حضرموت.. قنابل ضوئية على محيط مطار سيئون واتهامات متبادلة بشأن اشتباكات الشحر وحدتها تتصاعد    العليمي يشن الحروب على الجنوب لحماية سرقاته لنفط شبوة وحضرموت    إدانات واسعة تجاه اعتراف العدو الصهيوني بإقليم " أرض الصومال "الانفصالي.. اسرائيل تناور بالاعتراف هروباً من الحصار    هنأ الشعب بمناسبة جمعة رجب.. قائد الثورة: لابد أن نكون في حالة يقظة مستمرة وروحية جهادية عالية    هل حان الوقت لتجريم الاستعمار    المكلا حضرموت ينفرد بصدارة المجموعة الثالثة بدوري الدرجة الثانية لكرة القدم    قوات النجدة بأمانة العاصمة تستعيد 3 دراجات نارية مسروقة    وكيل وزارة الخارجية يشيد بدورالصليب الأحمر في ملف الأسرى    فلسطين الوطن البشارة    الشؤون الخارجية بالانتقالي تبحث التعاون مع المفوضية السامية وتؤكد احترام المجلس لحقوق الإنسان    العرادة يدشن حزمة مشاريع خدمية وتنموية لتعزيز البنية التحتية في مأرب    جوائز غلوب سوكر: باريس والبرتغال ويامال الأفضل    مطالب حضرمية لمجلس الأمن بالتحقيق في مصافي الخشعة وتمويل الإرهاب    سياسي جنوبي يثمّن شراكة التحالف مع الجنوب ويؤكد: النصر في 2015 صُنع بوضوح الموقف لا بالمساومات    اغتيال جار الله عمر.. اللحظة التي دخل فيها ملف الإرهاب في اليمن دائرة التوظيف السياسي    الأرصاد: سحب منخفضة كثيفة على سقطرى والسواحل والمرتفعات المحاذية    تشييع جثمان الشهيد المقدم توفيق العسيقي في التعزية    مدارس أمانة العاصمة تحتفي بعيد جمعة رجب    مركز البحر الأحمر للدراسات يصدر كتابين جديدين حول الهجرة الأفريقية غير الشرعية إلى اليمن والقضية الفلسطينية    منذ أكثر من شهر.. مليشيا الحوثي تمنع دخول عشرات الشاحنات المحملة بمادة الأخشاب    الشتاء يتحول إلى كارثة إنسانية: 20 وفاة وآلاف النازحين بالعراء في غزة    عاجل: أهم نقاط البيان.. سيئون تجدد العهد لاستعادة دولة الجنوب وتفوض الانتقالي خيارًا نهائيًا بلا تراجع أو مساومة    ورشة حول الصحة والسلامة المهنية بصنعاء    ميلان يقسو على فيرونا بثلاثية ويعتلي صدارة "الكالتشيو" مؤقتاً    أمين العاصمة يتفقد أعمال صيانة شارع سبأ بمشاركة مجتمعية    خفر السواحل تحذر من السباحة قبالة سواحل عدن وأبين وشبوة    المحرّمي يطّلع على سير العمل في المؤسسة العامة للاتصالات وخططها المستقبلية    تحت شعار الهوية والانتماء.. جامعة صنعاء تُحيي ذكرى "جمعة رجب"    صنعاء.. صدور حكم استئنافي في قضية الصحفي محمد المياحي    صنعاء: المكاتب التنفيذية تُحيي ذكرى "جمعة رجب"    الصين: تأسيس أكثر من مليون شركة جديدة في 11 شهرا    هل بات قادة اوروبا يخشون "سلام ترامب" في أوكرانيا؟!    نيجيريا تسقط تونس في مباراة مثيرة وتبلغ ثمن نهائي كأس أمم إفريقيا    الاعتراف الإسرائيلي بالصومال خطر يهدد الجنوب العربي وخليج عدن    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    هروب    رشاد العليمي يسهل لنجله عبدالحافظ سرقة نفط حضرموت    محمد صلاح يواصل تحطيم الأرقام القياسية في «كأس أمم إفريقيا»    في صنعاء.. هل ابتلعنا "الثقب الأسود" جميعًا؟    