على غير العادة، انسقت وراء أحدهم في جدال ثوري أقل ما يمكن وصفه بأنه "عقيم". غير أنه فتح آفاقاً أمام المزيد من العصف الذهني الأحادي؛ المقتدر ولو نسبياً، على لملمة شتات الأفكار. لقد بدأ الأمر على أنه لقاء ودي خالص لمجموعة متنورة ومنوعة من شباب التغيير بصنعاء، لتدارس مقترحات لآليات تمكن الشباب من خلالها، رؤية وملامسة مستقبلهم المنشود. لكن ما بدا أنه "منرفز"؛ هو ذلك المنطق الذي يتمترس خلفه بعض من وجد نفسه بفعل أيدلوجيا قديمة أو وعي مظلل، خارج إطار الرصانة المفترضة لشباب يمضون نحو مستقبلهم المدني بخطىً ثابتة. يحدث أن تجد في شباب الساحات من هو متحمس للثورة وهدفها في إسقاط صالح ومحاكمته بشتى الوسائل والطريق. أيضاً، تسمع من هو مصمم على الزحف حتى لو كلف الأمر آلاف الشهداء، وهذا حق مشروع للثورة والثوار أوافقه أنا وكل من سئم من هذا الوضع المراوغ؛ وتستطع أن تقرأ تفاصيل الحماس وردة الفعل العجلة لأي تصرف أو تصريح يخرج به صالح ونظامه الواقف الآن على شفى هاويته. في نقاشاتي مع شباب الساحات حول أهمية التنسيق بين أعضاء التكتلات المختلفة داخل الساحات وخارجها، انبرى لي أحدهم برفض فكرة التفاوض مع شباب ليسوا على دوام متصل في الساحات، بدا كما لو أنه يؤكد أن الكائنات المناضلة الحقيقية في هذه الثورة، ليست أكثر من وجه شاحب لشاب يخرج من خيمته عند موعد الغداء وخيوط "الكمبل" الأسود متناثرة على أجزاء جسده. في الحقيقة كنت قد عذرت هذا الثائر حين أجزم بأن الشرعية القادمة هي شرعية الساحات. لربما لم يدرك هذا الشاب البريء أن "الأمن القومي" يعرف من أين تشترى الخيام وكيف يقذف بكائناته النضالية؛ مدفوعة الأجر؛ إلى جانب الشباب. أو أنه لم يدرك حقيقة أن الأيادي القوية في ضفة الثورة أيضاً، قادرة على التحريك والتحريض وربما التحديق في تفاصيل القادم الأمر الذي لا يمنعهم من صناعة تكتلات شبابية تستخدمهم متى ما تشاء. الأحكام الجاهزة والشك أو التوجس والارتباك أمر وارد وطبيعي في هذه الثورة التي لا أحد يؤمن أن هناك خطر يحوم حولها بعد الآن. ولذا لا بأس من "نزق" بعض الثوار فيما يخص تسرعهم وعدم الاحتكام إلى التأني في بعض ردود الأفعال المعنوية والملموسة؛ وهذا طبعاً، مفروض لأننا أمام نظام مراوغ ومكار لا يجب أن تغمض أمامه الأجفان. أتذكر وصف صالح لانشقاق الجيش بعد جمعة الكرامة وعلى رأسهم اللواء على محسن؛ لقد قال عنه في مقابلة تلفزيونية إنه نزق من قبل البعض من الضباط. لا أدرى لم أشعر أن أولئك "النزقين" جزء أساسي من الثورة وأن "النزق" في مثل هذه الظروف التي تتطلب ركل نظام عاث في الأرض الفساد؛ أمر واجب ومفروض على كل أبناء الشعب الشرفاء. اليوم، استوعبت لم قال نزال قباني "إني لا أؤمن في حب لا يحمل نزق الثوار". أدركت للتو، أن القضايا السامية كالثورة والأهداف النبيلة كالحب تتطلب من صاحبها أن يكون بهكذا حالة من العنفوان والصخب واللا استسلام. ولا ضير أن وجدنا في أعضاء ثورتنا السلمية أيضاً، من يكون مباركاً لمقترحات التحرك بكل الوسائل لإسقاط نظام اتكئ على الفهلوة والمراوغة. وبالطبع، ثمة فرق شاسع بين فهلوة الرئيس صالح ونزق الثوار، ويصب في خانة الطرف الأخير وأهدافهم. لقد بدا الثوار السلميون في أتم صورهم النضالية المدنية رغم الإشكالات البسيطة التي وان فشا سرها إلا أنها لا تؤثر على هدفهم ومستقبلهم. فيما بدا صالح طوال السنوات الماضية شبه مرتبك أخلاقياً، غير أن هذه الثورة كشفت عن أنه كان ولا يزال معرى من كل القيم الإنسانية التي اعتادها العالم في طبع اليمني. وفي تقديري فإن دراسة الحالة التي يبدو عليها المدعو صالح لا يختلف اثنان على أنها بحاجة لأكثر من طبيب وباحث. ولذا فمن الأجدى أن لا نخوض كثيراً، في فهلوة رجل التوى على عنقه حبل المشنقة فيما هو لا يزال متمسك بطلب زئبقي كبير وعد بتحقيقه قبل حتفه. الأمر الذي يؤكد أنه قد يضيع المزيد من الوقت فيما لن تفوته لعنة الثورة والمستقبل والتأريخ.