سأتنحى، لكنني سأبقى! عبارة تختزل فحوى الحوار الصالحي المثير لقناة العربية، هكذا قالها الرئيس: سأتنحى لكنني سأبقى رئيساً للمؤتمر الشعبي العام، بهذا التعبير كشف الرجل عن آخر التكتيكات الرامية الى خلط الاوراق ومبارحة التموضع الصعب الذي اضحى يعيشه منذ ان سمح لجلاوزته بسفك دماء (52) شهيداً من احرار وثوار ساحة التغيير. قالها بوضوح إذن، لن أخرج الى جدة او الى اوروبا، بل سأخرج الى مسقط رأسي (سنحان) وسأظل رئيساً لحزب المؤتمر.
في الواقع لا يبدو ان صالح سيتنحى دون صفقة تحقق له أعلى تطلعات (الخروج المُشرف)، إنه ببساطة يريد مشاطرة اللقاء المشترك في لعبة تبادل للادوار على طريقة الكراسي الموسيقية.
عند نهاية المطاف التفاوضي الذي يبدو مضنياً، ستتبدى غايات الرجل بوضوح، انه يريد ان يبقى رئيساً مدى الحياة، ولكن هذه المرة لن يكون رئيساً للجمهورية بل سيكون رئيساً لحزب المعارضة القادم (المؤتمر الشعبي العام) ياسلام..!
صالح يسعى لدور قيادي جديد في الحياة السياسية اليمنية، سيتنحى وقد يقيل أولاده واولاد أخيه، لكنه لن يتخلى عن هذا الدور الجديد الذي سيحقق له أمرين، اولهما: غاية الخروج المُشرف والآمن، وثانيهما: القدرة على تصفية حساباته مع خصومه السياسيين والعسكريين عبر أدوات الحياة السياسية!
يدرك صالح ان بقاءه في الداخل –بعد التنحي- واحتفاظه برئاسة حزب المؤتمر، سيمكنه من اعادة انتاج ذاته سلطوياً في مرحلة ما، إما عبر الشراكة مع المشترك او عبر صناديق الاقتراع التي قد تتسبب في اعادته الى كرسي السلطة ليس كرئيس للجمهورية بالطبع، وانما كرئيس للوزراء بعد اعتماد النظام البرلماني..!
بالنسبة لسلطوي يهدد بتكرار السيناريو الليبي الدموي، يبدو الطرح الصالحي الأخير متجاوزاً للمألوف ومتصفاً بما يسميه منير الماوري (موغادة صنعاء)..
يحاول صالح ان يضع الثورة السلمية واللقاء المشترك في تموضع صعب للغاية، ليس هذا فحسب بل ويحاول (بحديثه عن اجتثاث المؤتمر على طريقة حزب البعث في العراق) جرجرتهما –اي الثورة والمشترك- الى مربع الاقصاء وتهم الالغاء للاخر.
انه يقول للعالم: سأغادر السلطة مع حزبي للالتحاق بصفوف المعارضة، مراوغة رغم عدم استساغتها وصعوبة بلعها داخلياً، إلا انها يمكن ان تحظى بالترحيب خارجياً، لاسيما وهي تحقق موجبات الانتقال السلمي التي ينشدها المجتمع الدولي والولايات المتحدة الاميركية.
المؤتمر يستلم السلطة من المؤتمر! حتى وان بدا صالح متطلعاً –في نهاية المطاف التفاوضي- الى زعامة المعارضة، إلا ان واقع الحوارات الجارية لنقل السلطة يؤكد ان سقوف التطلعات الصالحية اعلى من ذلك بكثير.
فهو –وان تنحى سلمياً عن رئاسة الجمهورية- سيسعى بالمقابل للاحتفاظ بموقعه الحزبي كرئيس للمؤتمر الشعبي العام الذي يملك الاغلبية البرلمانية في المجلس النيابي، وهو ما يعني امكانية ان يبقى حاكماً فعلياً من موقعه كرئيس لحزب الاغلبية..!
رغم ان المشترك –خلال الجولة التفاوضية الاخيرة التي احتضنها منزل نائب الرئيس عبدربه منصور هادي- بدا يقظاً للتكتيكات الصالحية إثر مطالبته بإمتناع الرئيس عن المشاركة في الحياة السياسية بعد التنحي، إلا انه –اي المشترك- لم يكترث لهوية الرئيس القادم بدليل موافقته على انتقال الرئاسة الى الفريق عبدربه منصور هادي امين عام المؤتمر الشعبي العام.
