الصين.. العثور على مقابر مليئة بكنوز نادرة تحتفظ بأسرار عمرها 1800 عام    في بيان للقوات المسلحة اليمنية.. لا يمكن السكوت على أي هجوم وعدوان أمريكي مساند للعدو الإسرائيلي ضد إيران    كتاب قواعد الملازم.. وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن " بول دريش جامعة أكسفورد" (1)    في خطابه التعبوي المهم .. قائد الثورة : المعركة واحدة من قطاع غزة إلى إيران    ترامب "صانع السلام" يدخل الحرب على إيران رسمياً    الكاراز يعادل رقم نادال على الملاعب العشبية    دول المنطقة.. وثقافة الغطرسة..!!    بين عدن وصنعاء .. شهادة على مدينتين    رسائل ميدانية من جبهات البقع ونجران و الأجاشر .. المقاتلون يؤكدون: نجدد العهد والولاء لقيادتنا الثورية والعسكرية ولشعبنا اليمني الصامد    الخارجية اليمنية: نقف مع سوريا في مواجهة الإرهاب    تفكيك أكثر من 1200 لغم وذخيرة حوثية خلال أسبوع    اعلام اسرائيلي يتحدث عن الحاجة لوقف اطلاق النار والطاقة الذرية تحذر وأكثر من 20 ألف طلب مغادرة للاسرائيلين    بين عدن وصنعاء .. شهادة على مدينتين    كأس العالم للأندية: ريال مدريد المنقوص يتفوق على باتشوكا المكسيكي بثلاثية    المنتخب الوطني تحت 23 عامًا يجري حصصه التدريبية في مأرب استعدادًا لتصفيات آسيا    بين عدن وصنعاء .. شهادة على مدينتين    إيران تنتصر    قطاع الأمن والشرطة بوزارة الداخلية يُحيي ذكرى يوم الولاية    مرض الفشل الكلوي (9)    منظمات أممية تحذر من مجاعة في مناطق سيطرة الاحتلال    "وثيقة".. مشرفون بحماية اطقم ومدرعة يبسطون على اراضي القضاة غرب العاصمة صنعاء    - رئيس الجمارك يطبق توجيهات وزارة الاقتصاد والمالية عل. تحسين التعرفة الجمركية احباط محاولةتهريب( ربع طن)ثوم خارجي لضرب الثوم البلدي اليمني    مناقشة مسودة التطوير الإداري والمؤسسي لمعهد للعلوم الإداري    انتشال جثة شاب مات غرقا بسد التشليل في ذمار    - ظاهرة غير مسبوقة: حجاج يمنيون يُثيرون استياء جيرانهم والمجتمع.. ما السبب؟*    - وزير خارجية صنعاء يلتقي بمسؤول أممي ويطالبه بالاعتراف بحكومة صنعاء \r\n*الأوراق* تنشر عددًا من الأسباب التي    ذمار.. المداني والبخيتي يدشّنان حصاد القمح في مزرعة الأسرة    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الدكتور الأفندي بوفاة شقيقه    "عدن التي أحببتُها" بلا نازحين.!    ريال أوفييدو يعود إلى «لاليغا» بعد 24 عاماً    توقيف الفنانة شجون الهاجري بتهمة حيازة مخدرات    كشف أثري جديد بمصر    الرئيس الزُبيدي يبحث مع سفيرة بريطانيا ومسؤولي البنك الدولي آخر المستجدات السياسية وأزمة الكهرباء    الفريق السامعي: إرادة الشعوب لا تُقصف بالطائرات والحرية لا تُقهر بالقنابل ومن قاوم لعقود سيسقط مشاريع الغطرسة    إشهار الإطار المرجعي والمهام الإعلامية للمؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم    51 شهيدا في غزة بينهم 7 من منتظري المساعدات خلال 24 ساعة    من قلب نيويورك .. حاشد ومعركة البقاء    فئة من الأشخاص عليها تجنب الفراولة    الحديدة و سحرة فرعون    الدولار في عدن 3000    خبراء :المشروبات الساخنة تعمل على تبريد الجسم في الحر الشديد    حادث مفجع يفسد احتفالات المولودية بلقب الدوري الجزائري    السلبية تسيطر على ريفر بليت ومونتيري    شوجي.. امرأة سحقتها السمعة بأثر رجعي    من بينها فوردو.. ترامب يعلن قصف 3 مواقع نووية في إيران    أثار نزاعا قانونيّا.. ما سبب إطلاق لقب «محاربو السوكا» على ترينيداد؟    