ثمة تساؤلات يخلُص إليها المتتبع الحصيف للشأن السياسي اليمني حول ظاهرة المبادرات السياسية التي أضحت تتناسل بصورة أدت لتحويل تلك الظاهرة إلى إحدى مكونات المشهد السياسي اليمني.. مضمون تلك التساؤلات، يتركز غالباً في جزئية الدواعي والأسباب التي جعلت ملعب الساسة يحفل بالمبادرات والمشاريع بشكل يتقاطع مع المستوى الطبيعي والاعتيادي لأي ملعب مماثل.
فالمتمعن في تفاصيل الملعب منذ علنية الحياة السياسية عقب الوحدة في عام 1990م، وحتى لحظتنا الراهنة، يدرك بجلاء أن الملعب لم يكد يخلو من مبادرة هنا ورؤية هناك، تماماً مثلما هو الحال مع المشاريع السياسية التي بات إحصاؤها غير سهل المنال..
الملعب السياسي قبل 1990م، لم يكن بعيداً هو الآخر عن جو المشاريع والمبادرات، فارق ما قبل عما بعد بالإمكان تلخيصه في أنها كانت مشاريع سرية من تحت الطاولة مع اتصافها بالقلة..
ربما لن أجافي منطق الواقع إن زعمت جازماً بوجود تباين وخلاف حول تلك المسببات لدى كثير من الساسة وذوي القراءات الفاحصة، فهنالك من يعزو مسببات تلك الظاهرة إلى وجود أياد خفية تعمل على إمداد الظاهرة بلوازم الديمومة والاستمرارية.. ماهية وكنه "اليد الخفية" لدى هؤلاء، يرجع لأحد أمرين، الأول: يتمثل في وجود علاقة بين أرباب تلك المشاريع والمبادرات من جهة، ومطابخ النظام الحاكم بشقيها الأمني والسياسي من جهة أخرى. أي أنها ناتجة عن تدبير وإعداد وتخطيط دوائر النفوذ الحاكمة لتحقيق أوضاع تخدم أهداف السلطة، لاسيما عندما يكون (خلط الأوراق) هو الهدف المبتغى وصول الملعب إليه، كما هو حال مشروع الحوثي (الذي خرج فيما بعد عن نطاق السيطرة) بالإضافة إلى مشروع تحويل الحراك الجنوبي من سلمي إلى مسلح..
الثاني: افتراض وجود علاقة بين أصحاب المبادرات وأطراف خارجية إقليمية ودولية، غايتها التدخل في ترتيب الأوراق وتعزيز قدرة لاعب على حساب آخر، وأحياناً نقل اللعبة إلى مستوى أعلى من الصراع والتنافس، وهو ما ينطبق على بعض المبادرات كمبادرتي علي عبدربه والجفري اللتين راج خروجهما من المطبخ السعودي..!
* العلاقة بين الأزمات والمبادرات التباين حول المسببات يتخذ بعداً آخر لدى أولئك الذين يعتقدون أن المبادرات والمشاريع ما هي إلا محض نتاج للأزمات المتلاحقة، التي تعصف بالبلاد من حين لآخر، الاستدلال على صحة اعتقاد أصحاب هذا الرأي، يمكن استنتاجه من مضمون تلك المبادرات، فلحظة أن برز الخلاف بين شريكي الوحدة (صالح والبيض) ظهرت مبادرات لرأب الصدع، لدرجة أن المشهد السياسي حفل بالكثير منها..
وعندما عادت نبرة الجنوب والشمال للظهور على مسرح الأحداث إثر الحراك الجنوبي، تداعى بعض الساسة لإعداد مبادرات ترمي لإيجاد الحل، فبينما اتفق الجفري وعلي عبد ربه في مبادرتيهما (على سبيل المثال) حول فكرة الفيدرالية، وإن اختلفت التسميات بين أقاليم ومخاليف، كان لحركة التغيير بزعامة أحمد الشرعبي رأي مبادراتي آخر يدعو للحوار وفق آلية محددة في ظل سقف الوحدة.
بصيغة تعبيرية أخرى، يمكن القول ان فكرة المعتقد السابق تتلخص في بضع كلمات: لو لم توجد تلك الازمات لما وجدت تلك المبادرات.
