لحظة فارقة هي المناسبة التي جرى الاحتفال بها هذا العام وهي ذكرى مرور 33 عاما على تولي الرئيس علي عبد الله صالح السلطة في اليمن. لقد أطل الرئيس للمرة الثالثة منذ حادثة تفجير جامع الرئاسة بمقال صحفي افتتح به جريدة الثورة الرسمية، لكنه خيب ظن الكثير من المراقبين به عندما كرر مواجهة التحدي بالتحدي ولم يقدم أي مبادرة سياسية تحرك الجمود الذي تشهده البلاد أو تخرج العباد مما يعيشونه من أزمات خانقة. وكالعادة التي سبقت إطلالتيه الماضيتين، توقعت المصادر ان يعلن عن مبادرة مناسبة لحجم التطورات التي تعيشها البلاد على مدى نصف عام، أقلها توقعات بإعلانه التنحي عن الحكم ونقل صلاحياته لنائبه خاصة بعدما تناقلت مصادر متعددة تصريحا لقيادي في الحزب الحاكم أكد فيه وجود ترتيبات لإيجاد مخرج مشرف للرئيس في ذكراه الثالثة والثلاثين.
وكان من شأن إعلان كهذا، سيبدو مخرجا مشرفا بالفعل في لحظة تاريخية هامة من تاريخ حياته واستجابة منه لمطالب شعبية ودولية بالتنحي، إلا ان الرئيس اختار طريق المناورة التي ميزت جزء كبير من عهده الطويل. وتحت عنوان " الحوار هو المخرج الوحيد"، قدم الرئيس في مقاله الافتتاحي بصحيفة الثورة شرحا للظروف التي أحاطت بصعوده إلى السلطة عام 1978م، وتحدث عن هروب الجميع من تحمل المسؤولية في ذلك الوقت وغرم السلطة وإرادة الشعب التي دفعت به إلى سدة الحكم.
وقال ان الاقدار شاءت ان يكون في الصدار لتحمل المسئولية على عظم ثقلها " لاسيما بعد أن خرجت الجماهير اليمنية منطلقة من تعز الأبية لتشمل كافة مدن وقرى الوطن كله تدعو أن يتحمل علي عبدالله صالح مسؤولية قيادة الوطن".
وتبدو المفارقة هنا ان تعز مثلما كانت أول المدن التي خرجت عام 78م تهتف للرئيس صالح هي أول من خرجت مطلع العام الحالي مطالبة برحيله عن السلطة، ونفذ شبابها اعتصاما مفتوحا، لتمتد المظاهرات والاعتصامات المطالبة برحيل صالح الى أكثر من 17 محافظة يمنية في عملية منتظمة ومستمرة حتى الآن.
والمفارقة الأخرى: إذا كان الرئيس قد ظل يردد طيلة السنوات الأخيرة بنوع من الفخر والاعجاب كيف استطاع الافلات من مصير الرؤساء السابقين وكيف خابت توقعات الكثير من المراقبين بشأن مدة بقائه في السلطة، الا ان حادث جامع النهدين كاد ان يودي بحياته بنفس الطريقة التي واجهت رؤساء اليمن في الربع الاخير من سبعينيات القرن الماضي.
ويشاطره في الرؤية السابقة الكثير من الكتاب العرب والباحثين الغربيين، مشيرين في هذا الصدد إلى قضية اغتيال ثلاثة رؤساء يمنيين سبقوه في ظرف زمني لا يتعدى الثمانية شهور. ولئن شهدت البلاد منذ 78م محطات تاريخية بالغة الأهمية، بيد ان السنوات الأخيرة تعد بمثابة سنوات الجمر نظرا للتناقضات والأزمات والحروب التي صبغت المشهد اليمني.
وكان الرئيس يحضر في تحليلات ومناسبات 17 يوليو الأخيرة كصانع لهذه البؤر والتناقضات والأزمات من دون وجود مبررات موضوعية تستدعي ذلك سوى رغبته في الاستئثار بالحكم وبناء مشروعه الخاص والتخلص ممن يعدهم خصوما لتوجهاته ورغباته السلطوية.