الصحفي المهتم بقضايا الناس وانشطة الصحافة الثقافية عبدالعزيز الويز    قراءة تحليلية لنص «صدمة استقبلتها بقهقهة» ل"أحمد سيف حاشد"    دوري روشن السعودي: اتحاد جدة يهزم الشباب بثنائية نظيفة    اكتشاف آثار حضارة متطورة في باكستان    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    القوات المسلحة الجنوبية تضبط مصفاة غير قانونية لنهب النفط داخل مزرعة متنفذ شمالي في الخشعة    اتحاد حضرموت بحافظ على صدارة المجموعة الثانية بدوري الدرجة الثانية    مأرب تحتفي بتخريج 1301 حافظًا وحافظة في مهرجان العطاء القرآني    القيادة التنفيذية العُليا تناقش الجهود المبذولة لتأمين الخدمات للمواطنين ومراقبة أسعار الصرف    ما علاقة ضوء الشمس بداء السكري.. نصيحة للمصابين    العطاس: نخب اليمن واللطميات المبالغ فيها بشأن حضرموت"    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"صندوق الاقتراع".. المفترى عليه! (1-4)
نشر في المصدر يوم 16 - 10 - 2010

حين بدأت موجة "الديمقراطية" وما يتصل ويرتبط بها من مبادئ وقيم كحقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة ؛ حرية الصحافة، وحرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية التنظيم السياسي والاجتماعي والنقابي، والحق في السفر والتنقل، وغير ذلك من الحقوق الاقتصادية والثقافية، إضافة إلى كفالة وحماية حقوق الأقليات الأثنية والقومية والثقافية،وحقوق المرأة، إلى آخر هذه المنظومة المترابطة المتكاملة التي تندرج ضمن إطار ومفهوم الديمقراطية "الليبرالية"، أقول حين بدأت هذه الموجة تمتد وتنتشر وتتصاعد وتيرتها على الصعيد العالمي كله متجاوزة الحدود الوطنية ومعايير السيادة والاستقلال الوطني، عقب انهيار "جدار برلين" أوائل العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم الذي شكل معلما ورمزا لانقسام العالم بين معسكرين دوليين عظيمين ؛ المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الاشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، ونشوب الحرب الباردة بينهما على إثر الحرب العالمية الثانية، وما تلى انهيار جدار برلين من انهيار وسقوط إحدى القوتين أو المعسكرين العالميين الكبيرين أي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الدولية الاشتراكية الموالية له.. حتى رأينا الكثير من الدول أو الأنظمة الديكتاتورية الشمولية القمعية الاستبدادية في العالم الثالث تخوض معركة "البقاء" والاستمرار عبر عملية بهلوانية غوغائية تهدف إلى "تكييف " نفسها ومحاولة التكيف مع المتغيرات الدولية مذهلة التسارع والعمق، وراحت تفصل لنظمها الحاكمة الفارقة بالديكتاتورية والاستبداد والشمولية، ملابس وأردية وأقنعة وديكورات ديمقراطية ترفع شعاراتها وتردد مقولاتها في الحريات وحقوق الإنسان الخ، فأصبحت بين ليلة وضحاها نظما ديمقراطيا يتعالى في مختلف أجهزة الدعاية والإعلام الرسمية الخاضعة لها ضجيج التغني والتمجيد له بل وحتى التقديس للشكل والمظهر الجديد الذي تبنته ورفعت لواءه، وباتت تلك الأنظمة، التي ما عرفت يوما معنى الديمقراطية ولا مارست أدنى مقتضياتها، أكثر مزايدة وادعاء حتى على الجماعات والأحزاب ذات المنشأ الديمقراطي الليبرالي، والواقع أن هذا التغيير الدراماتيكي الشكلي المفرغ من المحتوى لم يقتصر فقط على الأنظمة الحاكمة بل امتد ليشمل أحزاباً ومنظمات وجماعات ولدت وترعرعت وشبت على أفكار شمولية أحادية لا تعترف بالتعدد والاختلاف ولا تقر بأي حال من الأحوال ثقافة الديمقراطية الليبرالية.

