قبل حلول شهر رمضان الكريم، بأسبوعين تقريباً، كنت في زيارة ميدانية طفت فيها عدداً من محافظات الجمهورية شمالاً وجنوباً التقيت خلالها بالعديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية والقانونية والثقافية، ومن مختلف ألوان الطيف السياسي، استقرأت معهم واقع البلاد، وكيف يمكن تجاوز هذا المنعطف الخطير في تاريخ اليمن. استمعت إلى أرائهم، تأملت بعمق طريقة تفكيرهم، وتفاعلهم/ تعاملهم/ وجهات نظرهم في الأحداث الجارية على الساحة اليمنية.. الكل يجمع على شيء واحد، هو إتخاذ إجراءات إصلاحات واسعة، تشمل مختلف مناحي الحياة، بشكل عاجل حتى يستقر الوضع، وتهدأ النفوس، ويشعر الناس بالطمأنينة والأمن والرخاء والمستقبل الواعد بالخير. وفي الاتجاه نفسه، سخط عارم من السياسات التي أدت بنا إلى ما نحن عليه، من غياب دولة المؤسسات والنظام والقانون، وتسيد قانون القوة وشريعة الغاب.. إجماع على أهمية الوحدة، والمكاسب التي يمكن أن تتحقق من خلال الوحدة، وبالمقابل، كيف يمكن أن نعمق الوحدة الوطنية بين المواطنين... وعدد غير قليل ممن قابلت يقولها بأسى: إننا لا نعيش وحدة وطنية داخل المحافظة الواحدة، فما بالك على مستوى الوطن.كيف؟ يقول أحدهم: عدم المساواة بين فئات ومناطق اليمن، من قبل السلطة، والتمييز الحاصل، سواء في الوظيفة العامة، أو في المشاريع والبنى التحتية، أو في توزيع السلطة، خلق نوع من العداء والحقد والكراهية، من المجتمع نحو السلطة، وأيضاً كراهية بينية في إطار المجتمعات أو المناطق أو الفئات نفسها. وهو الأمر الذي غيّب روح الوحدة والمودة بين أبناء الوطن الواحد، وجعل من الأقوى قبلياً ومناطقياً بعبعاً تذعن له السلطات، وتلبي كل مطالبة القانونية والغير قانونية، ومن الطرف الأضعف، مصدراً لتحصيل الموارد الواجبات والزكوات، وكيف عمقت السلطة من الكراهية بين فئات المجتمع، فالشمالي ضد الجنوبي والعكس، والقبائل ضد الهاشميين والقضاة والعكس، وكيف وصل بنا الحد إلى التنابز بالألقاب، فهناك الدحابشة والبراغلة واللغج والمزاينة و...!! وكيف أصبح جواب السؤال الذي يقول (من أين أنت؟) ذا أهمية كبرى، فجواب هذا السؤال يكشف عن قوة أو ضعف هذا الشخص أو ذاك. إن مما يضاعف الانقسامات المجتمعية، وتمنطق كل فئة أو قبيلة وراء نفسها، هو سلوكيات الجهات المسئولة، وكيفية إدارتها للحياة العامة، وللقارئ العام أن يتأمل في واقعة رويت لي في إحدى المحافظات التي زرتها، بأن مواطناً أشتكى إلى مدير الأمن واقعة نهب سيارته، فما كان من المسئول المبجل إلا أن أجابه: "اذهب إلى محافظتك وأنهب ما شئت من سيارات أبناء المحافظة التي ينتمي إليها ناهب سيارتك". وأخرى تقول، أن جندياً كان عائداً من معسكره إلى قريته، في إجازة، وعند وصوله نقطة تفتيش لا تتبع محافظته، صادروا عليه سلاحه، بحجة منع حمل السلاح، رغم إبراز هويته العسكرية، فما كان منه بعد وصوله محافظته إلا أن قام بالاستيلاء على طقم تابع للانتشار الأمني، وكيف كان الرد من السلطات. كان الرد بالتفاوض وإعادة سلاحه وفوق ذلك مبلغ من المال على أن يعيد الطقم. روايات إن صحت