صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التطهير العرقي باعتباره منتجاً أصيلاً للهويات القاتلة
نشر في المصدر يوم 15 - 07 - 2009

في وقت ما ستتخذ الأمور في المحافظات الجنوبية، منحى تصعب السيطرة عليه. ولم يعد جديراً بالقوى الوطنية أو أي شخص يمتلك من النزاهة والجرأة والصدق ما يكفي لفعل شيء، الاستمرار في التشديد، لدى تناول الحراك الجنوبي، على ذلك السؤال المنطقي جدا لكن السلبي أيضا والمنطوي على الكثير من الشماتة والكيد، الذي مفاده: من الذي أوصل بعض الجنوبيين إلى هذه الدرجة من التطرف؟

هذا الأسبوع أعدم الثلاثة معاً في حبيل جبر: بائع الحلويات حميد سعيد ونجله فايز وصهره. أكتب هذه العبارة متقمصاً الطريقة التي كان يكتب بها ليونديس يومياته لصديقته ماريو من جبهات الاقتتال الأهلي اليوناني، في رواية "الأخوة الأعداء" للكاتب العظيم نيكوس كازنتزاكيس. وكان يونديس نفسه قد تلقى قبيل مقتله رسالة من عمه فيليساربوسي، يقول له فيها بالحرف: "اقتل من إخوتك قدر ما تستطيع. هذا شيء قذر، لكنك لست مسؤولاً عنه".

حتى هذه اللحظة، الراجح أن ياسين لم يصدق بعد أنه ما يزال على قيد الحياة. ومن الآن فصاعداً باستطاعة هذا الشاب، البالغ من العمر 20 عاماً، أن يؤرخ الخميس الفائت باعتباره يوم ميلاده الجديد، اليوم الذي رأى فيه كتيبة إعدام مجنونة تحركها قوة غامضة وعمياء للقيام بأعمال شريرة دامية. وعندما رأيته على الفضائية اليمنية أمس يستحضر تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، اغرورقت عيناي بالدموع.

بدا لي حينها إلى أي حد هو مفجوع ومحطم القلب ومحظوظ في آن. وكم هو سهل أن يتحول البشر إلى غيلان ضارية وعديمة الرحمة. حقا، لقد كان ابن بائع الحلوى هذا هو أول من تذوق بكافة جوارحه، المرارة الأكثر وحشية لكونه وُلٍد، دون أن يختار طبعا، على الضفة الأخرى خارج الجمهورية التي كانها جنوب اليمن ذات يوم، ببضعة أميال فقط على ما أظن.

قبل أي شيء آخر، أعتقد أننا بحاجة لإعادة سرد القصة. ولو لم تكتب الحياة لياسين، لطوى هذه المذبحة النسيان قبل أن نعرف شيئا عن وقائعها الحقيقية، على غرار حوادث لا حصر لها في اليمن. إليكم، إذاً، ما حصل وفق آخر المعطيات. سأعتمد في معظم التفاصيل على الرواية التي أدلى بها ياسين نفسه لموقع "نيوزيمن" أمس.

...
معلوم أنه مع اشتداد ضراوة الحراك الجنوبي، أصبح على أصحاب المحلات التجارية في مناطق التوتر، القادمين من المحافظات الشمالية الاعتياد على إقفال محلاتهم أغلب الوقت. صباح الخميس، كان متجر حميد سعيد مقفلاً تحسباً لأي أعمال عنف، لا سيما أن حميد سعيد وأولاده طالما تلقوا تهديدات متكررة بالطرد أو التصفية إذا لزم الأمر. في المساء، وبالتحديد الساعة ال3 عصراً، استأنف ياسين فتح المحل ومعه شقيقه فايز. بعد برهة جاء فتى اسمه "ضباح"، وهو نجل شخص يدعى علي سيف العبدلي، يقول لهم: "عادكم رجعتم يا دحابشة"، فرد ياسين: "إحنا جينا لطلب الرزق"، فرد "ضباح": "يالله غلقوا المحل بسرعة".

انتهى حوار الفتيين. ولابد أن لهجة ضباح كانت بمثابة تهديد مبطن له ما بعده. لهذا فقد أخذ ياسين كلامه على محمل الجد. "غلقنا المحل وخرجنا من حبيل جبر إلى الحبيلين ومن هناك اتصلت بعلي سيف أستوضحه عن الأمر فرد عليّ بقوله: أنتم دحابشة تتبعوا الاستخبارات أنتم وأبوكم، غادروا المكان فنحن لا نريد أي دحباشي في المنطقة"، يقول ياسين.