فلومينينسي ينهي رحلة أولسان المونديالية    علاج للسكري يحقق نتائج واعدة لمرضى الصداع النصفي    هاني الصيادي ... الغائب الحاضر بين الواقع والظنون    روايات الاعلام الايراني والغربي للقصف الأمريكي للمنشآت النووية الايرانية وما جرى قبل الهجوم    استعدادات مكثفة لعام دراسي جديد في ظل قساوة الظروف    قصر شبام.. أهم مباني ومقر الحكم    فساد الاشراف الهندسي وغياب الرقابة الرسمية .. حفر صنعاء تبتلع السيارات    الاتحاد الأوروبي يقدّم منحة مالية لدعم خدمات الصحة الإنجابية في اليمن    على مركب الأبقار… حين يصبح البحر أرحم من اليابسة    من يومياتي في أمريكا .. بين مر وأمر منه    بين ملحمة "الرجل الحوت" وشذرات "من أول رائحة"    حين يُسلب المسلم العربي حقه باسم القدر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة.. في سبيل الانهيار أم على طريق الحرير؟
نشر في المصدر يوم 12 - 05 - 2011

قبل ثلاثة أشهر نقلت صحيفة أميركية كُبرى عن مسؤول حكومي يمني «إذا كنتم تعتقدون أن الفيس بوك يمكن أن يصنع ثورة شبابية في اليمن فأنتم مجانين. نحنُ في بلد، يقول المسؤول اليمني الكبير لا توجد فيه كهرباء وأنتم تتحدثون عن الفيس بوك». في الواقع، يصعب تحديد نسبة رقمية لدور الفيس بوك في الثورة اليمنيّة، لكن المؤكّد أن المسؤول الكبير، الذي وصف مراسل الصحيفة بالجنون، لم يكن بالرجل العاقل. وحتى بعد ثلاثة أشهر، والعملية الثورية تصفي جيوب الأمل لدى نظام صالح، فإنه لا يبدو أن الأفق يخبّئ رجالاً أذكياء وعقلاء مع صالح.
تحدّث الزياني، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، السبت الفائت عن أمله في حل المشكلة اليمنية. قال إنه يراهِن على «العقلاء» في الطرفين. نعرف طرف الثورة، وهو كل فئات هذا الشعب. ومن البديهي أن هذا الطرف يعجّ بالعقلاء وأنصاف العقلاء والمجانين، كطبيعة أي شعب على ظهر الكوكب. لكن البحث عن عقلاء في الطرف الآخر قد يقود الزياني إلى ذلك المسؤول الحكومي الكبير الذي قال لصحيفة وول ستريت جورنال، الأميركية: أيها المجانين! عندما يلتقيه الزياني، في زيارة أخرى للتاريخ اليمني المعاصر، فإن هذا المسؤول الكبير سوف يسترخي على كرسيه ويقول: ثورة؟ عن أي ثورة تتحدث؟ أنت لا تفهم ما تقوله، لقد خرج كل هؤلاء لتأييدي. هل تتذكرون هذه الجملة التي قالها أمير المجانين وقائدهم إلى المنفى «القذافي» لمراسل البي بي سي؟
في الجمعة الأخيرة انفض الناس عن ميدان السبعين بسرعة رياضية. كان المعلّق، رجل الميكرفون، يصرخ بهم: عشر دقائق لو سمحتم نأخذ صورة علشان الرأي العام. تتذكرون أغنية «صورة صورة صورة.. كلنا عايزين صورة»؟ لم يكن موضوع الرأي العام يعني أمراً ذا بال بالنسبة لهؤلاء الذين جاءوا لأسباب شتّى لا علاق لها بما يهم الرأي العام، ولا حتى بالأزمة النفسية التي تعصف بصحة صالح عفاش. ليس أسوأ من أن تتحول الشرعية الدستورية إلى «عايزين صورة».