ان هذا الانتقال أو التغير الفجائي الشكلي لم يقتصر على النظام الحاكم في اليمن فحسب، بل امتد ليشمل الكثير من أنظمة الحكم في البلدان العربية ناهيك عن أنظمة الحكم في الكثير من بلدان العالم الثالث. وان كان الواقع وشواهده يشير إلى أن نظام الحكم القائم في اليمن يبقى النموذج الأبرز بدون منازع من حيث حقيقة كونه صارخا وأكثر تعبيرا عن ذلك "التبدل والتغير الديمقراطي" الفجائي والذي يتناقض فيه الشعار مع الممارسة والشكل مع المضمون تناقضا كليا، ولذا فقد رأينا من المناسب اتخاذه نموذجا لمعالجتنا هذه التي نسعى من خلالها إلى التدليل واثبات زيف ومغالطة المزاعم والادعاءات حول ديمقراطية نظام الحكم التي اتخمت الحياة السياسية والإعلامية في بلادنا بضجيجها وزعيقها المصم لآذاننا وأسماعنا صبح مساء وبمناسبة وبدونها!

كانت اليمن، قبل عام 1990م، دولتين قائمتين في شمال وجنوب، جمعهما معا قاسم مشترك واحد هو الشمولية الاستبدادية الديكتاتورية الأحادية.. في الشمال كان دستور الدولة يحرم ويجرم قيام الأحزاب أو الانتماء إليها تحت طائلة جريمة "الخيانة العظمى" وعقوبتها "الإعدام"، واتخذت لها شعارات ومقولات مثل "الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة"، أو "إننا نرفض الحزبية سواء طلعت علينا بمسوح الرهبان أو بقرون الشيطان" الخ.. أما في الجنوب فقد كانت الدولة فيه يقودها ويتحكم بها حزب حاكم واحد ووحيد أي نظام الحزب الواحد، وتم تصفية واجتثاث وإقصاء كل القوى والأحزاب والجماعات السياسية الأخرى تحت شعارات أو تهم "الثورة المضادة" أو "الرجعية" أو "اليمين المتطرف" أو "اليسار الطفولي" إلى آخره، تلك الشعارات الاتهامية الإقصائية، غير أن ما تجدر الإشارة إليه هنا أن نظام الحكم في الجنوب بدأ عقب الأحداث الداخلية المأساوية المروعة في 13 يناير عام 1986م، بمحاولات خجلى وعلى استحياء لتقييم تجربة الحكم منذ الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، وكانت أشجع وأجرأ وأعمق تلك المحاولات ورقة فكرية سياسية تكتسب أهمية تاريخية صاغها وطرحها الشهيد الوطني العظيم جار الله عمر عنوانها "وجهة نظر". ورغم ما تحمله صاحبها من معاناة واستهداف واتهامات وتهديدات إلا أن تلك الورقة الهامة فرضت على الجميع في النظام الحاكم، حكومة وحزبا ومنظمات وأفراداً، بل وخارجه أيضا، الشروع والتوجه العملي نحو مراجعة شجاعة وشاملة لتجربة الحكم، وطرح مبدأ "التعددية الحزبية" المحدودة في البداية وإعادة الاعتبار لأحزاب وتنظيمات وجماعات وطنية أقصيت أو صفيت في الماضي. وبالفعل شهد الجنوب عودة بعض الأحزاب والجماعات السياسية إلى ساحة الحضور والنشاط العلني، في حين بقيت السلطة الحاكمة في الشمال على موقفها في تحريم الحضور والنشاط الحزبي العلني وإن اضطرت إلى التعامل مع الأحزاب السياسية السرية القائمة عمليا وذلك بشكل غير مباشر لا يعترف بها ولا يقرها دستورياً، ويشرك بعض قياداتها في نشاطات السلطة وخاصة فيما يتعلق ببناء وإعلان قيام "الحزب الواحد الحاكم"، وظلت السلطة تجرم كلمة "الحزب" وتمنع التعامل بهذه التسمية وتفضل بدلا عنها استخدام كلمة "التنظيم" !! حيث كان إشراك بعض قيادات الأحزاب لا باعتبارها تمثل أحزاباً وإنما باعتبارهم أشخاصاً يمثلون أنفسهم !! كما تجسد ذلك في تجربة إنشاء وإعلان قيام "المؤتمر الشعبي العام" من خلال "لجنة الحوار الوطني"..

