش عدنأبين سيخرج منها، ولهذا حرص المحتل البريطاني منذ مطلع القرن العشرين إلى تجزئتها وتقسيمها إلى العوالق السفلى "أبين" والعوالق العليا "شبوة".
جاء في الإكليل أن العوالق ينتسبون تاريخياً إلى القائد التاريخي اليمني سيف بن ذي يزن، ولهذا يعتقد الكثير من العوالق بأنهم الوريث الوحيد في اليمن قاطبة لقبيلة ذي يزن الحميرية. كما يعتقد العوالق بأن جيش عدنأبين سيخرج من أصلابهم.
يقول شاعرهم مادحاً قبيلته: يا عوالق عصية على من هم تضربون الخصم ضرب الاتلافِ تنصرون مجاهد في الوغى وأقدم ينسف الخصم بحزام نساف يا قبايل جبال الكور ما ترحم من يعاديها يبشر بالاحتاف
وقال آخر متبختراً بالعوالق: احنا العوالق من علق احنا مسامير الدلق احنا شرارة من جنهم من دخل فينا احترق
يدرك جيداً تنظيم القاعدة أهمية مناطق كور العوالق والتي شهدت أجزاء منها ك"المحفد" في أبين و"الصعيد-ميفعة" في شبوة مواجهات شرسة بين عناصر التنظيم وقوات الأمن خلال الأشهر القليلة الماضية.
وبقراءة سريعة لما كتبه كبير منظري القاعدة أبو مصعب السوري في "مسؤولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم" والتي ذكر فيها عشرة أسباب تؤكد على أهمية اليمن بالنسبة للقاعدة، نخلص إلى أن التنظيم يسعى حالياً إلى فرض سيطرته على العوالق الممتدة من سواحل بحر العرب جنوباً وحتى رمال صحراء الربع الخالي شمالاً وذلك وفقاً لاستراتيجيته الجديدة التي تكمن في الاتصال المباشر بأعيان المناطق التي يتمركز فيها عناصره، وبالتالي إحياء فكرة الجهاد الشعبي التي ستمكنه من عزل الوحدات الأمنية والعسكرية التي ستكون غير راغبة في الدخول في صراعات ومواجهات مع أبناء القبائل.
إذا ما تسنى لتنظيم القاعدة تحقيق ذلك، فإن التوصيف اللائق حينها لمناطق الكور هو تورا بورا التي شهدت على قممها أعنف وأشد المعارك الطاحنة بين قوات التحالف وتنظيم القاعدة في أفغانستان.
هل تتمكن القاعدة من عزل الوحدات الأمنية عبر فكرة "الجهاد الشعبي"؟ تتركز الاستراتيجية الجديدة لتنظيم القاعدة في اليمن على أربعة محاور رئيسية.
تكمن الأولى في تعزيز فكرة حلول البشارة النبوية بخروج جيش عدنأبين، وذلك عبر إقناع أبناء وأعيان كور العوالق "أبين، شبوة" بذلك المفهوم.
وعبر هذا الاتصال المباشر سيتمكن التنظيم من إحياء فكرة الجهاد الشعبي لدى السكان المحليين، وهذه الثانية.
فكرة الجهاد الشعبي ستمكن عناصر القاعدة من الاحتماء والتمترس خلف أبناء القبائل التي ستتجنب القوات الأمنية مواجهتها، وبالتالي نجاة عناصر القاعدة من المخاطر التي تتربص بهم، وهو ما سيؤدي إلى تحقيق الاستراتيجية الثالثة المتمثلة في عزل الوحدات الأمنية والعسكرية عبر تجييش السكان ضدها.
في حين تكمن الرابعة في الابتعاد عن القيام بالتفجيرات العشوائية، وهذه سنشرحها لاحقاً.
في اللقاءات المتفرقة التي أجراها "المصدر أونلاين" مع شباب تنظيم القاعدة تبين لي وجود مصطلح يتداوله عناصر التنظيم وهو "الأنصاري" ويطلق على المتهمين من الأجهزة الأمنية بالانتماء للقاعدة.
في منتصف سبتمبر الجاري زرت المكلا وكان هدفي هو الوصول إلى تلك الحلقة التي يتسنى لعناصر القاعدة التواصل عبرها، لكنني أخفقت في ذلك، فما أطلبه ليس هنا "إنه في حضرموت الوادي" قالها أبو همام.
قبل شروق الشمس كان موعدنا. انطلقت برفقته لشرب الشاي وتناول باخمري"الوجبة التي يحلو للحضرمي تناولها باكراً.
لحظات ويدعوني للنهوض، وفي الطريق حدثني طويلاً عن ما وصفه بالنور الذي يعيشه.
انطلقت برفقته من المكلا القديمة وحتى خلف، وبعد ساعة ونصف لم ينه الرجل حديثه فاتفقنا على لقاء آخر لكنه أجّل مرتين وكنت السبب في تأجيل أحدهما، وبعدها غادرت دون اللقاء به تارة أخرى.