عدم الاكتراث حتى وان كان معبراً عن محاولة مشتركية ذكية لطمأنة قادة المؤتمر، الا انه يعد تجاوزاً لحقيقة الارتباط الكبير بين الحزب والرئيس، فحتى وان كان المؤتمريون حريصون على مصيرهم بالدرجة الاولى، إلا انهم -في الوقت عينه- مجبرون على التمسك بصالح كرئيس للحزب لإدراكهم ان خروجه سيضع النهاية الحتمية للمؤتمر لاسيما في ظل الاستقالات والتداعي المتواصل لقواعده الشعبية في المحافظات.
وبما ان صالح –حسب حديثه للعربية- لن يتنازل عن رئاسته للمؤتمر الشعبي العام، فإن انتقال السلطة الى نائب رئيس الجمهورية يعني تداولاً سلمياً في إطار البيت الداخلي المؤتمري، بتعبير آخر: سيحتفظ المؤتمر والرئيس بموقعيهما كحاكمين حتى وان انتقلت الرئاسة الى النائب، إذ سيبقى الاول حزباً حاكماً بوصفه مالك الاغلبية النيابية، وسيبقى الثاني حاكماً بوصفه رئيساً لحزب الاغلبية..!
صالح زعيماً للمعارضة! يدرك قادة المؤتمر ومعهم الرئيس ان تطلعاً كهذا لن يساعد على انهاء الثورة السلمية، غير انهم سيحاولون تحقيقه مع الاحتفاظ بقدرتهم على خفض هذا السقف التطلعي كلما لاحت بوادر المواجهة وصولاً لإطالة أمد التفاوض والحوار.
ربما كان المؤتمر يخشى من ملاقاة مصير التهديد بالحل الذي انتهى اليه حال الحزبين الحاكمين في تونس ومصر (الدستوري والوطني) غير انه بتماسك لجنته العامة والتفافها ومؤازرتها لصالح، يحاول تحقيق هدف اعلى من غاية البقاء عبر التشبث بمايراه حقاً في التواجد ضمن التركيبة القيادية المنتظرة للبلاد.
حين كان الرئيس يتحدث عن نقل السلطة إلى من وصفها ب(الايادي الامينة) لم يكن بالقطع يعني المشترك او اي قوى في المعارضة، إذ كان يقصد بوضوح المؤتمر الشعبي العام.
هنا يمكن القول ان الرئيس واللجنة العامة يحاولان إبقاء المؤتمر حزباً حاكماً في مقابل تنحي الرئيس عن الحكم، ولأن غاية كهذه تبدو في ظل اتقاد روح الثورة السلمية صعبة المنال، فسيحاول الطرفان إبقاء المؤتمر شريكاً في السلطة القادمة، فإن استعصى الامر –ولايبدو ان سيستعصي- فقد يقبل الطرفان بتبادل في التموضعات بين المشترك والمؤتمر بحيث يحكم المشترك وحلفاؤه في الثورة (المعارضة الخارجية، الحراك، الحوثيين) ويخرج المؤتمر الى المعارضة بصورة تمنح الرئيس المُتنحي زعامة احزاب المعارضة (المؤتمر واحزاب التحالف)..!
المقايضة على أثمان التنحي بمحاولتنا استقراء الموقف من أبعاد وزوايا اكثر عمقاً واقتراباً من مكمن الاشكال وجوهره سنصل الى الحقيقة التالية: المؤتمر الشعبي ليس هو المعضلة الحقيقية ولم يكن كذلك يوماً بقدر ما كان أبرز ادواتها.
المشكلة الحقيقية تكمن في الابقاء على الاسرة الحاكمة عبر تجنيب الاولاد (نجل الرئيس وابناء اخيه) مصير الاقصاء والابعاد عن مواقعهم السيادية الحساسة، لقد كان صالح واضحاً بهذا الشأن، إذ اكد ان اولاده واولاد اخيه موظفون لدى الدولة وليس بإمكانه حرمانهم من حقوقهم الدستورية في الوظيفة العامة.
ان كان صالح يقايض على اثمان التنحي، فإن بقاء الاولاد –بالنسبة إليه- يعد الأعلى اهمية والاغلى ثمناً، وعليه فالتلويح بعصا المؤتمر الشعبي العام في توقيت كهذا ربما كان مجرد محاولة لتجنيب الاولاد مصير الاقصاء اللائح.