وحين أعلن عن قيام "دولة الوحدة" بجمع دولتي الشمال والجنوب في 22مايو 1990م، ظلت مسألة الديمقراطية والتعددية الحزبية يكتنفها الغموض الشديد وعدم الوضوح والتحديد، حيث لم يتضمن دستور "دولة الوحدة" الذي قامت عليه تلك الدولة نصا صريحاً وواضحاً ومحدداً باعتبار النظام السياسي قائماً على التعددية الحزبية العلنية، وان كان مبدأ مطروحا في أروقة المناقشات والحوارات التي أعقبت الإعلان عن قيام "دولة الوحدة"، ولعل أهم وابرز ما يسترعي الانتباه في هذا الصدد حقيقة أن قيادات ورموز "دولة الشمال" المنخرطة في "دولة الوحدة" الجديدة بذلت جهوداً مضنية ومستميتة لإقناع قيادات ورموز"دولة الجنوب" بأن تجربة"تعدد الأحزاب" فكرة خطيرة ومدمرة ولا تناسب الشعب اليمني بل ستؤدي إلى إثارة وتفجير الحروب والمنازعات والانقسامات والتمزقات بين أبناء الوطن الواحد، وإن الفكرة المثالية والممتازة والمناسبة لليمن واليمنيين تكمن في خلق وبناء وإعلان تنظيم سياسي حاكم واحد يقوم وينشأ من ناتج عملية دمج آلي بين"الحزب الاشتراكي اليمني" الذي كان حاكما للجنوب والشريك الآخر في "دولة الوحدة" و"المؤتمر الشعبي العام" الذي كان حاكما في الشمال والشريك الآخر في دولة"الوحدة" ! وشهدت الساحة السياسية والإعلامية اليمنية، عقب إعلان قيام "دولة الوحدة" سيلا من التصريحات والمواقف والتنظيرات والتبريرات المؤيدة لمسعى "دمج الحزب والمؤتمر"في تنظيم سياسي حاكم واحد! والمستميتة في إظهار مخاطر الحزبية والتعددية الحزبية واحتمالاتها الكارثية المهولة. ولعل ابرز قادة ورموز"الشمال" الذي تصدى لتسويق هذه الفكرة وأكثرهم ثقافة واقتدارا هو الدكتور عبدالكريم الإرياني، وكادت هذه الفكرة الخبيثة أن تقنع قطاعا لا يستهان به من قيادات ورموز "دولة الجنوب" المندمجة في "دولة الوحدة". ولولا أن تيارا نشطا ومقتدرا وفاعلا داخل "الحزب الاشتراكي اليمني" استطاع أن يحسم الجدل والسجال في الأخير لصالح "التعددية الحزبية" ورفضا لفكرة "التنظيم السياسي الواحد"، ومجددا يبرز القائد الرمز الشهيد جار الله عمر في الانتصار لتجربة "تعدد الأحزاب " في دولة الوحدة، كما استطاع من قبل أن يحرك بشجاعة وعمق رأيه وثقافته وحنكته جمود تجربة الحكم في الجنوب عقب أحداث 13 يناير 1986م المأساوية. وهنا كان موقف "الحزب الاشتراكي اليمني" حاسما ونهائيا بجعل خيار "التعددية الحزبية الديمقراطية " خيارا وشرطا أساسيا لدولة الوحدة الوليدة ؛ ولم يكن أمام "الشريك الآخر" الممثل لدولة الشمال في دولة الوحدة، حزبا وحكومة، إلا الرضوخ مكرها وعلى مضض والقبول بمبدأ تعدد الأحزاب وهو له رافض وعن قناعة راسخة !!.