تنضح لنا بسواءات تعمق الشرخ الوطني، وتدعو للفتنة وتجذر الكراهية، وبرعاية رسمية، وقد تكون وفق استراتيجية مدروسة وهذا ما نخاف منه. مازلت أتذكر ذلك المحامي المخضرم، الذي قابلته في عدن، في مجلس كبير، وهو يعرض بمرارة وأسى كبيرين ما وصلت إليه مدينة عدن من تردي، في الخدمات، وكيف تحولت إلى مدينة منكوبة، يتسابق على أراضيها كبار النّهابة من مشائخ وقادة عسكريين قادمين معظمهم من شمال الشمال. كان يروي للجمع قصة تقدم ولده للحصول على درجة وظيفية في إحدى المؤسسات الحكومية، التي خصصت لها 12 درجة وظيفية، ليكتشف الشاب المؤمل بالوظيفة، أن 10 درجات من أصل 12، قد حسمت لصالح أشخاص جاءوا بأوامر وتوجيهات من المركز في صنعاء، ولم يبق لأبناء عدن سوى درجتين، وبالتأكيد لم يفلح ولده في الحصول على إحداها. وأستاذ جامعي، يشرح بالتفصيل، كيف أفسدت الحياة العامة، وانهارت القيم والأخلاق، وغاب الشرع والقانون، وتدنى مستوى الإحساس بالمسئولية. محلل سياسي واقتصادي آخر يشرح، عن الموقع الاستراتيجي الذي تحتله مدينة عدن وميناؤها الشهير أيام زمان الذي قتلته الإدارة الحكومية الفاشلة. وبلغة الأرقام يتحدث عن المردود الاقتصادي الذي سيجنيه اليمن، والمجتمع الدولي، في حالة التشغيل الصحيح لهذا الموقع الاستراتيجي، الذي سيقضي على البطالة، وسيحسن من مستوى دخل الفرد اليمني، بل والذي سيجعل من عدندبي أخرى في أضعف الأحوال. إن مشكلة الأراضي تمثل العامل الأهم في تذمر المواطنين، بمحافظة عدن واستيائهم من السلطات، وارتفاع الإحساس بالظلم والغبن والقهر، الأمر الذي ساعد على ارتفاع الأصوات المناطقية، وتلك المطالبة بفك الارتباط، أو الاستقلال، أو إنهاء الاحتلال حد تعبيرهم. يتساءلون: لا نجد مسكناً أو أمتار معدودة نبني فيها مسكناً يأوي أسرنا، و متنفذون يملكون مئات الكيلووات وعشرات الأراضي... ويتساءلون لماذا لم يعمل رئيس الجمهورية بتقرير "باصرة هلال" ويزيل الظلم عن المظلومين من أبناء عدن. ويعددون الممتلكات التي تم الاستيلاء عليها من قبل مسئولين وضباط ومشائخ، ورغم انتصار القضاء في بعض الحالات لأصحابها الشرعيين، إلا أن أحكام القضاء، لا تنفذ. ويتزايد الإحساس بالسخط والاستياء من سوء الإدارة وغياب العدالة في توزيع الثروة ومشاريع البنى التحتية في محافظة شبوة التي يوجد بها عدداً من حقول النفط، حيث تغيب بشكل كبير مشاريع البنى التحتية وتحسين مستوى الموجود منها، وهناك، لا تبدي علامات الدهشة وأنت تسمع من محدثك الذي يعرفك بنفسه: "عضو المجلس المحلي للمحافظة عن المؤتمر الشعبي العام" بقوله: أنا مع فك الارتباط، شبعنا انتظار، لإصلاحات حقيقية،لتنمية شاملة، للعدالة، للنظام، للقانون، للمؤسسات، يأسنا من الحكومة والنظام، عله يبدأ في إصلاحات منذ انفراده بالحكم من بعد الوحدة ومن 1997م وأحنا منتظرين لاشيء سوى الاتجاه نحو الهاوية. نحو الحروب والاقتتال نحو الجوع". نحن محافظة البترول. ومع ذلك لا نرى أي تحسناً في مستوى الخدمات العامة، أو في توفير فرص عمل للشباب، وتخفيف البطالة. هذا هو لسان العضو المنتمي للحزب الحاكم، فما بالك