* فشل مشروع الدولة قائمة المسببات، المُختلف بشأنها، لا تقف عند حد سالف الأسطر، إذ تطفو اتجاهات تبريرية أخرى منها رأي يشير إلى أن السبب ببساطة يرجع إلى فشل مشروع الدولة كنتاج بديهي للسياسات الأسرية والنهج اللاوطني الذي أفرغ كل شيء جميل من مضمونه وتسبب في تحويل مصطلحات كالجمهورية والثورة والوحدة إلى مسميات تتقاطع مع الواقع المعاش.
أبرز ما يردده أصحاب هذا الرأي لتعزيز مصداقية المضمون، ما تحويه المبادرات وكذا المشاريع من نقاط التقاء وقواسم مشتركة يمكن الاستدلال بها باعتبارها محل إجماع، فالناظر لما حوته غالبية المبادرات الأخيرة، يجدها تُلمح إلى ضرورة إنشاء عقد اجتماعي (دستور) جديد، بمعنى أن الوضع القائم قد لا تتوفر فيه قابلية التعديل كمدخل نحو الحل.. بعبارة أخرى، جل المبادرات وليس كلها، تلتقي في جزئية واحدة تتمثل في بلوغ صائغيها لمرحلة اليأس من إصلاح النظام الحاكم، إذ نجد خياراً واحداً هو المفضل ويتمحور حول البحث في بدائل أكثر جدوى تكفل إنشاء نظام جديد يعيد الرابط المفقود بين الواقع المعاش من ناحية ومصطلحات الثورة والجمهورية والوحدة من ناحية أخرى..!
* الرغبة في الزعامة من بين الأسباب، محل التباين، رأي يجمع بين فكرتين، الأولى: هشاشة الحاكم التي تسببت في تخليق الفكرة الثانية: ألا وهي رغبة الجميع في الزعامة.. دلائل الأولى يمكن حصرها في سيناريو مراضاة الحاكم لأصحاب المشاريع والمبادرات والخضوع لابتزازهم بداعي شراء الولاءات.. أما دلائل الثانية، فتأكيدها يمكن قراءته في طريقة وأسلوب بعض ذوي المشاريع، كحسين الأحمر، الذي ظهر في ثوب الباحث عن الزعامة مرات عدة، إحداها عبر مؤتمر خمر الثالث للتصحيح الذي فشل في الانعقاد، والأخرى عبر مشروع (مجلس التضامن الوطني) الذي آل أخيراً إلى أحضان النظام بعد أن كان محط جذب لكثير ممن طمروا إثر سياسات (خليك في البيت).
إثبات وجود على نسق ذي اتساق، يوجد اتجاه قريب من فكرة هذا الرأي، فحواه أن حجم ومعيار التواجد في الملعب لا يمكن قياسه إلا عبر المبادرات والمشاريع.. فإذا لم تكن ذا مشروع أو مبادرة فأنت، بحسب هذا التصنيف، لست في قلب الملعب وإنما في الهوامش والزوايا البعيدة عن دوائر الضوء ونقاط الأهمية..!
ووفق ما سلف، فإن بعض الساسة في السلطة وخارجها يجدون ألا مناص من تبني مبادرة أو مشروع إما للدفاع عن المصالح والامتيازات السلطوية ومحاولة خلق نفوذ أعلى، كما هو حال مشاريع كل من باجمال (شفاه الله) وعلي محسن ويحيى صالح.. وإما للإبراق بالرسالة المعتادة (أنا هنا) التي تنطبق على مبادرات عبدالله سلام الحكيمي وعلي ناصر محمد وباسندوة، مع عدم نفي النزعة الوطنية طبعاً.. ولعل في عبارة (أنا صاحب مشروع ومبادرة، إذن أنا موجود) ما يختزل الكثير من التعابير الإيضاحية..!
* ديمقراطية منقوصة الأركان ثمة مشاريع كبيرة، دافعها لا يقف عند مسبب واحد من المذكورة سلفاً، كما هو حال المبادرات والرؤى الصادرة عن أحزاب اللقاء المشترك التي لا مجال لتأطيرها في مربعات تبريرية بعينها، على اعتبار أن غاية المشروع برمته (اللقاء المشترك) تهدف لتحقيق مبدأ التبادل السلمي للسلطة الذي بدونه تظل ديمقراطيتنا اليمنية منقوصة الأركان، هذا إذا افترضنا جدلاً أنها ليست مجرد فقاعة ديكورية، وأداة تجميل لوجه النظام خارجياً..
