في إطار الحديث عن الحراك السلطوي الذي تمارسه السلطة بمنظومتها القبلية والعسكرية والإعلامية، ينبغي الإشارة إلى مفاهيم كثيرة جداً تبدو غائبة عن الكثير، حيث هذه الثلاثة هي تقريباً إحدى أهم المكونات الأساسية للمجتمع اليمني المتمدن والأقل مدنية، فنحن تقريباً بفعل عوامل أخرى ليس من مكونات هذا المجتمع تجاوزناها، وأردنا بإرادة حرة شعبية ملهمة أن نعبر عنها سواء إقتداء بغيرنا في العالم العربي أو نتيجة لتأثير الحراك السلمي والثقافي والحوراي الذي بدأ تقريباً قبل ثورة تونس وقبل أن يحرق البوعزيزي نفسه، نحن كنا على طول الوقت نعبر عن رفضنا لكل ما من شأنه أن يضعنا أمام مهاترات أكثرها سوء ما سماه الرئيس في كلمته أمام القوى الأكثر تأثيراَ بالبلاد والأكثر قوة والأكثر غموضاً في مواقفها وهي المنظمة العسكرية بأنه ممكن أن تتطور الأمور إلى حرب أهلية، كان هناك حراكاً سلمياً بالجنوب وحراكاً تعبوياً شبه طائفي تطور إلى مواجهة مسلحة في الشمال وكان هناك منظومة سياسية "اللقاء المشترك" تعمل جاهده على مواصلة الحوار ووضع ما من شأنه باعتقادها أن يحل مسائل تجعل الوطن في مأمن من الانزلاق إلى ما هو أبعد من الخيال في مجتمع تسوده القبيلة وتغلب عليه الآنفة والعزة حتى في أسوا الظروف والحالات، هذا كله ولدى المؤسسات القائدة للحركات حالة من التوجس من حركة الشارع اليمني الذي شاهد ستة حروب في الشمال وتبلورت لديه قناعات كثيرة إما نتيجة الأدلجة السياسية أو نتيجة الأضرار التي تأثر بها نتيجة هذه المواجهات العنيفة، من ضمن هذه القناعات بأن السلطة لم تعد تستطيع الديمومة إلا بأزمة هنا وموقف صعب هناك، كان الشمال والجنوب هم أكثر تحديقاً وتفكراً وتعصباً لمواقف متجاذبة حتى وصل الأمر في الشمال إلى القتال وفي الجنوب إلى إعلان الانفصال، الوسط كان غائباً لكنه كان المستهدف الرئيسي بدون قصد من هذا الذي يجري هنا وهناك فولد لديه قناعات كثيرة من ضمنها ما يحدث الآن من حركات احتجاجية غاية في الفاعلية والمقاومة والثبات. وبالتالي فإنه أول ما ينبغي الإشارة إليه هنا بأن هذه الحركة الاحتجاجية الثورية المنادية بإسقاط النظام تريد إسقاط مشروع القتال المستمر في الشمال ومشروع التغيير السابق لهذه الحركات والذي وصل إلى درجة المطالبة بالانفصال بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي تعامل فيها النظام مع القضيتين وأعتبرهما ولا زال مشروع بقاء له ينبغي استثماره على الأقل حتى نهاية ولاية الرئيس المحددة وكانت هذه هي الخطة الخمسية التي ظل النظام يشتغل عليها طول الوقت بعد أن أحس بقرونه الاستشعارية بأن هناك حراكاً في البلد قد يقذف به إلى ما لا يمكن أن يتصوره أحد. الشيء الآخر الذي يجب التنبه له والجميع يشير هذه الأيام إلى مسألة الحب والكره، مسألة حب الرئيس صالح والتجمهر حوله ومسألة كرهه والتجمهر ضده والمطالبة بإسقاطه، حيث يجب الإشارة إلى أن هناك محاولة كارثية قد تؤدي بالبلد إلى انقسامات كثيرة ثقافية أولاً، حيث الانقسام الثقافي هو أسوأ الانقسامات بالإضافة إلى الانقسامات القبلية التي تقريباً قد تجاوزناها نتيجة انضمام أكثر القبائل تأثيراً في البلاد إلى الثورة السلمية في البلاد، هذا الانقسام الثقافي قد يتطور في بعض الأحيان لمحاولة إزالة طرف وبقاء طرف آخر حيث أن هذا النزاع الثقافي التي تغلب عليه طابع التعصب وحب الرأي والذات ولا يقبل فيه الأطراف الحوار والخروج بصيغة متقاربة تكون نتائجه كارثية، خاصة وأن الكثير من رواد هذا الحراك الثقافي يستفتونك على حب الفرد ويقنعونك بتقديسه وفضله دون الحديث عن مفهوم الدولة والمواطنة والعلاقة بينهما، دون التطرق إلى تعريفات غاية في الأهمية كمفهوم العدالة الاجتماعية والوحدة وإلغاء التبعية ومحاربة الفساد، وهذه محاولة فاشلة أثبتت فشلها منذ عقود طويلة، الظاهرة التي نحن في صدد الحديث عنها ليست من إنتاج النظام وإن كان ممن أسهم في تأصيلها ولكنها ظاهرة عربية متأصلة في الكيان العربي منذ قرون أو بمعنى أدق منذ الخلافة الأموية وحتى عصرنا وعلى مختلف مللنا ونحلنا نمارس تقديس الفرد دون الغوص في الكيان الإنساني ككيان واحد يولي من يسوده ويقوده بإرادته وقناعاته، ربما المقاربات الملفتة في المشهد اليمني بأن الحركات الاحتجاجية ظهرت من أول ظهورها لتطالب بإسقاط الفرد الذي ظل يأله نفسه وهذا اكبر دليل على الغبن الذي يشكو منه اليمنيين منذ زمن، حيث لم يحدث في الثورة الشبابية اليمنية أن تطورت المطالب تطوراً وإنما كان هدفها الأول والرئيس إسقاط التعبئة التي تكررت وترسخت في بعض الأذهان منذ عقود وعلقت كلها بسؤال معيب لكل اليمنيين وهو هل سيكون ثمة يمن هنا بدون علي عبدالله صالح؟
إذاً ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو مكسب كبير من مكاسب الثورة اليمنية الثانية بأنها ألغت تأليه الزعيم وتقديسه واعتبرته فرد من أفراد اليمن تولى مسؤولية البلد منذ عقود أصاب وأخطأ، شكر كثيراً على ما أصاب، والثوار أهل أن يغفروا له ما أخطأ إلا فيما يخص دماء الأبرياء التي تسال يومياً من أطراف حريصة كل الحرص على بقائه، ومنه كرئيس أصيب بجنون العظمة من جراء التلويحات التي يراها في صوره بكل مكان تماماً كالعقيد القذافي ..
