من نصائح جداتنا الطيبات "لا تفعل أيامك سواء"، وهذه النصيحة الغالية جديرة بأن تكون إحدى استراتيجيات التنمية البشرية في تطوير الذات، ففي مرحلة من أيام العمر لا يتجاوز تفكير أحدنا المتر المربع الذي ينام عليه أو يلعب فيه، وفي مرحلة أخرى تكبر مساحة التفكير بمستوى البيت أو المدرسة، ثم الحارة أو القرية، ولكل مرحلة تصورها الخاص، والذي من أهم معانيه أن تغادر المستوى السابق إلى المستوى التالي، كي تعيشه بكل تفاصيله واستحقاقاته. لهذا من الطبيعي جداً أن تتغير الآراء والتصورات والمواقف، تبعاً للمعطيات التي وصل إليها صاحبها، وهذا يتم في شتى مجالات النشاط الإنساني، وهو في المجال السياسي أكثر حراكاً تبعاً لتسارع إيقاع الأحداث، وهذا الحديث لا يوفر غطاءاً لمن يفهم ويمارس السياسة بمنطق النفعية الضيقة فيتلوّن كالحرباء "يدور مع الزجاجة حيث دارت.. ويلبس للسياسة ألف لبس، فعند المسلمين يعد منهم.. ويأخذ حظه من كل خمس، وعند الإنجليز إذا رآهم.. وفي باريس معدودٌ فرنسي"! فهو مع تغيّر موقفه السياسي يتغير منصبه وبيته وشكله وحجمه وربما زوجته، هذا النموذج خارج نطاق حديثنا في تغير القراءات والمواقف تبعاً لتغير المعطيات. كواحد من مستقبلي عهد الرئيس صالح كنت يوماً في مربع المؤيدين له، والكثير من أبناء جيلي وغيرهم في شتى مناطق اليمن أفراداً وجماعات كانوا يرون في الرئيس صالح أملاً باسماً، وفرصة لأن تقف اليمن على قدميها شامخة مُهابة، ولا أتذكر المرات التي رفعت فيها صور الأخ الرئيس معتزاً بها وبه، متجاهلاً كل ما يحيط بي من محبِطِين وشانئين وساخرين مؤكداً لهم أن المستقبل كفيلٌ بأن يعلمهم حب قائدهم والوقوف مع رئيسهم لأنه من وجهة نظري تلك رجل المرحلة. ودارت الأيام كما يقول مأمون الشناوي وما زلت في ضلالي المسكون بهوى الرئيس، متأثراً بكاريزميته وخطاباته، متفهماً بأن الإشكال القائم –وقتذاك- في من حول الرئيس، وأن هناك أصحاب مصالح يغطون الحقائق على فخامته، وأنه حين يعلم بحقيقتهم سيقيلهم، سيحاكمهم، سينتقم لنا منهم، المهم أن المستقبل سيكون خيراً، ولا داعي للاستعجال، العمر لسه قدامنا، ويا قافلة عاد المراحل طوال! يمكن أن أقول بأن بدايات الانقلاب الأبيض في تفكيري كانت مع منتصف العام 1997م، حين كانت المؤشرات تؤكد بأن الفرصة الذهبية لبناء اليمن بعد حرب 1994م لم تجد من يغتنمها لأجل اليمن، ومع ظهور أسماء من "أهل بيت الرئاسة" كنت أتحامل على جرحي في هوى الرئيس، وأغض الطرف بدعوى عدم وجود بديل مقنع، وكانت انتخابات الرئاسة في 1999م أرضية مغرية لتلك القناعة، مع ما سبق من حديث داخل النفس عن سوء البطانة وعصابة المصالح التي تحيط بالرئيس، وتحول بينه وبين أن يكون كما أحب ويحب ملايين اليمنيين، وهنا تحديداً بدأت أجنح للحياد، مع يقيني وقتذاك بأن الأخ الرئيس بيده مفاتيح حل مشكلات اليمن، ويجب أن يكون عنصراً مهما في التغيير الحتمي، وأن يرعى بنفسه التداول السلمي للسلطة، شجعني على ذلك خطابه الشهير في يونيو 2005م عندما أعلن عدم نيته الترشح في الانتخابات الرئاسية أواخر 2006م، بدأت أشعر بالهوى القديم الذي أحمله للرئيس، مع تأكيد فخامته بعد ذلك بعام في الصالة المغلقة بصنعاء حين خاطب أعضاء حزبه في مؤتمرهم الاستثنائي الذي خصصوه لمناشدته بالتراجع عن قرار عدم الترشح وقال: لن أكون تاكسي أجرة للمؤتمر الشعبي أو للقوى السياسية" ولا "مظلة للفساد"، مؤكداً بأن التداول السلمي للسلطة مهيأ منذ 16 عاماً بعد خروج الأحزاب من العمل السري إلى العمل العلني التعددي"، ولم يدعني الرئيس أخرج من حيادي المسكون بهواه حتى خرج في اليوم التالي إلى ميدان السبعين وأعلن تراجعه عن ما قاله وعزم عليه!