بذلك الذي يكتوي بنار ولهيب سياسات الحاكم، ولا ينتمي له أو يناصره. أما في محافظة إب الذي صادف زيارتي لها خلال أسبوعها السياحي، فلم ألحظ في الشارع الرسمي والشعبي والحزبي، سوى الحسرات على ملايين الريالات التي تهدر في هذا المهرجان، بلا طائل ولا مردود اقتصادي، لا على الدولة ولا على المواطنين. وبالرغم من الإمكانات السياحية المتوافرة لمحافظة إب والتي أكرمها الله بها دون غيرها فلا استفادة منها، ولا تخطيط استراتيجي، أو تأسيس لحركة سياحية صحيحة. فكل ما تعمله السلطة هو بهرجة إعلامية ونفقات مالية باسم السياحة.. أين المنتزهات، أين شبكة الاليكتريك، بل أين الحفاظ على/ وترميم المواقع السياحية التي كنت في زيارة إلى أحد مواقعها وهو "حصن حب"، فلم ألحظ أي اهتمام، سوى حصن آيل للسقوط ومخرب ومنزوعة أبوابه، وبرك مخربة ومدمرة. وأنت تناقش أحد أبناء هذه المحافظة الجميلة، لا يخفيك شعوره بالألم على هذه الإمكانات السياحية التي تهدر، دون أي استفادة منها، وعن الإهمال الكبير من قبل السلطات، وانعدام التخطيط السليم، وكأن هناك من يحارب أي مشروع سياحي متكامل يستطيع جذب السياح الأجانب، ولا يخالج أحدهم من شك في أن هناك تمييز منطقي، وأن المواقع القيادية في محافظة إب، تمنح لذوي القربى والأصحاب، ويردد "إب الغنجاء لمن جاء" بأسف كبير من وضع محافظة يفترض أن تستغل إمكانياتها لتعود على أهلها وحكومتها بالمردود الكبير. ونفس الشكاوي تتردد على مسامعك وأنت في محافظة مأرب، هذه المحافظة التاريخية والزراعية... حيث أعمال قطع الطريق ونهب الآثار والاقتتال والثأر القبلي، وعدم الاستفادة من المساحات الزراعية وسد مأرب العظيم. إن الكثير من المشاكل والقضايا يجب أن لا تظل بدون حلول، وترحل من وقت لآخر من خلال معالجات وقتية، لا تلبث أن تتجدد لأنها لم تعالج من جذورها. الكل يشكو، والجميع يئن في جميع المحافظات بلا استثناء، ويبكي على وضع بلاد يسير بأكمله إلى مستقبل مجهول، وكل يقول من وجهة نظره وبحسب مستواه الثقافي والسياسي، ويندب حظ بلاده العاثر، المبتلى بقيادات سياسية وحزبية وثقافية تسطح وعيه ولا تعالج جراحه ومشاكله بصدق وأمانة. وكم يدرك المرء عندما يتنقل من منطقة إلى أخرى، ويعيش بين مختلف الفئات الاجتماعية، المستقبل الملغوم، بالحقد والكراهية والتخوين والإقصاء والتهميش، وكلها ناتجة عن ثقافة غريبة ونظام حياة وسياسة دولة ساعد في إذكاء الروح المناطقية والقبلية والفئوية والجهوية... إننا ننشد وطناً آمنا مستقراً مزدهراً، في ظل إمكانات طبيعية نتميز بها عن غيرنا، حيث الشريط الساحلي الطويل، وميناء عدن وموقعها المتميز، والسياحة، والتاريخ والمآثر. وتكاد تجمع كل الأصوات بضرورة الإصلاح الشامل، وإعادة النظر في أسباب الأزمات التي تتوالى على بلادنا، وأسباب سوء الإدارة التي خلقت بطالة مرتفعة ورشوة وهدر للمال العام، للخروج من هذا النفق المظلم إلى آفاق رحبة تحقق مواطنة سوية قائمة على عدالة في توزيع الثروة والسلطة، وديمقراطية محققة للتوازن والوئام والمودة بين مناطق اليمن وفئاته، وتنمية شاملة لكل أرجاء الوطن.