في وسعنا الادعاء هنا ان صالح يريد تقديم المؤتمر الشعبي العام ككبش فداء للاولاد، عبر تحويله الى فزاعة في مواجهة الثورة السلمية تمهيداً لجعله هدفاً رئيسياً للإسقاط، وذلك تحقيقاً لغاية غض الطرف عن الهدف الرئيسي والاساسي المتمثل في (اقصاء الاولاد).
ثمة ترتيب يمكن اضفاؤه على الغايات الصالحية، فإذا كان الحفاظ على وجود الاولاد يجسد غاية اولى، فان الغاية الثانية تتلخص في بحث الرئيس عن موقع له في الحياة السياسية بعد التنحي، هذا بينما يجسد الحرص على وجود المؤتمر الشعبي العام في التركيبة القادمة ثالث الغايات.
بوسع الرئيس هنا استخدام الغايتين الثالثة والثانية كأداتي ضغط لإنفاذ وتمرير الغاية الاولى من قمقم الاستحالة والرفض الثوري البائن، غير انه في حال صمود الثورة السلمية واللقاء المشترك في وجه محاولات الحفاظ على وجود الاولاد، سيضطر لإجراء تغيير في الترتيب الآنف يُفضي لتحويل المؤتمر إلى حزب معارض وابقاء صالح في رئاسته مقابل تنحيه عن رئاسة الجمهورية وإقالته لأولاده وأولاد أخيه.
بين بقاء الأولاد ورئاسة المؤتمر ثمة رغبتان تتصادمان بوضوح، الاولى: رغبة صالح في الابقاء على الاولاد والحفاظ على وجودهم في المناصب السيادية التي يحتلونها، والثانية: رغبة صالح في زعامة المعارضة واثبات فشل المشترك وحلفائه في إدارة الدولة.. يعي الرئيس ان تحقيق الرغبتين معاً ضرب من ضروب الاستحالة، لذا يبدو حائراً بينهما، فهو يريد ضمان مستقبل الاولاد، لكنه يتطلع ايضاً الى خروج يحفظ له موقعاً في الحياة السياسية ويحقق له –عبر ادوات السياسة- رغبة الانتقام وتصفيه الحسابات مع خصومه في المركز المقدس.
التصادم الفائت لايبدو واضحاً في التصريحات الاخيرة لصالح التي بدا فيها متمسكاً بالغايتين (الابقاء على الاولاد والاحتفاظ برئاسة المؤتمر)، السبب يكمن في أمله بتحقيقهما معاً، وهو ما يجعلهما –اي الغايتين- يبدوان ثمناً غير قابل للتنازل مقابل تنحي الرجل وقبوله بإزاحة المؤتمر الى المعارضة.
موافقة إجبارية رغم ان الثورة الشبابية السلمية لا يمكن ان تقبل بأي من الغايتين فضلاً عن القبول بهما معاً، الا ان اللقاء المشترك كتكتل ديمقراطي يأنف الاقصاء ويتغيا حقن الدماء ويحسب حساباً للمواقف الدولية، يمكن ان يقبل (اجبارياً) باحتفاظ صالح بموقعه في المؤتمر الشعبي العام، غير انها موافقة ستظل مرهونة بشروط ثورية تبدأ بتنحيه عن رئاسة الجمهورية وإقالة جميع أبناءه وأبناء أخيه وأقربائه، وتنتهي بإعادته لجميع الاموال والارصدة والثروات في بنوك سويسرا والمانيا واميركا ودبي والعالم، بموازاة خروج المؤتمر الى المعارضة والتزام صالح بعدم السعي لتعطيل المرحلة الانتقالية.
وبما ان صالح سيكون جزءاً من الحياة السياسية، فليس في وسع المشترك أن يقدم له اي ضمانات بعدم تعرضه هو وابناؤه وحزبه لأي ملاحقات قضائية.
موافقة كهذه رغم صعوبتها بالنسبة للمشترك، إلا انها تظل واردة لثلاثة مسببات رئيسية، اولها: ان الطرح الصالحي يمكن ان يستهوي المجتمع الدولي والاقليمي نظراً لتجمله بقناع الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة، وثانيها: لكونه يحقق مطلب التنحي ونقل السلطة، وثالثها: لأنه يكفل تجنيب البلاد مآلات المواجهة وسيناريوهات سفك الدماء.