والواقع أن طرفي أو شريكي "دولة الوحدة" في حيثيات وبواعث وأسباب موقف كل منهما، القابل والرافض لمبدأ التعددية الحزبية، قد انطلقا من حسابات ودراسات تشخيصية للواقع والظروف السائدة في البلد ورؤى وتقييمات متباينة، فالحزب الاشتراكي اليمني، مثلا ربما رأى بأنه يمثل "الطرف الأضعف" تجاه شريكه الآخر "المؤتمر الشعبي العام " وما يمثله من قوى وثقل عسكري قبلي فئوي طائفي الخ، فاقتنع بأن طرح مبدأ "التعددية الحزبية " كأساس للنظام السياسي الناشئ بإعلان قيام الوحدة هو وحده الكفيل والضامن لوجوده وبقائه واستمراره خاصة في ظل ما سوف يستند عليه من قاعدة تحالفات عريضة مع أحزاب وقوى سياسية تجمعها به قواسم مشتركة عديدة.. وبالمقابل فربما نظر "المؤتمر الشعبي العام" بما يمثل من قوى وفعاليات عسكرية واجتماعية وسلطوية، بأنه الطرف الأقوى إزاء شريكه "الحزب الاشتراكي اليمني" ولهذا فإن جهوده الدؤوبة ومحاولاته المستميتة في رفض وعدم القبول بمبدأ أو تجربة "تعدد الأحزاب" تستند، أساسا، إلى أن التعددية الحزبية العلنية والمشروعة قد تشكل عائقا وكابحا ومعطلا لحساباته وخططه الرامية إلى التفرد بالسلطة واحتكارها بعد إقصاء وإزاحة الشريك الآخر، وهو ما اتضح بجلاء وأثبته تفجير حرب صيف 1994م الكارثية المدمرة بعد ذلك !! إذ يسهل على الباحث العادي أن يلمح، بوضوح تام، كيف أن تجربة التعددية الحزبية شهدت منذ إعلان قيام "دولة الوحدة" في 22مايو 1990م زخما واندفاعا وحيوية وتطوراً بارزاً، إن من حيث ثقافتها الديمقراطية والحقوقية أم من حيث أدائها وممارستها السياسية العملية الميدانية، ثم عادت بعد حرب صيف 1994م التي تمخضت عن إزاحة الشريك الآخر "الحزب الاشتراكي اليمني" وإخراجه من الحكم وتصفية ما يمثله من قوى وفعاليات سواء في المؤسسة العسكرية والأمنية أو في مواقع الدولة ومؤسساتها المدنية أو من حيث ثقله وتأثيره وحركته الحزبية الشعبية، لتشهد نكوصا وتراجعا وانكسارا وإضعافاً تحت سطوة وجبروت إجراءات وممارسات السلطة الحاكمة التي عادت، بعد فترة انكفاء وتواري قصير، إلى منهجها وأساليبها وطبيعتها قبل إعلان "دولة الوحدة" والمتسمة بالشمولية والتفرد بالسلطة واحتكارها وبالديكتاتورية والقمع والاستبداد، حيث انعكست كل تلك الممارسات والأساليب غير الديمقراطية على الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي تعرضت لأسوأ واخطر أساليب أجهزة استخبارات النظام في اختراقها وبث الصراعات والانشقاقات داخل صفوفها وتفريخ واستنساخ أشكال حزبية مسخة بنفس أسماء وعناوين الأحزاب القائمة، وخوض معارك ومواجهات تحت أسماء تلك الأشكال الحزبية المفرخة والمستنسخة وبقوى وإمكانيات وسلطات وأموال الدولة نفسها !! واستخدمت أساليب "الترغيب" و"الترهيب" و"التهديد" و"الإرهاب" لتحقيق وتنفيذ تلك الأهداف والغايات الهادفة في مجملها لتشويه وتخريب وإفساد الحياة السياسية الحزبية القويمة ووأد تطورها الطبيعي التاريخي المنشود. والأخطر من كل ذلك، أو على الأقل المساوي لكل ذلك في الخطورة، شهدنا وعايشنا العودة المشؤومة لإحكام قبضة وسيطرة وتحكم أجهزة الاستخبارات الأمنية التابعة للسلطة في كافة مؤسسات ومرافق ووزارات ومصالح وهيئات الدولة كافة من خلال إعادة تعيين "مندوب الأمن" في كل منها، كما كان عليه الحال في الشمال قبل إعلان "دولة الوحدة" بل واشد وأقوى وأشرس مما كان سابقا ! ولم يقتصر ذلك التراجع والارتداد إلى الخلف، قسراً وإكراهاً وفرضاً، على الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني فحسب، بل امتد ليشمل كل نواحي الحياة ومجالاتها التي بدأت لفترة