************** ينبغي الإشارة أيضاً إلى تلك المشاركة الجماهيرية الواسعة وذلك الكم من الاستقالات من عضوية الحزب الحاكم والتي أكدت وقوف الكثير من المثقفين الذين حاولوا الإصلاح من الداخل كنهج يبدو جلياً في الثقافة اليمنية.. مسألة الإصلاح من الداخل تولدت في اعتقادي لدى كثير من اليمنيين نظراً لانعدام الثقة بأحزاب المعارضة والتحالف الذي جرى خصوصاً بين حزب الإصلاح والمؤتمر في التسعينات، فكانت هذه الإشكالية المعقدة باعتقادي أكبر دليل على ضعف الأدلجة السياسية،كانت هناك مهمة صادقة للفهم، تتبلور وفق رؤية خاصة أحياناً يتمثلها مفكر معين أو داعية معين أو مدرسة معينة، لكن الأعضاء المنتمين للسلطة أو المؤتمر في حقيقة الأمر ليسوا مؤدلجين سياسياً يعني لا توجد أي أفكار تتبلور داخل الحزب لتولد قناعات لدى أصحابه بالتمسك به وإنما كانت المسألة مسألة شخص له مواقفه ترأس حزباً سياسياً وهو المؤتمر الشعبي العام وانضوى تحت لوائه الكثير من القيادات بأمل الإصلاح من الداخل فكانت المشاكل التي صنعتها السلطة اكبر من كل الداخل وأكبر من كل القيادات التي تولت حكم هذا الحزب لثلاثة عقود تقريباً، لأن هناك أزمة الفرد أزمة الشخصية التي تولت وكفنها معها كما تدعي، أزمة الحزب تلك لم تظهر جلياً على الساحة ليس بسبب عدم هشاشة النظام فالنظام هشاً منذ البداية وإن بدى متماسكاً من ناحية اعتماده الكلي على القوة العسكرية التي يسيطر عليها الأبناء والأخوة إلا أن هشاشته تكمن في ضعفه الاقتصادي والفساد الفاضح في كل مكان وكذلك كونه بلداً يرتكز على التحالفات القبلية في اغلب الأحيان، لكن ركوب التيار المؤتمري كان منذ البداية كبقية الأحزاب التي حكمت باسمها الأحزاب السياسية في البلدان العربية التي سقط حكامها وهي أنه حزب سياسي يترأسه الرئيس وأقويائه كلهم بجانبه..
هنا يجدر الإشارة إلى موضوع التجمهر حول الحزب السياسي الحاكم في هذا البلد والذي يعطي سعة كبيرة لأصحاب المصالح الشخصية بمحاولة إثبات الولاء بكل ما يتملكهم من قوة لأن هناك مصلحة سوف تنتهي بنهاية النظام القائم فالفرد مهما كان حبه لا يمكن أن يبقى في القلب وقد أوغله بضربات قاتله على صدور شعبه تلقوها بروح التضحية والولاء لما هو أكبر من كل الأشخاص والمسميات والمصالح ألا وهو هذا الوطن الكبير الذي يخوض ثورة أخرى لا تتجاوز الثورة الأولى ولكنها امتداد طبيعي لها..
********************** لم يستطع أن يفهم الحراك السلطوي بأن الأمور كلها خرجت من يده كطرف كان حاكماً وفقد شرعيته وأنها أيضاً خرجت من أيدي المشترك كطرف سياسي سابق إن صح التعبير، هناك الآن طرف واحد وهم الشباب المرابطون في ساحات الحرية ولهذا يجب أن يكونوا شركاء في التفاوض والقرار مع أي مبادرة سواء كانت من دول الخليج أو غيرها..
ما أخشاه في مسألة الثورة اليوم هو أن يسئ الشباب استخدام الإنجازات التي تحققت إلى الآن لعدم وجود تصعيد سياسي ممكن أن يطور من الحالة الثورية إلى ما هو اكبر من التجمهر في الساحات وهذا والتصعيد يتطلب عمل سياسي واسع ودعوة شعبية وعربية وعالمية متواصلة إعلامية وشعبية لتحقيق ثورة الشباب ومطالبهم، ومن ثم التحرك إلى أكبر المؤسسات التي يعتمد عليها النظام مثل المؤسسة الإعلامية والعسكرية مصحوبة هذه التحركات بروح الشباب الذي يرمي بالورد ويعطل العمل المناهض لثورته الشبابية، هذا سوف يجعل من الحراك الثوري الحالي عملاً متحركاً وليس قريراً ساكناً في مكان ما يجمد روح الشباب ويعطل سير الثورة ويطيل تفكير الحاكم بخدعه الكثيرة ومكره السيئ..