حتى اللحظة لم يرتكب أبو همام ما يخل بالأمن، ولم يتعرض حتى الساعة لمضايقات: "أخشى أن أتعرض لذلك دونما ذنب". كيف؟ "من السهل على الأمن أن يتهمك بما لم تقم به، بل وبما لم يقوموا به حتى إخواننا المجاهدين". ماذا تقصد؟ أجاب: "أحياناً يدفع الأمن عناصره للقيام بالتفجير بهدف الابتزاز، وأحياناً يكون هناك طرف آخر كتجار المخدرات، أو أشخاص عاديون قام رجال الأمن بالاعتداء عليهم أو على ممتلكاتهم، ولتغطية تلك الفضايح يقومون باتهام المجاهدين".
وفي حديثه وصف أبو همام نفسه بالأنصاري حسبما يناديه العناصر الفعليين في القاعدة.
في ذات المدينة يوجد العديد من أنصار القاعدة بالإضافة إلى العديد من المندسين أو المنافقين والجواسيس كما يصفهم التنظيم.
حينما كان الحسن بازرعة بمنزله قامت أجهزة الأمن بمداهمة سكنه في المكلا واقتادته نحو سجن الأمن السياسي، وبعد تسعة أشهر من اعتقاله قامت بالإفراج عنه. فترة وجيزة ويورد المصدر الأمني اسمه ضمن قتلى العملية الانتحارية في تريم أغسطس 2008م. في التحقيق الميداني ل"المصدر أونلاين" الذي استهدف محافظات: عدن، حضرموت، ابين، وجدنا العديد من النماذج التي يمكن سردها باعتبارها عناصر من تنظيم قاعدة المخابرات اليمنية أو تلك التي يمكن وصفها بضحايا المخابرات، أي لا علاقة لهم بالمخابرات والقاعدة، وكذا المستغلين من تنظيم القاعدة تحت شعار الجهاد الشعبي.
لعل منظّري تنظيم القاعدة عرفوا مسبقاً بنقطة الضعف التي تعتري المحور الثاني لاستراتيجيتهم الجديدة "الجهاد العشبي"، ولذلك حرصوا على إضافة المحور الرابع والتشديد عليه وهو الابتعاد عن القيام بأعمال شبيهة بالتفجيرات العشوائية.
فحماسة المقاتلين الجدد "الجهاد الشعبي" ستدفعهم ربما للقيام بعمليات دونما ترتيب أو تنسيق.
ورغم حرص التنظيم على التأكيد بعدم القيام بالتفجيرات العشوائية، إلا أن الحماس المفرط دفع هؤلاء الشباب للقيام بذلك. لعلكم تذكرون حادثة مقتل الجنود وهم يتناولون وجبة الفطور في رمضان الماضي.
يعاب على هؤلاء المقاتلين الجدد أنهم مجرد فتوات (رجال عصابات) إن صح التعبير، ومعروف عن الفتوة قيامه بالأعمال الطائشة التي يعبر فيها عن قوته وصلابته.
سالم يرى في نفسه عنصراً في تنظيم القاعدة، لكنه كان يتحدث إلى "المصدر" وفي أذنه سماعة متصلة بجهاز تلفونه السيار المنبعث منه أغنية "صدفة ومن بين كل الناس علقني".
وسالم نموذج لعشرات الشباب في لودر، جعار بمحافظة أبين الذين قام التنظيم باستقطابهم للجهاد الشعبي، إلا أنهم وبحسب المقداد الذي يقيم في زنجبار، باتوا عبئاً على تنظيم القاعدة بسبب تلك الأعمال التخريبية التي نفذوها من تلقاء أنفسهم نكاية بالأمن خصمهم الدائم واللدود منذ سنوات عدة لقيامه بملاحقتهم لجرائم قاموا بارتكابها.
ويصف السكان المحليون هؤلاء المقاتلين الجدد ب"المُحبّبين" وذلك لتناولهم وإدمانهم على حبوب المرضى النفسيين المعروفة ب"الدزبام، الريستل" وغيرها. سألت سالم عن ذلك، فأخرج لي شريطاً منها وطلب مني تناولها كي أكتب عنه مقالاً قوياً يجلب له الطيران الأمريكي.
مع استراتيجية الجهاد الشعبي تطورت طريقة إدارة المعارك بين القاعدة والأمن التي كانت أشبه بالكر والفر، لكنها اليوم باتت حرباً على مدن، بل إن التنظيم الحالم بإحكام سيطرته على كور العوالق وتهيئة المناخ الملائم لخروج جيش عدنأبين، بات يفكر في إحكام سيطرته على نقيل جبل ثرة الواقع ما بين لودر ومحافظة البيضاء، وذلك لكي لا تتخذه القوات الأمنية ممراً للتعزيز والإمدادات كما حدث في منتصف سبتمبر الجاري، ولولا تلك التعزيزات الأمنية لحدث ما لم يمكن تخيله، خصوصاً وأن العديد من مديريات أبين باتت خالية من مناظر جنود الأمن.