أما آن لنا - نحن اليمانيون- أن ننتبه من غفلتنا و من جلدنا لذاتها و ندرك أننا أهم بلد في الجزيرة العربية موقعا و تاريخا، و أنه أخلق بنا أن يكون لنا دور مؤثر فيها. ربما ألهتنا تحديات المرحلة الحالية عن إدراك هذه الحقيقة، و شغلتنا أوضاعنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية عن النهوض بأعبائها. و لكن الوقت قد آن لأن نتذكر مجددا من نحن و نقرر لأنفسنا من نريد أن نكون. سنون طويلة مضت، نسينا فيها أنفسنا ورضينا بأن تحركنا فيها أيادي الآخرين و أهواؤهم، فماذا كانت النتيجة إلا الفقر و البؤس و هذا النظام السياسي المترهل؟ عقود طويلة مرت، تخلى فيها قادتنا عنا وعن بلدنا وتفرغوا للرقص على حبال السياسة و فوق رؤوس الأفاعي، و انخرطوا في ما يحلو لهم أن يسموه بلعبة التوازنات الاقليمية. وفي خضم هذه اللعبة فقدت اليمن طريقها و أصبحت خفيضة السياج ذليلة النفس مهانة من قِبل الصغير قبل الكبير. وفي خضم انشغالهم بملذات هذا اللعبة وتفاصيلها، ساءت أحوال الناس وتعطلت مصالحهم و تغيرت طبائعهم، و أصبح اليمني ذليلا في وطنه وبين أقرانه، لا يُعمل له حساب ولا يعتد له برأي، عربيا من الدرجة الثانية أو الثالثة كما لو أنه ما زال يعيش في القرون الوسطي. وبدلا من أن تكون لنا رؤانا و مخططاتنا، فقدنا كل خياراتنا و لم يبق لنا سوى الرقص فصرنا خطة لغيرنا و بندا في استراتيجياتهم، و أصبحنا نتمايل مع الرياح يمنة و يسرة، شمالا و جنوبا، شرقا و غربا؛ لا نخرج من مشكلة إلا إلى أخرى أعوص منها، و لا من وضع سيئ إلا إلى آخر أسوأ منه. نلعب مع السعودية حتى إذا ما تعبنا وجهنا شطرنا نحو إيران أو تركيا. و نقترب من الشرق لنرسل رسالة بذلك إلى الغرب و مع الغرب لنلعب على الشرق. و في كل هذا رضينا لأنفسنا أن نكون مجرد ورقة ضغط بيد غيرنا و طرفا في صراعاتهم التي لا ناقة لنا فيها و لا جمل، حتى لو أدى ذلك إلى تهديد أمننا و سلمنا الداخلي. وقعنا في كل مرة لعبنا فيها وسقطنا على الأرض، لكننا لا نلبث إلا هنيهة نلتقط فيها أنفاسنا قبل أن ننهض للعب من جديد، مخفين آثار الكدمات و جراحات السقوط ، و متلمسين لملابسنا التي لم تتقطع بعد لنعيد ترقيعها من جديد. و ليس بعجيب - أذن - أن كنا أول ضحايا كل لعبة لعبناها، دون أن نعي الدرس و نتعظ من التجربة. وكيف يعي الدرس ذلك البهلوان الذي لا يملك من أمر نفسه إلا أن يرقص و أن يتلقى الصفع على مؤخرته. ألم نقع عقب غزو العراق حين طرد منا مليونان و سلبت حقوقهم على يد إخواننا و أشقائنا في الدم و الدين؟ ألم نقع أيضا حين وجه بعضنا بنادقه لبعضنا الأخر عام 1994 في حرب أهلية كلفتنا ما لا يقل عن 6000 قتيل و عددا لا يحصى من الجرحى و شرخا عميقا في داخلنا ما زلنا نعاني منه و لا نعرف كيف نتعافى منه؟ وماذا عن تخلينا عن أجزاء كانت دائما و أبدا يمنية التراب و التاريخ و الهوى؟ و عن حروب صعدة الستة بين الأخ و أخيه التي كلفتها آلاف القتلى و الجرحى و أضاعت ما بقي لدينا من وهم السيادة الوطنية؟ و عن الحرب الجديدة على القاعدة التي لا يبدو أن لها آخر؟ كيف رضينا لبلدنا أن تصبح مأوى للقتلة و المأجورين و ساحة حروب إقليمية، ولأبنائنا أن يكونا وقودا لهذه الحروب! وقعنا كثيرا لكننا لم نتعلم أو نتعظ. و كيف نتعلم و القيادة التي قادتنا في كل هذه الواقعات ما زالت هي هي لم تتغير، و ما زال الرقص هو ديدنها والشيء الوحيد الذي تجيده!
قد يحلو للاعبين وبعض المشتغلين بالسياسة أن يسموا هذا الرقص سياسة ومناورة؛ و لكن كل أسماء لغات الدنيا جمعاء لن تخفي حقيقة أن هذا الرقص لم يجلب و لن يجلب لهذه البلاد سوى المصائب. لا بد لهذه المهازل أن تتوقف ولا بد لنا أن نستجمع من الكرامة و المروءة ما يمنعنا أن نكون بيادق وكروت ضغط بيد الآخرين. يجب أن تحكم تصرفاتنا كبلد و أمة رؤية واعية لمستقبل أفضل نحلم به لأبنائنا مستلهمين في كل ذلك تاريخنا و عبره و دروسه. هذا ما تفعله الأمم المتقدمة و المتطلعة للمستقبل. و إذا ما وجب علينا أن نلعب، فحينها سنلعب مع الآخرين (أو بهم) لا أن نكون لعبة بأيديهم كما يحدث اليوم. وإن في إمكانياتنا و موقعنا و مكانتنا ما يؤهلنا لمستقبل أفضل و مكانة أكبر في المنطقة، كل ذلك دونما حاجة لحقول النفط التي لا تنضب. فلدينا من الموارد الأخرى البشرية والطبيعية ما هو أثمن من ذلك بكثير، ما دامت لدينا العزيمة و صدق الهمة و وضوح الرؤية. وحري بنا في هذا المرحلة بالذات أن نتذكر أننا شعب عظيم صبور مكافح، طيب القلب، قادر على أعباء النهوض، شديد العزم قوي الشكيمة عربي الانتماء لا يرضى بالذل و لا يسكت عن الحق.و هذه وحدها تكفي لتصنع معجزة لا يقدر عليها كل نفط الدنيا و ثرواتها.