كانت اليمن، ساعة الصورة، قد انقسمت. لكن ليس على طريقة الاعتصام الذي نفذه حزب الله في وسط لبنان. يفكّر صالح بأن أمر الثورة اليمنية يمكن أن يكون مماثلاً للصورة اللبنانية. يضيف في أعماقه: لكن السنيورة استمرّ بعد ذلك، ونقل السلطة إلى الحريري. هذه المرّة سنقول له نحن: اليمن ليست لبنان. وسنسرد أسباباً كثيرة جدّاً، جوهرية وذكية، تجعل من هذه المقولة شأناً أقرب إلى العقل منه إلى الفكاهة الجماهيرية.
تحدثت مع الصديق د. محمد الصبري، الأمين العام السابق لرئاسة الوزراء، قبل أيام. حدثني باللغة الانجليزية من أميركا: ما هي توقعاتك؟ قلت له: نحنُ نتمنّى أكثر مما نتوقّع. قال: البلد سينهار اقتصاديّاً لو استمر الحال أكثر من ذلك، وهذه هي الحلقة الأخطر. بعد نقاشي مع الدكتور الصبري كان عبدالكريم الإرياني الذي يسهر مع صالح لأجل خدمة فكرة الاستقرار على الطريقة المنغولية، يردد نفس المقولة في لقاء مع الموقع الأميركي الشهير «بلوم بيرغ». لكن، هل هذه المقولة صحيحة؟
عندما اقتربت الثورة المصرية من ذروتها قرر شباب الثورة حماية البورصة عبر شراء مئات آلاف الأسهم. لكن البورصة لم تفتح إلا بعد اختفاء نظام مبارك بالكامل. لقد وصفتهم صحيفة المصري اليوم صبيحة ثاني أيام الثورة ب: الورد اللي فتح في جناين مصر. وكانوا بالفعل ورد مصر، وجناينها. وكان قرارهم حماية البورصة المصرية هو واحد من سلوكيات «الورد في الجناين». وعلى هذا النحو يمكن أن نتحدّث عن الشباب اليمني. لكن: لماذا لم يفطن الشباب اليمني إلى احتمال انهيار اقتصاد بلدهم لكي يتعاملوا معه بطريقة تقول إن وله هؤلاء الشباب بوطنهم ليس أقل من قدرتهم على التعبير عن هذا الوله؟
سأواصل نقاشي مع الدكتور محمد الصبري على صدر صحيفة المصدر للمرة الثانية خلال عام. لا وجود لسوق أوراق مالية في اليمن، يمكن لمؤشراتها أن تعطي صوراً واضحة عن حركة المال والاقتصاد في البلد. لا توجد مجموعات تجارية غير أسريّة إلا على نحو شديد البساطة. وهو ما يعني أن تكوين الاقتصاد اليمني هو تكوين بدائي جدّاً، لا يختلف كثيراً عن الاقتصاد الزراعي في أوروبا قبل 300 عاماً، حين كان صاغة الذهب يعملون أيضاً في حفظ أموال الناس في «شنطة حديد» مقابل رسوم شهرية. وعندما نقول: تكوين بدائي، فنحن نتحدث عن أمر ليس من العسير ملاحظة تغيراته، أو حتى الحيلولة دون تعقّد مساراته. تظل المشكلة الجوهرية للاقتصادي اليمن محصورة في قيمة العملة. المخاوف من انهيار قيمة الريال ترتكز على فكرة منطقية: زيادة الطلب على الدولار، والعملات الأخرى بمقابل بيع الريال بأي خسارة، بسبب خوف الناس من الغد المشوّش. هذا ما يسمى في علم الاقتصاد ب «الخطر المعنوي». أي انهيار العملة لأسباب غير اقتصادية. هناك سبب آخر، أيضاً، وهو زيادة الطلب على العملات الصعبة لتغطية احتياجات الاستيراد، المبنية في الأساس على وجود طلب شديد في السوق المحلية على المنتج الخارجي. بالنسبة لهذا السبب، فيمكننا القول: لقد دخل اليمن في حالة ركود بسبب قدرة الثورة على أن تحول السيرة التاريخية إلى سيرة ثورة، وتجليات العصيان المدني. هذا الركود، الذي كان الاقتصاديون يتندّرون بضرورته أحياناً لمصلحة حماية العملة المحلية، هو أهم عوامل حماية العملة في البلد الآن. بإمكاننا التأكد من ذلك من خلال متابعة مؤشّرات الميزان التجاري في الثلاثة الأشهر الأخيرة. وهو ما سيعني عمليّاً: انخفاض حاد في الطلب على العملة الصعبة. أي: استقرار سعر العملة المحلّية. على خلاف ذلك يتوقع الاقتصادي محمد المتيمي، أستاذ في جامعة صنعاء، دخول اليمن في فترة من التضخّم الشديد، أي انهيار حاد في سعر العملة مصحوب بارتفاع في أسعار السلعة. لأسباب كثيرة، سنشير إليها، يمكننا القول إن مخاوف المتيّمي قد لا تأخذ طريقها إلى التحقق في الأشهر القليلة القادمة. وهو ما يعني: أن العملة اليمنية ستحافظ على قيمتها في الأشهر القادمة، مصحوبة بركود سيحول دون حدوث ارتفاع مجنون في سعر السلعة. في المحصلة: التضخم الخطِر سيظل لأشهر قليلة قادِمة مجرّد خطورة، أكثر منه مشكلة واقعية. على الثورة أن تنجز، إذن، أمرها بسرعة..