، شعرت ساعتها بصوت السنيدار يترنم بكلمات عباس المطاع: إنما من هويته أناني! ولم ينقطع الشك باليقين في ما سبق فقط، بل في ما تلاه من دعاية انتخابية كانت واضحة جداً بمبالغتها عبر الخُطب الرنانة عن اليمن الجديد والمستقبل الأفضل وما رافقها من ضجيج إعلامي مرت بطريقة غير مشروعة لا تحترم عقول الجمهور ولا العمر السياسي لشخص الرئيس صالح ولا المدة الزمنية التي قضاها حزبه في الحُكم، وما حصل في تلك الأيام من لعب واضح بكل الأوراق التي لا يجوز وطنياً المساس بها، وهي الورقة الأمنية والتلويح بتدخل المؤسسة العسكرية والأمنية، فضلاً عن سير الانتخابات برُمتها بقِسمة ضيزى أثبتت أن ما بعدها لن يكون أحسن حالاً مما قبلها، وبالفعل فقد اتجهت الأمور إلى عكس ما اتجهت به الوعود الانتخابية، واكتشف الناس أنهم وقعوا ضحايا مقلب سياسي، وجُل الوعود المكتوبة والمسموعة والمرئية تتحقق على النقيض، وبدل أن يفطن الرئيس لذلك ويوقف التدهور المتسارع، استمر في الدفاع عن السياسة التي يديرها، بل وتخوين منتقديه والاستهانة بهم، إلى القول بأنهم البديل السيء، وظهر الرئيس يقود معركة ضد البديل لا ضد الفساد والفشل المنتشر كالنار في الهشيم، وبدا أنه لا يريد تسليم السلطة إلا وهي خاوية على عروشها، أو أنه سيبقى في سُدتها بالحالة الراهنة، التي تقول المؤشرات أنها مرشحة لمزيد من التدهور وسط فساد داخلي وخذلان خارجي أرهقه البحث عن مصداقية رسمية! والحال هذه أصبح من الصعب أن يجتمع حب الوطن وحب الرئيس في قلب غيور يؤمن أن الشعب أبقى من حاكمه، وأن ما يأمله الشعب خارج نطاق اهتمامات السائس الأول في البلاد، وما قلته آنفاً ليست قصة حب شخصي، بل موقف الكثير ممن وجدتهم يشاطرونني نفس القصة، فقد تبددت آمالهم في أن يصلح الرئيس في سنتين أو ثلاث ما أفسده في اثنتين وثلاثين سنة، وصولاً إلى قناعة بأن الرئيس كان عنوان مرحلة ذهبت، وهناك من يعتقد بأن الرئيس صالح أصبح عبئاً على المرحلة الراهنة فضلاً عن المستقبل، مهما حاول البعض ترديد اسطوانة "الرئيس الضرورة"، وهذا البعض لا يحفل كثيراً بالنظر إلى الساعة وأوراق التقويم، ليعرف فارق الزمن والمرحلة، فارق التوقيت الذي يضع عاطفة المديح في سلة الماضي ويضع التغيير المُلِح في ميدان الحاضر بحثاً عن مستقبل، فارق التوقيت بين ما كان من أملٍ وما ينبغي أن يكون من عمل، فالعاطفة وحدها لا تبني الدول، إنما النظر العقلي في البرامج والنتائج، والكثير من محبي الرئيس يعترفون بأن النتائج غير جيدة من حيث لا يشعرون، فهم يتحججون في بقاء الرئيس بعدم وجود بديل، وأن البديل هو الإنفصال أو القاعدة أو الحوثيون، والسؤال المهم هنا: كيف أصبح هؤلاء هم البديل؟ كيف وصلوا إلى مرحلة أن يكونوا البديل؟! وهل بقاء الرئيس صالح سيحل هذه المشكلات، حتى نخوّف الناس بها، والكل يعلم يقينا بأن هذه المشكلات ظهرت واستفحلت في عهد الرئيس صالح ولم يجد لها حلاً، بصرف النظر عن الاتهامات الموجهة للسلطة بالمتاجرة بهذه المشكلات واللعب بأوراقها وملفاتها محلياً وإقليمياً وعالمياً، والمتضرر الوحيد هي اليمن أرضاً وإنساناً!؟