كان علي سيف أكثر رعونة وقسوة من نجله. فاتصل ياسين بوالده حميد سعيد ليضعه في صورة ما حدث. والأخير قرر الاتصال بعلي سيف، يقول ياسين، ليسأله عن أسباب إقدامه على إغلاق المحل وتهديده للأولاد. اكتفى علي سيف بهذه الجملة: "اطلع نتفاهم". لم يكن حميد سعيد يمانع من مقابلة علي سيف، لكنه طلب إمهاله إلى الصباح، بيد أن الأخير كان عنيداً وصلفاً أكثر من اللازم ليوجه لحميد سعيد ما يشبه الأمر بموافاته في تلك الساعة بالذات.

"خرجنا أنا وأبي في الساعة 10 ليلاً من العند بسيارتنا متجهين إليه وعند ذلك اتصل لنا وقال: من معكم؟ فرد عليه والدي: أنا وياسين ويوسف. فقال لهم ردوا يوسف، وتجيبوا بدل عنه خالد". ورغم أن الطلب الأخير غير مفهوم ويوحي بنوايا شريرة، إلا أن الرجل انصاع بشكل غريب. لكن جنون علي سيف ذهب أبعد من ذلك، كانوا قد قطعوا نصف الطريق عندما اتصل علي سيف "وقال ترجعوا وتجيبوا فائز معاكم"، حسبما يقول ياسين. فانصاع حميد سعيد أيضا، وراح لإحضار الفتى فائز الذي في ال14 من عمره، ليذهبوا معا إلى حتفهم بخطى حثيثة، ودون هوادة.

لم يكن علي سيف صلفاً فحسب بل وماكراً. في حين أن السذاجة التي تبدو عليها تصرفات حميد سعيد ليست إلا ثقة البريء المدفوع بالاعتقاد أن النوايا الطيبة وحدها تكفي لتخطي كمائن الأشرار. كان حميد سعيد قد وصل إلى حبيل جبر، وبمعيته أبناؤه الثلاثة وصهره، عندما قام بإجراء مكالمة مع علي سيف، الذي أمرهم بموافاته إلى بيته. وهناك راح يحدثهم بنبرة لينة رقيقة تتنافى مع شخصيته المعهودة.

"أنتم بوجهي، وما حد يقدر يمسكم. أنت يا حميد زي أخي وأولادك زي أولادي، وبيننا عيش وملح بس نروح نتفاهم خارج البيوت". هكذا تحدث علي سيف طبقاً لرواية ياسين. بهذه الحيلة المميتة وافق حميد سعيد على مقترح علي سيف، وأعطى الأخير الإشارة لنجله "ضباح" و2 مسلحين آخرين بالاستعداد، واستقلوا السيارة التي انطلقت إلى منطقة بين حبيل جبر والعسكرية تسمى "دلة".

كانت "دلة" أشبه بحجرة تحقيق مفتوحة. ففي تلك البقعة المعزولة، دار هذا الحوار الذي هو أقرب ما يكون للاستجواب. لنترك ياسين ينقل تفاصيله بالكامل، كما ورد في "نيوزيمن".

علي سيف: أنتم تتبعون الاستخبارات ومعاكم شبكة منظمة؟
حميد سعيد: نحن لا نتبع أي شبكة ولا أي استخبارات فنحن نطلب الله على أولادنا يا علي سيف.
علي سيف: أنت كنت قبل 7/7 في عدن كما أكدت عيوني، فلماذا ذهبت إلى عدن قبل هذا التاريخ؟
حميد سعيد: لكي آخذ قرض من البنك لأسدد به ديون البضاعة التي علينا.
علي سيف: أنت تشتغل في الاستخبارات، اعترف يا حميد أحسن لك ولأولادك؟
حميد سعيد: أثبت صحة كلامك وأنا مستعد أدفع حياتي وحياة أولادي إذا طلع كلامك صحيح".
من الذي خول علي سيف بإجراء هذا التحقيق اللعين؟ لا نعرف حتى الآن. المهم أن علي سيف هذا أمر المسلحين بالترجل من السيارة، يقول ياسين، "واقتادونا إلى مساحة بعيدة من الشعب". في الأثناء، دارت الجولة الثانية من الحوار.
حميد سعيد: يا علي سيف احنا بوجهك وانت جبتنا بوجهك، وقلت اطلعوا الآن وانتم بوجهي، وجئنا من داخل العند.
علي سيف: نعم انتم بوجهي، لكن اعترف بالشبكة التي تتبع استخباراتك؟
حميد سعيد: أنا عندكم من قبل الوحدة ولا أتبع أي جهات.
علي سيف: ماذا تريد أن تعمل بالقرض من البنك؟
حميد سعيد: قلت لك لكي أسدد ديوني وأشتري بضاعة للمحل.
علي سيف: نريد منك جواب نهائي؟
حميد سعيد: هذا جوابي.