* غياب المشروع الحاكم شخصيا، أجد أن روزنامة المسببات لم تبلغ بعد مرحلة الاكتمال، ذلك أن أهمها لم يذكر بعد..وهنا لعل المتتبع الحصيف لسياسة ونهج الرئيس علي عبدالله صالح في إدارة شؤون البلاد، سواء في حقبة حكمه الشطرية أو بعدها، يصل إلى قناعة مفادها أن تناسل المبادرات والمشاريع يعود إلى أن الحاكم ظل بلا مشروع واضح الملامح محدد المعالم والاتجاهات..! أيها السادة، حتى لا تستبد بكم عبارات الدهشة، هاكم توضيحاً. لكنه، يستلزم عودتنا لمرحلة بلوغ الحاكم سدة الرئاسة. وقتذاك، سرى اعتقاد مؤداه أن الرجل يميل إلى المشروع الناصري، وهو اعتقاد سرعان ما تبدد إثر الانقلاب الناصري الفاشل. عقب ذلك بدا أن الرجل يميل إلى المشروع السعودي القائم على الفكر الوهابي، غير أن طرد (صالح الهديان) الملحق العسكري للسفارة السعودية آنذاك في اليمن، والتوتر ثم التقاطع الناتج عنه كان سبباً في تأكيد عدم انتماء الرجل لهذا المشروع..
قرب الحاكم من المشروع الإخواني الذي تجسد بتحالفه معهم في عقدي السبعينات والثمانينات وجزء من عقد التسعينات، أعطى انطباعاً بانتمائه لهذا المشروع، غير أن انفصام عرى التحالف بعد 1997م حمل معه ضالة نفي الانتماء لهذا المشروع، وغيره من المشاريع الدينية الأخرى كالزيدي والصوفي وخلافه.. بالاستناد لما بعاليه، يمكن القول إن الرجل أوعز لجميع أرباب المشاريع بقربه منهم وهو ما تسبب في إبعاده عن نطاق دائرة الخصومة تجاه أي طرف ليصبح بالتالي قريباً من الجميع، وهو ما أسهم في استمراريته كحاكم حتى وقتنا الراهن..! بالإمكان تشبيه المشهد برياضة ركوب الأمواج التي لا بد أن يتكيف اللاعب فيها مع تحركات المشاريع –عفواً- أقصد (مد البحر)، ذلك أن الإصرار على ركوب موجة بعينها وعدم التنقل بين الأمواج (المشاريع) الجديدة الآتية سيؤدي لخروج اللاعب (الحاكم) إلى شاطئ البحر (خارج الملعب) عند انتهاء الموجه (المشروع)..!
من هنا يمكن الإشارة مجازاً إلى أن الحاكم احتفظ بمشروعه الخاص المتمثل في (الحكم الأسري) إلى مرحلة متأخرة، إذ ظل في بداية حكمه ومنتصفه بلا مشروع واضح سوى مشروع هلامي مصلحي نفعي هو (المؤتمر الشعبي) الذي بات حاله شبيهاً بشركة مساهمة ضخمة..
نهاية اللعبة! انعدام مشروع الحاكم في البداية والمنتصف، كان سبباً في ظهور المشاريع والمبادرات. وجود مشروع الحاكم حالياً (الحكم الأسري) يعد سبباً في ظهورها أيضاً، مع فارق جوهري هو أن الرئيس عندما كان بلا مشروع ظل بمثابة مرجعية ومحور استقطاب من قبل الجميع، لكن ظهور مشروعه الأسري جعله يتحول إلى خصم إن لم يكن للجميع فللغالبية، وهو ما يعني حتمية بلوغ الموجة (المشروع) للشاطئ وبالتالي الخروج من اللعبة.
* وماذا بعد.. لا شك في أن حنفية المشاريع والمبادرات ستظل تمارس هواية الضخ، مادامت المسببات قائمة.. الحال سيبقى مستمراً لحين بروز مشروع وطني شامل وحقيقي يكفل إنتاج دولة حديثة قوية البنيان قائمة على أساس العدالة والمساواة في توزيع السلطة والثروة بين أبناء الشعب.. دولة تنتهج الديمقراطية، وتستند إلى إرث الثورة، وتمارس أفعالاً وحدوية. فهل في أفق الترقب ما يشير إلى اقتراب اليمنيين من تحقيق هذا المشروع (الحلم)؟ شخصياً لا أعتقد ذلك..!