هناك مكمن آخر للخطورة في هذه المعادلة: انخفاض عملية تصدير الغاز والنفط، وما سيترتب على ذلك من انخفاض ملحوظ في العملة الصعبة. ستضطرب المعادلة إذن، ولكن ليس إلى درجة ما حدث في رمضان الأخير. وفي الغالب سيبقى الاضطراب في الحدود الآمنة، خاصة وأن انخفاض عملية تصدير النفط ليس حادا، وربما ليس حقيقة بالمعنى العملي المؤثر.
لكن ماذا بالنسبة للسبب الأوّل: الخطر المعنوي، أو بيع العملة؟ يمكنني القول إن «حديث المبادرة» يخفف من شدة هذا الخطَر. وأن الشباب الذين يتحدثون عن مساوئ المبادرات الخارجية إنما يتجاهلون أمراً شديد الأهمية: إن هذه المبادرات، وإن لم تصنع فرجة سياسية، فهي في الواقع تعزز من الثقة بالمستقبل. عمليّاً: تخلق بعض الثقة في العملة الوطنية، وتحول، بدرجة ما، دون أي عملية بيع مجنونة قد يقدم عليها من يملكون كميات كبيرة من العملة الوطنية. يفعل الشباب أمراً ذكيا، في الجانب الآخر: يؤكدون على أن ثورتهم ستظل سلميّة كما بدأت. ويعزز رجال القبائل الموقف بالحديث عن استحالة نشوب حرب أهلية. هذه الصورة الحميدة تخفف من غلواء الخطر المعنوي، وفي المجمل يفضي الأمر إلى استقرار نسبي للعملة الوطنية.
دعونا نوسّع المعادلة بشكل أكثر وضوحاً: يمكن للعملة اليمنية أن تنهار فجأة، وبلا مقدمات، فيما لو قامت مجموعة كبيرة من دهاقنة النظام الحاكم بشراء العملات الصعبة وتحويلها إلى الخارج. نعم، هذا خطر حقيقي، ويمكن أن يحدث في ذلك الشهر الذي يطلبه صالح لترتيب أمر استقالته. سيحدث عند ذلك أن يطمئن صالح والعاملون معه إلى أنهم أصبحوا، قانونياً وبرعاية دولية، معفيّين من الملاحقة القانونيّة وبإمكانهم نقل أكبر قدر من الأموال إلى الخارج، بينما هم يحزمون شناطهم ولعب أبنائهم التي غالباً ما تكون كميات كبيرة من العملة. سيشغلون المعارضة بكلام فارغ عن الوزارات السيادية وسيثيرون قدراً ضخماً من الضجيج للتغطية على ترتيباتهم التي يجرونها على الأرض: بيع العملة الوطنية ونقل العملة الصعبة إلى الخارج. هذه خطورة مريعة، يمكن كبحها من الآن عن طريق فريق التفاوض المعارض عبر الحصول على ضمانات حقيقة من الجانب الخليجي. على أن تعني هذه الضمانات أن موافقتنا على إعفاء صالح من الملاحقة لا تعني أن تسمح دول الخليج بأن تستقبل بنوكها أي دولار يصل إليها من اليمن بمجرد التوقيع على المبادرة الخليجية. وأن تقدم دول الخليج التزاماً مكتوباً بذلك حتى بصورة ثنائية دون إطلاع فريق صالح عليها. كذلك، أن تبادر الحكومة التي سترأسها المعارضة إلى إجراء رقابة صارمة على حركة