ويؤكد محللون ان وضع اليمن اليوم يشبه إلى حد ما تلك الايام التي صعد فيها الرئيس الى السلطة، بل ان القائم بأعماله الرئاسية يرى بأن هذا الوضع لم تعرفه البلاد منذ خمسين عاما. ويقول عبد ربه منصور هادي ان حرب صيف 94م على سبيل المثال كانت كانت واضحة الأسباب والمعالم والدوافع وفهمها الشعب وانتصر لوحدته وديمقراطيته وشرعيته الدستورية ولم يتعرض الوطن للمخاطر مثلما هو اليوم.
غير ان صالح يواصل تشبثه بالسلطة، مؤكدا بأن ما يجري من احتجاجات في البلاد مجرد مؤامرة انقلابية ضد نظام حكمه. ويقول " لم تحملنا إلى كرسي المسؤولية الدبابات وفوهات المدافع بل إرادة الشعب التي كانت دائماً حاضرة في كل توجهاتنا".
ويعتبر "المخرج الوحيد للوطن من هذه الأزمة هو الحوار ولا شيء آخر غير الحوار الصادق والمسؤول". واللافت في إطلالات الرئيس الثلاث الأخيرة منذ حادثة الرئاسة، تجاهله التام للمبادرة الخليجية التي نصت على رحيله عن السلطة بعد ثلاثين يوما من التوقيع عليها إذ لم يأت على ذكرها حتى مجرد إشارات عابرة بالرغم من اعتقاد معارضيه بأنها مؤامرة ضدهم.
وساد اعتقاد في البداية بأن تفجير جامع دار الرئاسة سيخرج الرئيس من المعادلة السياسية في البلاد وسيمهد الطريق لإيجاد الحلول، إلا ان ما حدث هو العكس ولوحظ مدى التعلق أكثر بالسلطة ومحاولة استغلال الحادثة لاكتساب شعبية زائدة.
وتسعى شخصيات قيادية في الحزب الحاكم إلى توظيف الحادثة من خلال إشارات وتلميحات إلى علاقة طرف سياسي في المعارضة. ففي الاسبوع الماضي، هدد الأمين العام المساعد للمؤتمر، سلطان البركاني، بكشف نتائج التحقيقات بملف استهداف الرئيس صالح وكبار قيادات الدولة في الهجوم، وقال انه ملف لا يزال مفتوح وستعلن النتائج للرأي العام حال إصرار أحزاب المعارضة على تجاهل دعوات الحوار.
وأضاف " إننا نقدم تنازلا في الحزب الحاكم حين نقبل بانتخابات مبكرة فقط لنثبت للعالم حرصنا على الشراكة الوطنية وتجاوز الأزمات والمعارضة هي من ستتحمل المسئولية وإلا فإن هناك ملفا مفتوحا لم يغلق بعد ويتمثل في الاعتداء الإجرامي الذي استهدف رئيس الدولة وكبار قادتها وهو ما يجعلنا نعطي الأولوية لإعلان نتائج التحقيقات وثم محاكمة مقترفي الجريمة على أساس أن من اشتركوا وأسهموا من الأحزاب لا يمكن أن يكونوا شركاء في العملية السياسية".
وسبق للمعارضة ان عبرت أكثر من مرة عن رفضها الحديث عن أي حوار قبل عملية نقل السلطة وتنحي الرئيس. ويرى أمين عام تحضيرية الحوار، حميد الأحمر، ان ما يطلبه الآن المجتمع الدولي من حوار بين السلطة والمعارضة قد تجاوزته الأحداث.
وقال الأحمر أثناء لقائه بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة بصنعاء يوم الخميس الماضي ان " المبادرة الخليجية ما جاءت إلا نتيجة للحوار الا ان هذا النظام كلما تحاورنا معه واتفقنا على شيء تنصل منه". وأضاف " نحن على استعداد رغم كل ما جرى على الحوار لنقل السلطة شريطة ان يخرج المجرمون الذين قتلوا الشعب اليمني في تعز وصنعاء وفي كل المحافظات اليمنية، ونحن نرحب بالحديث عن نقل السلطة بعيدا عن هؤلاء, وسنتعايش مع النائب عبده ربه ومع كل الشرفاء في هذا الوطن".
وصرح مسئولون أميركيون، الثلاثاء الماضي، ان الحوار اساسي لحل ما أسموه الازمة السياسية في اليمن، مقللين من أهمية الاعلان عن مجلس انتقالي لادارة شئون البلاد، فيما قالت جانيت ساندرسن نائبة مساعد وزيرة الخارجية الاميركية انه سيكون للرئيس صالح "دور حاسم يلعبه" في هذا الحوار.
