أن لا يظفر المرء بحسن الخاتمة فتلك خسارة لا تفوقها أية خسارة.. ينسحب ذلك بالتأكيد على الحكام العرب، وإنهم لأحوج بها من سواهم، إذ التردي عن شاهق يقطع بنفي الأمل في النجاة، بعكس المَطيح من بضعة أمتار، فكيف إذا كانت في استقبال الساقط من علٍ رؤوس الثعابين أو ألسنة النار؟! خسر زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك حسن الخاتمة، وذهبا في انكسار العمر المثقل بأوزار السنين يجران ذل النهايات وخزي الكبوة الأخيرة.. فهل في السابقين – بفتح القاف – ما يكفي عبرة للاحقين – بكسرها – أم أنه لا فكاك بين مقدمات الأمور وخواتمها، باعتبار أن "من شب على شيء شاب عليه" حسب المثل..
من حيث المبدأ ما زالت الفرصة سانحة أمام الرئيس علي عبدالله صالح للظفر بحسن الخاتمة.. و"سانحة" ليست من "سنحان" علي أية حال، فبين المفردة والقبيلة بعد المشرقين.. إنما سانحة لاعتبارات تلتقي كلها على عامل الزمن الذي لم يصيّره بعد رئيسا مخلوعا، أو "قرر التخلي عن صلاحياته كرئيس للجمهورية" وسواها من العبارات التي تعني ببساطة أنه أصبح في خبر كان..
وكونه لم يعد ممكنا في مواجهة رياح التغيير العاتية التغني بمنجزات سابقة للرئيس صالح قد نتفق بشأنها أو نختلف، فإن اغتنامه الفرصة الماثلة أمامه، قبل أن يُؤخذ على يده أو يُغلب على أمره، كافيا للخروج بمنجز حقيقي ينسي اليمنيين كل الإخفاقات التي رافقت حكمه طيلة الثلاثة والثلاثين عاما الماضية، أو تجعلهم يتغاضون عنها، وإن مروا عليها فمرور الكرام.
وصحيح أن الكتّاب والصحفيين وأصحاب الرأي من المثقفين والأكاديميين هنا ليسوا من يقررون كيف يمكن للرئيس اغتنام ما تبقى من فرصة الظفر بحسن الخاتمة، فلن يصل إليه صوتهم، وإن وصل فلعلهم آخر من يريد سماعهم، إن كان يفكر أصلا في الاستماع إليهم.. إلا أن ثمة حقيقة يكاد لا يختلف عليها اثنان، وهي أن حاشية الرئيس ومن بجواره وحواليه وعن يمينه وشماله ليسوا أهلا لمساعدته على اتخاذ أية قرارات صائبة، تتناسب وحساسية الظرف الذي تمر به اليمن في سياق "تسونامي" التغيير القادم من الجهة العربية لضفة "المتوسط"، إذ لو كان متوقعا منهم الفلاح لأفلحوا منذ سنوات.
وبالنظر إلى تفاعلات أقل من ثلاثة أسابيع تلت خطاب رئيس الجمهورية في الثاني من الشهر الجاري، الذي أُطلق على ما تضمنه تجوزا "مبادرة"، فإن الحديث عن دفع فرصة ظفر رأس النظام الحاكم بحسن الخاتمة صوب أضيق المسالك لهو أقل ما يمكن به توصيف الخروقات والأعمال الهمجية وأساليب القمع و"البلطجة" التي طالت المحتجين سلميا، وامتدت وحشيتها لتشمل الصحفيين، والناشطين المدنيين، وسواهم.
ثم إن ما عدا سفك دماء الأبرياء وقتل الأنفس المحرمة قد لا يبلغ في تأجيج مشاعر الانتقام ما يحفز للإتيان على السلطة من قمتها والأركان، فكيف وأعمال العنف في مواجهة المتظاهرين العزل خلال الأيام الماضية لم تتوقف عند الاعتداء عليهم بالضرب والرجم، وإنما تعدتها إلى إطلاق الرصاص الحي على صدور البعض منهم وإزهاق أرواحهم؟!
هل يدرك الرئيس أن تلك كبائر من شأنها أن تفوّت عليه فرصة نيل حسن الخاتمة بوصفه المعني بكل ذلك من خلال موقعه على رأس الهرم؟ الخشية أن لا يدرك إلا وقد أسقط في يده ولم يعد يمكنه فعل شيء بعد "أنا داري" أو "إنني أعرف".. كحال مبارك بعد "إنني أعي" ومن قبله "بن علي" بعد "فهمتكم".
كان حريٌّ بالرئيس أن يدرك أنه في غنى عن عهود ومواثيق زعامات قبلية من ذلك النوع الذي كشفت عنها تحركات الأسبوعين الفائتين، إذ الحال معهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولعل في مئالات استيطان "ميدان التحرير" في أمانة العاصمة بطريقة تنزّ عنها – فضلا عن الروائح الكريهة - مسارات فوضوية لملاحقة المتظاهرين والاعتداء عليهم، ما يكفي لتأكيد أن تحركات أعوان الرئيس أولئك، سواء بمباركته أو من دونها، لا تجلب عليه سوى النقمة، فإلى متى سيركن إليهم ويعتمد عليهم؟!
الآن لم يعد في الوقت متسع، وإما أن يمسك الرئيس صالح بزمام المبادرة صوب أقرب المسارات الأكثر أمنا لإسدال الستار في اليمن على حقبة ما قبل ال "بوعزيزي" العربي التأثير لا ليظفر وحده فحسب بحسن الخاتمة، وإنما لتكون غالبية الشعب على بينة من أمرها إزاء مستقبل التحول الذي لا بد سيحصل، إنما بين أن تقلّ كلفته خسائر في الأرواح ومقدرات البلد أو تكثر..
وإما أن يمعن الرئيس في الاتكاء على طرائق لم تجد نفعا مع "بن علي" و"مبارك" فيفيق وقد جرفه طوفان التحرك الشعبي، الذي ليس منا إلا ويتوجس خيفة مما قد يصاحب مئالاته التحررية من اضطرابات قد يطول أمدها، لدواع ربما لا تخطئها عين، بل إن منها من قد أطل برأسه، وإن في هيئة التلويح باستدعاء رجالات القبائل المسلحين لحماية المدنيين المتظاهرين العزل في مواجهة "بلاطجة" النظام الذين قدم معظمهم من الحزام القبلي المسلح المحيط بالعاصمة إحاطة السوار بالمعصم!! ويا لها من مفارقة يشيب لها رأس الوليد..
والمؤكد حتى كتابة هذه السطور على الأقل أن الرئيس صالح في حال عقد النية على إثبات استحقاقه لحسن الخاتمة لن يعدم السير في ضوء خارطة طريق يكفيه لاستبيان معالمها الرئيسية وخطوطها العريضة الإنصات جيدا إلى نداء العقل والحكمة القادم من بقايا "حشرجات" المدنية الحديثة المتمثلة في فعاليات مجتمع مدني يكاد يجهز عليها عسكر القبائل وقبائل العسكر.. فهل سيثبت أنه يستحقها؟ إن هذا لهو البلاء المبين..