قصيرة من الزمن تتنسم وتستنشق عبير الحرية والديمقراطية كحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الاجتماع والتظاهر وغيرها من الحقوق والحريات، حيث أصبحنا نشهد اقتحامات عسكرية مسلحة للصحف واعتقالات واختطافات للصحفيين والكتاب وتعذيبهم وإخفاءهم عن الوجود لفترات متباينة، وإغلاقات ومحاكمات صورية للصحف والصحفيين، وخلق وفبركة قضايا ومشاكل ملفقة ومختلقة لإدانتهم بها وقمعهم وسجنهم وإخضاعهم ومصادرة حقوقهم وحرياتهم. واتسعت رقعة ومساحة نهب أراضي وممتلكات الأحزاب والمنظمات والأفراد والجمعيات والشركات العامة وخاصة في الجنوب بعد حرب 1994م، وتسريح الآلاف من موظفي الدولة من الجنوبيين،عسكريين ومدنيين، ولعل أكثر ما يثير الضحك، الشبيه بالبكاء، أن أساليب ووسائل تخريب وإفساد وتشويه الحياة الحزبية الطبيعية، أن أساليب تفريخ واستنساخ أشكال حزبية قرينة ومضادة للأحزاب الأصلية، وصلت إلى درجة من الهمجية والشر، ربما حتى الشيطان نفسه لم يصل في مكره وخبثه إلى ما يشابهها، فقد حصل أن أجهزة استخبارات الأمن التابعة للنظام حينما لا تجد من تعتمد عيه وتُسند إليه مهمة الانشقاق داخل حزب من الأحزاب من أعضائه وكوادره المعروفة، فإنها لم تتردد حينها في الاعتماد على رجال الحراسة التابعين للداخلية والمكلفين بأعمال حراسة مقر الحزب المعني ودفعهم إلى القيام بما يسمى آنذاك "انتفاضة تصحيحية" لتصحيح مسار الحزب "المعوج" وإعادته إلى سبيل الرشد والرشاد، ثم تنصب "قيادة جديدة"، وتقوم أيضاً بإصدار "صحيفة الحزب" الناطقة بلسانه منتفضة على الحزب وقيادته "المنحرفة" ! وهكذا أصبحنا نرى الكثير من المضحكات المبكيات ولا زال الحبل على الغارب !

ووسط هذا الانحلال والتردي والانفلات والفساد والتخريب المنظم المقصود والمدعوم، عاد إلى الحياة "الحاكم الفرد المطلق الأوحد" صاحب السلطة الوحيد والقرار الاوحد، الذي يجمع في يده كل السلطات والصلاحيات والشئون الكبيرة والصغيرة مختزلا الدولة ومؤسساتها ودستورها وقوانينها ليصبح هو وحده، عبر أجهزة قمع السلطة وبتسخير إمكانات ومقدرات البلاد، مصدر الشرعية ومعيارها ومقياسها لا ينازعه أو يراجعه أو يحاسبه أو حتى ينصحه أحد على الإطلاق. وبات هو "الدولة" و"الدولة" هو لا شريك له ولا منازع !

وهنا وعند هذه المحطة الفارقة يزداد "الصراخ" ويتعالى "الضجيج" ويتسع نطاق "الدعاية" والتمجيد، لنعمة "الديمقراطية" التي تصم آذاننا بها أجهزة إعلام الدعاية الرسمية للحاكم وبطانته،ونعيم الحريات التي ينعم بها الإنسان والتي، كما تصر أجهزة إعلام الدعاية تلك، وفاقت وتجاوزت ما عليه حال وتجربة الدول الديمقراطية العريقة في العالم ! ثم يقال لنا، مرارا وتكرارا ودون كلل أو ملل، إن كل من يريد التغيير والتبديل للنظام القائم ما عليه إلا أن يولي وجهه صوب "صندوق الاقتراع" الذي يختار فيه الشعب بملء إرادته وبمحض حريته حكامه ونظامه ! وهذه هي الديمقراطية في جوهرها وأساسها ومضمونها وآلياتها وحكمها القاطع !! والأنكى والأدهى والأمّر على النفس، فوق كل ذلك ورغما عنه، نصدم وننتفض حينما تتبارى الدول الديمقراطية العريقة في العالم،والحاملة على عاتقها رسالة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان للبشرية جمعاء، في إصدار شهادات وصكوك تؤكد بأن نظامنا "ديمقراطي" بل و"فريد" وانه تجربة رائدة في منطقة شديدة السواد ديمقراطيا !!.
فهل نحن كذلك ؟ ذلك ما سنتناوله في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

بريطانيا - شيفيلد
4 سبتمبر 2010م
المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.