القات الذي أتحدث عنه ليس مجرد أغصان شجرة خضراء، يشوب بعضها الاحمرار، ومنها ما يشوبه الاصفرار، ومنها بين ذلك.. وإنما "القات" بوصفه لازمة حياتية، يُصدر عنها في الفكر والسلوك ملايين اليمنيين.. هو "القات" بوصفه ثقافة يومية، تلقي بظلالها ليس على "المخزنين" وحدهم، وإنما المجتمع برمته.. وهي ثقافة تكرست على مدى عقود عبر تراكمات نظرية وسلوكية صبغت معطياتها العلاقة القائمة بين هذه الشجرة ومتعاطيها بصنوف من فنون جنون العشق الأعمى، وفلتان الوله المتعامي..
هنا نستعير "أوهام جماليات القبح" لتوصيف طبيعة النظرة إلى "القات" في أعين متناوليه.. فإنها في الوقت الذي زينت فيه لهم القبح لا يمكن لها أن تصيره في ذاته جميلا، بقدر ما تكيل لهم الوهم وتفنيهم فيه، إذ القبيح يظل قبيحا، وما قد يتبدى لعشاقه على أنه جميل وحسن ليس سوى أوهام نفس تبحث عن السلوان في التيه.. وعدا ما تضفيه شجرة القات، كشجرة، في المساحة المزروعة فيها من منظر جمالي يظل ما دون ذلك من كل ما هو مرتبط بها أبعد عن الجمال أقرب إلى القبح في قليل منه، وهو القبح ذاته في كثيرة، طيلة رحلة أوراق أغصانها.. من قطافها وحتى تأرجحها بين الأيادي في أسواقها الخاصة، ثم تكورها في خدود ماضغيها، وحتى استكانها عصارةً في أمعائهم، ونتانةً في دورات المياه، أو على قارعة الطريق.. إحدى محطات البداية في رحلة القبح تتمثل في كمّ المركبات الكيميائية والمبيدات السامة التي يدمن الزرّاع ضخها أسافل شجرة "القات" إلى جذورها، وذرها على أوراقها.. وأقول إحدى.. لأن ثمة ما يختصر قبح المراتب كلها من نقطة البداية وحتى كبوة الختام.. وذلك هو استطالة هذه الشجرة واسعا على حساب مقومات الأمن الغذائي، وإهدارها البالغ للمخزون المائي، وتأثيرها المباشر والعميق على الصحة الجسدية والنفسية، وإن شئت فقل إخلالها بالتوازن القيمي.. أفلا تستحق نبتة تهدد الأمن الغذائي والمائي والصحة الجسدية والنفسية، بل والتوازن القيمي، لأناس هذا الوطن أن توصف بكل مفردات السوء والقبح؟ أينما يممت وجهك صوب مجالس "القات" سترى القبح ماثلاً في فوضوية الأوراق والأغصان المتناثرة تحت أقدام مرتادي المجلس وفي "حجورهم" وعن أيمانهم وشمائلهم .. لربما لو كنت سبقتهم إلى المكان لأنست إليه وأحببت المكوث فيه، ولكن لأنك ما جئته إلا وهم فيه فستكون شاهداً على قبح ما صنعوه به، وألحقوه إياه حين تطاولوا على رمي قمامتهم فيه، حتى غدا كحظيرة "...." تستغرب – أنت - كيف يطيب لهم المقام فيها طويلاً؟!..
تلك هي "أوهام جماليات القبح".. فلقد استمرأ متعاطو القات هكذا منظر حتى ألفوه وألفهم، وصار إحدى لوازم بلوغهم مرحلة "الكيف".. يقول لي أحدهم إنه لا يجد ل "التخزينة" طعماً إذا لم تحتوشه مخلفات القات وتتكدس حواليه في المكان حيث يجلس!!