مسار المواجهة وتعقيدات التنازل ولأن رفض المشترك وارد كما هو حال الموافقة، فان وضعاً كهذا يمكن ان تتفرع فيه الاحتمالات الى مسارين، الاول: ايقاع البلاد في اتون مواجهات عسكرية بين الجيش الوطني والحرس الجمهوري الرئاسي، والثاني: تنازل الحاكم نهائياً ورضوخه لجميع المطالب الثورية.
حين نحاول بحث ممكنات المسارين، ليس بإمكاننا في المسار الاول، اغفال التلويحات الصالحية المتكررة باستخدام الخيارات العنفية، حيث سبق له التلويح باللجوء الى العنف في مناسبتين الاولى: عندما هدد الجنرال علي محسن –في مكالمة هاتفية- بقصف الفرقة الاولى مدرع وساحة التغيير، والثانية: حين قال للعربية ان اي مواجهة عسكرية ستُفضي بالنهاية إلى جلوسنا على طاولة الحوار متساءلاً: فلماذا لا نتحاور اذن قبل سفك الدماء؟
تعقيدات المسار الثاني (رضوخ الحاكم لجميع المطالب الثورية) رغم انها لا تعني استحالة تحقيقها عملياً، الا انها –في الوقت عينه- تكشف حجم الصعوبة البادية، وهي بالمناسبة صعوبة يمكن مجاوزتها بتكتيكات وترتيبات وتدابير جديدة.
هنا في وسع الثورة السلمية واجنحتها السياسية في المشترك القيام بخطوات تصعيدية تحقق غاية الاخضاع السلمي للنظام دون منحه اي ذرائع لجرجرة الثورة نحو الخيارات العنفية.
حكومة انتقالية ومجلس قيادة يمكن للثورة مثلاً ان تشكل مجلساً لقيادتها على ان تنبثق منه حكومة انتقالية تتولى إدارة المرحلة الانتقالية على طريق نقل البلاد من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية.
كما يمكنها –اي الثورة- القيام بتحركات واسعة عبر مجلس القيادة وذلك على النحو الآتي: أولاً: البدء في تنفيذ اضراب عام في جميع مؤسسات ومرافق واجهزة الدولة. ثانياً: التحاور مع من تبقى من قادة الجيش والامن للانضمام الى الثورة، ثالثاً: السعي لتعديل الموقف الدولي بصورة تساند الخيار الثوري، رابعاً: التحاور مع من تبقى من القيادات المحترمة في الدولة والحزب الحاكم للإلتحاق بركب الثورة، خامساً: تكليف البعثات الديبلوماسية المنضوية في لواء الثورة بتمثيل الثورة خارجياً وشرح أهدافها للعالم، سادساً: التفاوض مع بعض الدول بهدف تجميد الارصدة الرئاسية في البنوك الدولية، سابعاً: ضمان حماية ماتبقى من اموال في البنك المركزي اليمني عبر تكليف الجناح العسكري للثورة ممثلاً بالقائد علي محسن والوية الفرقة الاولى مدرع بحماية البنك المركزي اليمني وفروعه في المحافظات بالاضافة الى البنوك الحكومية الاخرى وعلى رأسها بنك التسليف التعاوني والزراعي. ثامناً: توسيع رقعة الاعتصامات تدريجياً وصولاً الى دار الرئاسة.
استحالة إنتاج لحظة ثورية مماثلة في الواقع، ليس من السهل على الثورة –في وضعها الراهن- ان تحقق جميع اهدافها دون اي تنازلات للحاكم، وهو ما يجعلنا نطالب المشترك وباقي الحركات الثورية الشبابية في ساحات النضال، بالبدء الفوري في بحث الاجراءات التصعيدية مع الابقاء على وجود القنوات التفاوضية شريطة حضور الضامن الدولي و الاقليمي.
على المشترك وهو يعكف في بحث الخيارات المتاحة إدراك حقيقة تبدو غائبة بفعل تسارع الاحداث مؤداها: ان الثورة السلمية الراهنة تعد فرصة التغيير الذهبية والاستثنائية، إذ يصعب او بالاحرى يستحيل اعادة انتاجها مرة اخرى بذات التأثير والفاعلية، وبالتالي لا ينبغي الاكتفاء بقطاف الغايات الدانية والتعويل على ترحيل ما تبقى لحوارات او مفاوضات او اعتصامات اخرى.
باختصار.. ثمة واقع يمني جديد كلياً، يتشكل في هذه اللحظة الثورية، وينبغي على المشترك والثوار في ساحات التغيير والنضال، الصمود والجسارة والتجلد حتى تكتمل ملامحة الموشكة على الانتهاء وكفى!