نقرأ القرآن مرات ومرات، وتتردد على مسامعنا من آياته آلاف وآلاف، ومع ذلك لا زلنا "مَحَلَّك سِرْ"! نفاخر الأمم أن لدينا الرسالة الخالدة والوحي المعصوم والدين الأقوم، ونحن أفقر من عليها وأمرض من عليها.. أمة تضحك منها الأمم.
ندندن بالقرآن دندنة، ونهز الأجسام والرؤوس، ويُسمَعُ الدويُّ وربما البكاء.. وماذا بعد؟! أشباح بلا أرواح، وقراءة بلا فهم،ترتيل بلا تدبر وممارسة، لا يتجاوز الحناجر ولا يمتد إلى الجوارح، ولذلك وجدنا إذاعات عالمية تحدد فترات لإذاعة تلاوات من القرآن الكريم، فإذاعة لندن تقدم تلاوة للقرآن تفتتح بها برامجها، وتذيع إسرائيل أيضاً قرآناً في فترات ومناسبات متعددة، (ربما يكون من لم تبلغهم رسالة الله أفضل حالاً عند الله منا.. فالجاهل خير من العالم أحياناً.
المشكلة أننا نعتقد أننا ما زلنا "خير أمة أخرجت للناس"، هكذا (مِعفاطة، وعنزة ولو طارت).. ولسان حالنا: "نحن أبناء الله وأحباؤه"، وتأملوا فيما يفضحنا – كأمثلة فقط: أول آية نزلت في القرآن "اقرأ"، وترددت كلمة القراءة والعلم في أول خمس آيات من القرآن ست مرات، ثم تأملوا في العرب الأميين أبناء الأميين ومدى اهتمامهم بالتعليم ومستواه ومراكز البحوث والدراسات، ووسائل العلم عموماً.
في منهاج الصف السادس لمادة القرآن الكريم في الجمهورية اليمنية يُحَفَّظُ الطلاب سورة القلم "وهي ثالث سورة نزلت على رسول الرحمة والعلم والنور"، هذه السورة بُدأت بحرف، ثم القسم ب "والقلم وما يسطرون"، لم يُذكر في الشرح أو ما يُستفاد من الدرس أو في القضايا التي تحدثت عنها السورة أي كلمة تشير إلى أهمية العلم أو اهتمام القرآن بالقراءة ووسائلها المتعددة.. كل ما في الأمر أن الله يقسم بما يشاء من مخلوقاته وليس للإنسان أن يقسم إلا بالله! أين المنبهات الحضارية ووسائل التقدم التي دلّنا عليها بالقرآن في السورة.. غابت أو غُيّبت.. ما الفرق؟!
للآيات مقاصد عدة: تربوية ونفسية وفقهية واجتماعية وكونية ومنبهات حضارية ووسائل الكشف العلمي.. وما الحكم الشرعي إلاّ واحد منها فقط.
"مشكلتنا في التعامل مع القرآن كالعاصي الذي يسمع آيات التوبة فلا يدرك أبعاد المعصية وضرورة الالتفات إلى التوبة بل يلتفت إلى موسيقى القراءة ونَغَم التالي فيقول: "الله.. الله" للنغمة التي يسمعها.. آيات القيامة يكاد يقف شعر رأسي لهولها وصاحبنا يصرخ: "الله يا سيدنا الشيخ.. أعد أعد"، ماذا يفهم المسلمون من قوله تعالى: "إن الله لا يصلح عمل المفسدين"، وهو يعمل أعمالاً ناقصة، هل يظن أن الله سيكملها له؟ رحمك الله يا غزالي!
سورة كاملة في القرآن تسمى "سورة الحديد"، المطلوب منا أن نحول هذه السورة إلى مصانع للحديد في كل قُطر عربي، واستخراج والاستفادة من كل معادن الأرض، لا أن نكتفي بالتعاقد مع الشركات الأجنبية "الكافرة بالقرآن" كي تستخرج لنا حديدنا وتليينه، وتبيعه لنا آلات لا نجيد استخدامها، ونحن ما علينا سوى تلاوة السورة والاهتزازات الوجدانية.