يواصل علي سيف الإمعان في التنكيل. إذ ما يلبث أن يوجه رفاقه باقتياد أبناء حميد سعيد إلى مكان مجاور بمنأى عن والدهم. واستأنف الاستجواب. "سمعت أبي يبكي"، يقول ياسين للفضائية اليمنية بصوت متموج وعيناه تبرق بالدمع. "يا علي أنت جبتنا بوجهك، خذ السيارة خذ أي شيء، واتركنا في حالنا"، قال حميد سعيد متوسلاً. فرفع علي سيف عقيرته بالصراخ: "اعترف وإلا سأقتل أولادك أمام عينك". وأمر ابنه قائلا: "قيم ياسين". وأضاف مشدداً: "إذا لم يعترف ابوه دقه (أقتله)".

لكن حميد سعيد لا يكف عن التوسل: "ليس لدينا أي استخبارات يا علي سيف". وأخذ يذكره بعبارة التطمين التي قالها الأخير في بيته: "نحن اخوان، وبيننا عيش وملح، وأولادي هم أولادك من قبل الوحدة وأنت تعرف". فزأر علي سيف كالوحش: "أنتم الدحابشة مالكمش أمان". ورفع مسدسه وأطلق رصاصتين على صدغ حميد سعيد فأرداه قتيلاً. ثم قال للمرافقين "اقتلوا الباقي".
من حسن الحظ أن ياسين كان يقف على شفير جدار منخفض. "فرميت بنفسي إلى المنحدر وأنا أصيح بأخي وصهري: اهربوا، فباشروهم بإطلاق النار، وتزحلقت أنا إلى أسفل المنحدر، وحين رآني علي سيف أطلق علي النار لكنه لم يصيبني"، قال ياسين. لقي فايز مصرعه، وتبعه الصهر خالد علي عبدالله الذي يبلغ من العمر 25 عاما.

غير أن ياسين، رغم إصابته، ركض هارباً، متسلقاً الجبل تلو الآخر. يقول: "أخذوا سيارة والدي وطاردوني بها. اتجهت نحو الجبال، لاحقوني وهم يطلقوا النار، وهربت إلى جبل آخر، واستمروا في ملاحقتي". كان الوقت منتصف الليل، وكان ياسين يبكي ويغذ الخطى. ظل يسير على غير هدى قرابة 7 ساعات حتى طلع الصبح. وصل إلى مكان عرف لاحقاً أنه وادي بنا وهناك استنجد بأحد الرجال ليسقيه، ثم استقل أول سيارة إلى مركز للشرطة ثم أسعف إلى مستشفى بن خلدون في مدينة لحج.

...
لقد كانت مذبحة إذاً. مذبحة ذات مضمون لا مثيل له في اليمن، على الأقل حسب علمي. عندما ذاع خبر هذه الجريمة، خطر لي للتو كتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة"، ذلك المؤلف الصغير الحجم والسهل لكن العميق والشيق. ولقد رأيت أنه من المناسب استعارة مقولات هذا الرجل الفرنسي من أصل لبناني، للتعليق على جريمة حبيل جبر. فبفضل هذا الروائي والفيلسوف الكبير فهمت كيف يصل الأمر بكائنات إنسانية لارتكاب مثل هذه الفظاعات، وكيف أن بعض هذه "الانفلاتات" تبدو غير مفهومة ويبدو منطق بعضها "عويصاً".