أما تكوّر خدود "المخزنين" المحشوة بأوراق القات لساعات طوال في اليوم الواحد فليس أدل على قبح ذلك المنظر من كونه ينافي الفطرة ويجافي الهيئة الطبيعية لوجه الإنسان.. وإذا كان هناك من يستلذ رؤية انتفاخ خده الأيسر، أو الأيمن، أو كيلهما معاً، فإن مشاهدة صفاً من متكوري الخدود طيلة مدة "التخزينة" تبعث على الاشمئزاز والتقزز، إذ الذائقة السوية لا يمكن لها أن تستلطف ما يطرأ على الإنسان بفعل يديه مما يناقض اتصافه بالخلق في "أحسن تقويم".. وشيء آخر.. فإن من نكب الدهر عليّ - وأنا غير المخزن - ألا فكاك من مجالسة المخزنين لبعض الوقت، ولا ملجأ منهم إلا إليهم.. ولعلني كدت في اللحظات القليلة التي أجلس فيها إليهم أن أتعود عليهم بانتفاخ خدودهم، وفوضوية مجالسهم، وصخب أحاديثهم.. لولا أن منهم من يدفعني صوب أضيق المسالك أحياناً.. إذ لم أسلم في مرات عديدة - بحكم توسطي يوماً بعد أخر بين اثنين منهم عن اليمين والشمال - من تطاير نتف عصارة القات من أفواههم عليّ، حالما تعلوا أصواتهم ويشتد صخبهم.. أتذكر ذات حين، وقد استبد بي الضيق، مطلب زميل عزيز من رئيس تحرير صحيفة أسبوعية كان يعمل بها منذ سنوات.. يقول زميلي - وهو بالمناسبة مخزن من الدرجة الثانية أو الثالثة - إنه كان كلما جلس إلى رئيس التحرير إياه لا يقوم من عنده إلا وقد ابتلت ملابسه من جهة صدره وحجره بعصارة خضراء مائلة إلى الاصفرار من القات المتطاير من فم رئيس التحرير.. ولهذا فإن زميلي - والعهدة عليه - إضافة إلى بدل الإنتاج الفكري والمواصلات وما إلى ذلك لم يتحرج أن يطلب من رئيس التحرير بدل " تفتفته".. كناية عن رذاذ القات المتناثر عليه.. هل استجاب رئيس التحرير إلى مطلبه؟ أظن أنه فعل فيما تناهى إلي من علم.. ولكنه لما وجد تزايداً في أعداد المطالبين ب "بدل التفتفة" أحجم عن تعاطي القات بين المحررين والعاملين لديه، وانزوى وحيداً، مؤثراً العزلة على دفع بدل مخاطر الشرر المتطاير من فيه على من هم دونه وحواليه.. أظن أنني الآن على وشك رفع دعوى قضائية أطالب فيها الذين أصابوني بنتف لبد القات المتطاير من أفواههم بالتعويض عن الأضرار الصحية التي قد تلحق بي، والأضرار المتمثلة في تلويث ملابسي من قبيل تلونها ببقع خضراء استعصت على كل المنظفات، ولم ينفع معها شيء. هذا أنا.. فكيف بالأضرار الجسيمة التي يلحقها "القات" وعشاقه – من زارعيه إلى متعاطيه – بالمجتمع.. كم دعوى قضائية يتوجب رفعها على كل هؤلاء؟ ومن قبل من؟ البيئة التي لم يسلم كل من وما فيها من تبعات هذه الشجرة زراعةً وتعاطياً وما بينهما وقبلهما وبعدهما؟ أم الإنسان لوحده؟ ذاك الذي تداعى إليه إرث القات عبر سنين متطاولة فأفسد عليه حياة كان يمكن أن تكون بدون "التخزينة والمخزنين" أجمل وأنقى وأصفى؟.. تلك مشاهد من بعض "أوهام جماليات القبح" وما زال في القصة بقية.. وحسبي هنا أن أستعير من الأستاذ الكبير مطهر الإرياني – الشاعر والباحث وعالم الآثار والمؤرخ – بيتاً من الشعر الحميني قاله في سياق مغاير، لكنه الآن فيما يحضرني أفضل ما يمكن أن أتمثل به، واصفرار عصارة القات في الآفاق أنى اتجهت يشي بالذبول دون أن أبلغ ومن هم على شاكلتي مرحلة ما بعد "أوهام جماليات القبح تلك.. ف "يا قافلة عاد المراحل طوال.. وعاد وجه الليل عابس".. • عن "أفكار" بالاتفاق مع الكاتب.