المال في اليمن، ومن ذلك في البنوك. وأن يجري التعامل مع موضوع البنوك الحكومية باعتباره قضية أمن قومي، أو«وزارة سيادية مستقلة». دعونا نقُل: على أن يكون رئيس الوزراء المشكل من المعارضة هو أيضاً محافظاً للبنك المركزي، ووزيراً للمالية. هذا ليس أمراً غريباً، لقد حدث ما يشبهه في اتفاق تسفانغيراي-موجابي في زيمبابوي، وقد كانت نتائجه لمصلحة العملة الوطنية مفيدة بصورة مثيرة. سيحاصر صالح ورجاله، ولن يجدوا وسيلة أخرى للنجاة رغم التوقيع على شرط إعفائه من الملاحقة القانونيّة. يذكر عبدالرحمن الراشد، رئيس قناة العربية، في مقاله المنشور في صحيفة الشرق الأوسط، 8 مايو، أن دولاً غربية عديدة تجري عملية جرد وتقييم لأموال وممتلكات صالح. يضيف إن هذه الدول قد تفكّر بتجميد هذه الأموال، وإعادتها إلى اليمن عقب رحيل صالح.
في السياق نفسه ينشأ سؤال مقلق: هل سيصل البلد إلى الوضع الذي لا يمكن معه للموظفين الحصول على رواتبهم؟ هناك مصادفة مثيرة: يبيع اليمن من النفط في اليوم بما يعادل رواتب جميع الموظفين الحكوميين في الشهر. ثلاثون مليون دولاراً، لحوالي مليون ومائة ألف موظف حكومي في الشهر، مقابل حوالي 300 ألف برميل في اليوم، بسعر برميل يقل قليلاً عن المائة دولار. هذا الرقم ليس دقيقاً تماماً، لكنه ليس خاطئاً.

دعونا ننسَ هذا الرقم مؤقتاً ونتفرغ لمتابعة هذه اللقطة:
يخرج الإعلام الحكومي مع الفجريّة بمانشتات على شاكلة: فشل العصيان المدني في إب، في الحديدة، في البيضاء. وبالنسبة لهذا الإعلام فإن الأفدح لم يحدث، وها قد فشل العصيان المدني. وهو ما يعني –من وجهة نظر النظام التي تعنى بالصورة أكثر من الوقائع- عدم توفّر الإجماع الوطني على رفض النظام، في عملية «زوووم» تعزز من جودة لقطة ميدان السبعين، وتمنحها مزيداً من المصداقية المطلوبة.
لكن: ماذا لو عمد صالح إلى تأزيم الأمور عبر إعلان «فشل الدولة». أي ذلك الإعلان الذي يقول للناس: لم تعد الدولة قادرة على أن تدفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، بعد أن أعلن بصورة غير مباشرة عن فشل الدولة في توفير الأمن لهم، أوصيانة موضوع السيادة الوطنية. يا للمصادفة، إذن! لقد انهارت عدة دول أفريقية بنفس الطريق. أما صالح فسيكون قد دشن رسميّاً، وشخصيّاً، المرحلة النهائية من مراحل العصيان المدني. وبهذا ستدخل اليمن في الطور الإلهي من الثورة. وهي تلك المرحلة التي تصبح فيها الثورة ذاتية التدعيم، والحقيقة الوحيدة التي تحرك نفسها بنفسها، وتصبح ساعتئذٍ، وعلى نحو عملي: الناقة المأمورة.