كتب أمين معلوف، وهو الذي عاش أتون الحرب الأهلية اللبنانية، في حي يتعرض للقصف من حي مجاور، وأمضى بعض الليالي في ملجأ مع زوجته وطفله الصغير قبل أن يهاجر إلى فرنسا، محاولاً إيجاد التفسير المناسب للمذابح الإثنية والطائفية والقومية. يقول: "إن كل جماعة إنسانية، مهما كان شعورها بالاضطهاد أو بالخطر ضئيلا، ستميل إلى إنتاج قتلة يرتكبون أسوأ الفظاعات، مقتنعين أنهم على حق وأنهم يستحقون السماء وإعجاب أقربائهم". "يقبع السيد "هايد" في داخل كل منا والمهم أن نمنع اجتماع الشروط التي توقظ الوحش". والسيد هايد إذا كان هذا ما يقصده معلوف، هو الوجه النقيض والشرير لشخصية الدكتور جيكل، في رواية الكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنس. هل نستطيع الجزم بأن الوحش بدأ يتململ في الجنوب. وحش العنصرية والتطهير بسبب الهوية. ربما، أو هكذا تقول الإرهاصات. على أن مرشح الرئاسة فيصل بن شملان أكد في حديث ل"النداء" قبل عامين أن "الهوية الجنوبية وهم".

يقول أمين معلوف: "إذا كان البشر في كل الدول وكل الظروف وكل المعتقدات يتحولون إلى قتلة، وإذا كان المتعصبون من أي جنس قادرين بهذه السهولة على فرض أنفسهم بوصفهم المدافعين عن الهوية، فذلك لأن مفهوم الهوية القبائلي، الذي ما يزال سائدا في العالم كله، هو الذي يهيئ لمثل هذا الانحراف. إنه مفهوم موروث من صراعات الماضي، التي سيرفضها كثيرون منا إذا تفحصوها عن كثب، ولكننا نستمر بالانتماء إليها بفعل العادة، وقلة المخيلة، أو بالانقياد، فنساهم هكذا لاإرادياً بالمآسي".

وهو يعتقد أن اختزال الهوية إلى انتماء واحد، جنوبي مثلا، أو شمالي، وإغفال الانتماءات الأخرى، مثل الطبقة والنوع الاجتماعي والمهنة واللغة والدين، "يضع الرجال في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومتسلط، وأحيانا انتحاري، ويحولهم في أغلب الأحيان إلى قتلة أو إلى أنصار قتلة".

والحق أن بعض مكونات الحراك الجنوبي تبنت منذ انطلاقتها خطاباً شائناً، يغذي الشعور بالاستهداف والاضطهاد والتهديد. وهذه هي النقطة التي "تدفع الرجال إلى أسوأ أنواع التطرف"، بحسب أمين معلوف، الذي يسترسل: "إذا كانوا يشعرون ]أو يتوهمون[ أن الآخرين يشكلون تهديداً لإثنيتهم أو ديانتهم أو وطنهم، فكل ما يستطيعون القيام به لأجل رد التهديد يبدو لهم مشروعاً تماماً؛ حتى عندما يصل بهم الأمر إلى حد ارتكاب المجازر". وإذا كان أمين معلوف يؤيد التعاطف مع أي جماعة "جريحة"، أو تتوهم أنها كذلك، فإنه ينتقد الانزلاق من التعاطف إلى المحاباة، "إذ نغفر لهؤلاء إفراطهم في كبريائهم الوطني وعنصريتهم وكرههم للأجانب؛ ونهمل للسبب ذاته مصير ضحاياهم، على الأقل ما لم يسل الدم بغزارة".

...
كان على المعارضة في اليمن أن تسلك، حيال القضية الجنوبية، خطين متوازيين. ففي الوقت الذي تلقي باللائمة على السلطة في انتفاضة الشارع الجنوبي، وتدين تصرفاتها التي تمنح الانفصاليين العتاد السياسي والأخلاقي أحيانا للدعوة إلى فك الارتباط، وتؤازر مطالب الجنوبيين العادلة، فإنه كان عليها أن تكبح بصرامة جماح نبرة التعصب والتحقير، وترفض التطلعات الانفصالية صراحة ومنذ البدء، بدلا عن الحديث الموارب الذي يسمح باستعمال العنفوان الذي يبدو عليه الحراك ورقة رابحة للي ذراع النظام الحاكم. أعرف أنها تناوئ الانفصال في صميم أعماقها، لكنها لا تريد أن يوظف نظام الرئيس صالح موقفها للاستقواء على الحراك الجنوبي وإخماده، وبالتالي إخمادها هي في نهاية المطاف.