سورة كاملة في القرآن تسمى "سورة الشورى"، الشورى يا عرب! وردت فيها لفظة الشورى بين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ونُعجب جداً بقصة موسى عليه السلام مع أكبر ديكتاتور ومستبد عرفه التاريخ، "وردت القصة في القرآن 120 مرة بصيغ وأساليب مختلفة"، ومع ذلك ترانا على المستوى الفردي فراعنة من الطراز الأول؛ في الأُسر والمدارس والوظائف...، أما على مستوى الدول والأنظمة فلا نكتفي بالديكتاتورية والقمع بل نغالط العالم بديكور مزيف للديمقراطية نضعه على وجوهنا "كمكياج" كي يمنحونا بعض المساعدات، ثم نذهب للمسجد نقرأ سورة الشورى بتجويد وترتيل.. وبغباء وصفاقة أيضاً.
من طوال السور في القرآن "سورة النساء" ونحن ما زلنا نناقش: هل المرأة تستحق دية أم نصف دية (إنسان أم نصف إنسان!)، مع أن الأمر في القرآن واضح "ولهن مثل الذي عليهن"، ولا يوجد حديث صحيح صريح في الموضوع، وبدون أن أقسم فإن حال كثير من المسلمين اليوم كحال الجاهلين قبل الإسلام: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم"، الفرق الوحيد بينهما في هذه الناحية أن الأول لديه قرآن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار.
وأكبر دليل على الإطلاق على تعاملنا مع القرآن تعاملاً شكلياً وقراءتنا له بلا قلب ولا عقل، انتشار مدارس تحفيظ القرآن الكريم في أنحاء العالم الإسلامي كله (وإن كان دورها لا يُجحد)، لكن يؤخذ عليها اهتمامها بالتحفيظ فقط وحسن التلاوة والترتيل، أما الفهم والتدبر والمعاني والظلال فهذه لا تولى اهتماماً إلا من الدرجة الثانية أو الرابعة بعد الحفظ، وكأن أعظم المطلوب من هذه المدارس والمراكز أن تُخرِّج أكبر عدد ممكن من الحُفاظ والمُغيّبين، وهو ما ينبغي أن يكون أقل أهدافها وأصغرها شأناً.
ثم هذه المسابقات القرآنية ناقصة الجدوى (مع احترامي للقائمين عليها أشخاصاً وجهات). وبعض هذه المسابقات ترعاها الدول وترصد لها مبالغ ضخمة، مسابقات في حفظ القرآن واستظهاره غيباً، أهكذا يتعامل المهتمون بالقرآن معه! إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما.. آخر ما كان ينبغي أن نتسابق فيه في تعاملنا مع القرآن هو الحفظ والتغييب.
لماذا لا تُبتكر مسابقات في فهم القرآن واستيعاب مبادئه واستخراج دقائقه وأسراره، ومعرفة مواطن الخلل في تعاملنا معه، وكيف نعالج به أمراض الأمة الراهنة "وجاهدهم به جهاداً كبيراً".
حالنا مع القرآن يشبه حال أعرابي في البادية حفَّظوه جملة بِلُغة أجنبية وقالوا له: هذه أعظم نظرية ومبدأ على الإطلاق، فمكث المسكين يكررها ويتفنن في ترديدها، ويفخر بحفظها، وهو لا يفقه معناها.. ما أبلده!
"الفهم القرآني هو وراء الانطلاقة الإسلامية الأولى. والجزْر الذي حصل هو نتيجة لتقلص فهمنا للفلسفة القرآنية والأنظمة القرآنية، وشيوع عادات ومرويات ضعيفة جعلت الأمة المسلمة لا تمتثل كتاب ربها، كتابنا يكاد يضيع منا، ونحن نقرؤه موسيقى من كبار القارئين، ونسمعه بتبلد وإعجاب بالأصوات وانتهى الأمر، وغاب عنا أنه محرك للحضارات ومنهاج حياة".