أنا هُنا أشير إلى مقولة للكاتب محمد ناجي عن أن الثورة الراهنة لا بد وأن تخضع للنقد الجاد والشجاع بعيداً عن حمايتها بفكرة «دعوها فإنها مأمورة» في معرض تعليقه على مقالة للكاتب محمد العلائي. وعندما نقول: الناقة المأمورة، فنحن لا نتحدث عن ناقة الله، بل ناقة ابن الإنسان. ستبرُك الناقة قريباً، ليس أمام دار أبي أيوب الأنصاري، بل في واجهة التاريخ. لها طهارة، وشرف، ولها ذنوبها. إنها الثورة، أفروديت كل شعوب العالم، التي تعني الجياع وتثيرهم بأكثر مما تعني الميسورين، بل تقلقهم. آلهة المتألمين والضعفاء، فيشنو، التي قد تظهر بعض طبائع إله الشر «شيفا»، كما في فلسفة التريمورتي الهندوسية: البراهما، فيشنو، شيفا. وقد تأكل أبناءها كما فعلت ثورة 1789 الفرنسية. ولذا فالثورة بحاجة مستديمة إلى أن تثور على نمطها كل صباح، لكي لا تتحول من ثورة إلى محكمة تفتيش Inquistion. وأن تصلح مسارها في كل وقت، وبسرعة، كما يذهب صديقي نائف حسّان في مقاله المُهم الذي وصفني فيه بالكاتب الذي «يمعِن في الركّة» بسبب مقالٍ لي لم يرُق له كليّاً. أعني ذلك المقال الذي قرّر صديقي نائف أن يرد عليه دوناً عن عشرات المقالات، والمقولات، التي رأى أنها أيضاً سطحية، وتمعن في الركاكة.
لا يمكن للمعتصمين في الميادين أن يلموا خيامهم وأن يعودوا إلى بيوتهم. هذا أمر لن يحدث. لكن سنسمع بعض الأصوات تعلن يأسها من الثورة، لأنها كشفت وجهها الحقيقي بالنسبة لتوقعاتهم من الثورة وأنماط الثورة المتخيلة لديهم. وأنها ليست سوى صورة أخرى من صور صالح، الرجل الرابع المتناقض. وأن مخاطرها ليست أقل من استمرار وجوه وأخلاقيات نظام صالح في المستقبل. سيقال هذا الكلام، ويقَال الآن. دعونا نضعه في مؤخرة رؤوسنا مع ملاحظة بسيطة، وننساهما معاً: لهؤلاء ما يفعلونه ويملأ وقتهم وتطلعاتهم، في غياب صالح وفي حضوره. لقد نجحوا في صناعة خلاصهم الفردي قبل أن تأتي الثورة بزمن. سيعودون إلى مكاتبهم وفرصهم المؤكّدة في الحياة. سيجنون من عملهم ذلك النصيب من الوفرة ويحققون تلك النوعية المؤكدة من نمط العيش، فالثورة بالنسبة لهم، على الصعيد الشخصي، ليست مؤكّدة المكاسب. لديهم خطط لتحسين حياتهم الراهنة سواء قامت الثورة أو نامت.

إن هذا من حقّهم، وربما بعرقهم وليس من العدل ولا المنهجية أن نصف مخاوفهم ومواقفهم بالمدفوعة سلفاً من قبل أجهزة النظام. يمكننا القول إن هؤلاء الذين لم يجدوا الثورة مريحة لهم وفي الغالب كانت توقعات بعضهم أن تجري الثورة على طريقة «بطولة غولف» في تلال خضراء تريح العينين، سيتخلّون عن الثورة في أي لحظة، لأن لديهم الكثير من المريح الذي يقومون به. لكن: أين ستذهب أنت يا عيدروس، وماذا ستصنع صباح الغد يا مجيد، وأين ستنام لو هدمت خيمتك يا رحمانوف! أنا أتحدث هنا إلى ثلاثة شبّان من أسرتي ينامون في الميادين. وأدرِك على درجة من الطمأنينة أن أمثال هؤلاء الشباب الرائع الذين هم غالبية أبناء بلدتي، يدرك جيّداً أن ليس لديه ما ينجزه فيما بقي صالح في الصورة هو نظامه، بأي صورة. وأن المهمة الأولى لصناعة المستقبل، بالنسبة لهم، هي هدم ذلك الماضي الفاسد الذي صنِع في خلسة من التاريخ. هؤلاء هم المعنيّون بأمر الثورة، هم صناعها، هم الأغلبية المريحة لثورة لم تكن أبداً مريحة. الذين لن يقولوا لها «طز فيكِ لو دهفتينا»! بل سيقولون لها على الطريقة المصرية القديمة: شلّوت سعادتك، يا ثورتنا، دفعة للأمام. فأنتِ الآن كل ما نملكه للغد. بكل ثقة نقول: لقد أنجزت ثورتنا أهم فصول روايتها، واجتازت عتبة الشد الدرامي باقتدار وليونة. وها هي الآن، قافلة من الأضواء في طريق الحرير.

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.