لا شك أن للجنوبيين حقوق، وأنه على الجميع البحث عن طريقة لتضميد جراح حرب 94، لكن كيف نحمي أنفسنا من الانزلاق في الأعمال الجبانة. "ذلك أننا لا نعرف أبدا أين يتوقف التأكيد المشروع للهوية، وأين يبدأ التطاول على حقوق الآخرين"، على حد تعبير أمين معلوف. ذلك أن الهوية-يقول معلوف- تبدأ بالكشف عن تطلع مشروع، وتصبح فجأة أداة حرب. "نفضح الظلم، وندافع عن حقوق شعب يعاني، ونجد أنفسنا في الغداة شركاء في مذبحة"، كتب معلوف.

هل سئمتم الإحالة المفرطة على أمين معلوف؟ ربما، لكنني أظن أنها تستحق ما هو أكثر من القراءة العابرة، ذلك أنها تعكس رؤية ثاقبة للأمور، وتبدو متطابقة مع الحالة التي بدأت تتبلور في اليمن. يجادل أمين معلوف بأن "كل المذابح التي حدثت خلال السنوات الأخيرة، ترتبط بملفات عن الهويات معقدة وقديمة جدا. أحيانا لا يتغير الضحايا على مر الزمن, وأحيانا تنقلب العلاقات ويصبح جزارو الأمس ضحايا، ويتحول الضحايا إلى جزارين". وهو كتب أيضا بأنه "عندما تتدخل نظرتنا، وأعني نظرة المراقبين الخارجيين، بهذه اللعبة المنحرفة، وتسبغ على هذه الجماعة دور الحمل، وعلى الأخرى دور الذئب، نقوم دون علم منا بمنح صك البراءة بشكل مسبق لجرائم بعضهم".

خذوا على سبيل المثال، ذلك التغاضي المبهم عن شحنة التحريض المقيتة، التي حملها تلميح حيدر العطاس إلى أن أصحاب البسطات الشماليين في الجنوب مجرد مخبرين. ثم مسارعة المعارضة عند أي عملية تصفية من هذا النوع، إلى وضع السلطة كمتهم افتراضي، والنأي بالحراك بعيدا. هذا النوع من التعامل المتحيز يجعل الحراك يمارس ما يريد تحت غطاء أنه سيوجد دائما من يشير إلى السلطة كقاتل محتمل، حتى ولو كان الجزار هو باعوم نفسه أو طارق الفضلي. في الواقع يتكأ الحراك الجنوبي على إذكاء الشعور بالخوف والرهاب من كل ما هو شمالي، وهذا ما يفسر "تحول رجل سليم العقل بين ليلة وضحاها إلى قاتل"، تلك النزعة -يقول معلوف- عند أمثالنا لأن يتحولوا إلى جزارين عندما يشعرون أن قبيلتهم مهددة.

صحيح يجب معالجة أسباب الخوف أولا. وهذا أمر يقع على عاتق السلطة في المقام الأول. ثم يأتي بعد ذلك تقدير حجم التهديد الذي يشكله الشق المتطرف من الحراك الجنوبي. "إن شعور الخوف أو التوجس لا يخضع دائما للاعتبارات العقلانية، إذ يحدث أن يكون مبالغا فيه وحتى زورياً (هوسي)؛ ولكن منذ اللحظة التي تشعر فيها مجموعة سكانية بالخوف، تصبح حقيقة الخوف هي ما يجب أخذه بعين الاعتبار وليس حقيقة التهديد"، بحسب إفادة أمين معلوف.

في وقت ما ستتخذ الأمور في المحافظات الجنوبية، منحى تصعب السيطرة عليه. ولم يعد-والحق يقال- جديراً بالقوى الوطنية أو أي شخص يمتلك من النزاهة والجرأة والصدق ما يكفي لفعل شيء، الاستمرار في التشديد، لدى تناول الحراك الجنوبي، على ذلك السؤال المنطقي جدا لكن السلبي أيضا والمنطوي على الكثير من الشماتة والكيد، الذي مفاده: من الذي أوصل بعض الجنوبيين إلى هذه الدرجة من التطرف؟
على أحدهم أن يفعل شيئا الآن. لا يوجد متسع من الوقت للانزواء بعيدا فقط من أجل إثبات كم أن السلطة بغيضة، والاكتفاء بالنشوة المضمرة والمتخابثة الناجمة عن الاعتقاد بصوابية نظرة المعارضة للأشياء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.