ومع تشديد الجهات العربية والدولية على ضرورة الحوار بين اليمنيين، تتواصل الجهود العربية والدولية أيضا لاقناع الرئيس بالتنحي عن السلطة طبقا لما جاء في المبادرة الخليجية. وبالاضافة الى الدور الأمريكي المشكوك في صحته من جانب المعارضة، كشفت صحيفة ألمانية ان دبلوماسيين من برلين يقومون بجهود وساطة في اليمن.
وذكرت الصحيفة الألمانية أن برلين ناشدت الرئيس صالح الموافقة على مبادرة مجلس التعاون الخليجي. وجاء في تقرير الصحيفة أن مدير مركز إدارة الأزمات في الخارجية الألمانية، ميشائيل كلوربرشتولد، أبلغ صالح في العاصمة السعودية الرياض، بتكليف من وزير الخارجية الألماني غيدو فيسترفيله، رسالة مفادها أن مبادرة مجلس التعاون الخليجي هي الطريق الوحيد لوقف النزاع المسلح في اليمن.
ووفقا لمعلومات الصحيفة، فإن صالح مستعد على ما يبدو للتنحي ومنفتح على المبادرة، إلا أن عائلته تمنعه عن التوقيع، وهو الأمر الذي يستبعده المتابعون بدقة للتطورات السياسية في البلاد بحكم معرفة شخصية صالح ومدى مناوراته للتمسك بالسلطة.
ويؤكد هؤلاء ان الشيء الوحيد الذي أثبته الرئيس رغم ما مرت به البلاد من احتجاجات مطالبة برحيله ومنذ حادثة النهدين، حضوره كرقم صعب في المعادلة اليمنية وصعوبة تجاوزه حتى الآن. ويذهب محللون إلى أبعد من ذلك بالقول ان الرجل مازال يحكم البلاد من مشفاه في الرياض.
وفي خطوة وصفت بأنها محاولة لتجاوز الانقسامات التي بدأت تبرز في ساحات التغيير، أقرت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني ( المشترك وشركاؤه) مشروع تشكيل المجلس الوطني لقوى الثورة الشعبية السلمية. وتم خلال اجتماع عقد الاسبوع الماضي إقرار مهام المجلس الوطني لقوى الثورة المتمثلة بتوحيد وتنسيق الجهد الوطني وتصعيد الفعل الثوري بهدف تسريع انجاز أهداف الثورة الشعبية الشبابية السلمية.
واقر الاجتماع الخطوات اللازمة لإنشاء المجلس والتوافق على تشكيله والإعلان عن قيامه خلال فترة وجيزة لا تتعدى مطلع شهر أغسطس المقبل. وبحسب المشروع، فإن المجلس الوطني لقوى الثورة السلمية يعد مؤسسة شعبية وطنية ومرجعية تشريعية ورقابية يمثل مختلف ساحات التغيير والحرية بعموم محافظات اليمن. كما اقر الاجتماع تشكيل لجان التواصل التي ستتولى مهام الاتصال مع المكونات المقترحة للمشروع خلال فترة لا تتعدى أسبوعين. ويأتي الاعلان عن هذا المشروع بعد إعلان أحد المكونات الشبابية في ساحة التغيير بصنعاء عن مجلس انتقالي مكون من 17 شخصية لادارة شؤون البلاد. ورغم الضجة الاعلامية التي حظي بها المجلس، الا ان المصادر الشبابية الحزبية اعتبرته قرارا متسرعا وغير مدروس من مختلف المكونات الثورية في مختلف ساحات الجمهورية. ويرى رئيس مركز دراسات المستقبل الدكتور فارس السقاف ان مشروع تحضيرية الحوار يستحضر تجربة ليبيا، معتبرا ان ذلك سيكون له مخاطر لاسيما ازاء امكان تحول النزاع من السياسة الى الشارع.
ويؤكد السقاف ان الرئيس نجح في الاستمرار والبقاء في المعادلة بينما فوتت المعارضة فرصا متتالية لفرض ارادتها السياسية. ويضيف ان القوى الدولية تعاملت مع المعارضة البرلمانية على انها حاملة سياسية لمشروع الثورة الا ان "احزاب اللقاء المشترك فشلت في ادارة هذه المفاوضات".
ويرى السقاف ان السعودية تؤيد تنحي الرئيس وانها أمسكت إلى جانب واشنطن بيد المعارضة لكي تتحرك وتمارس ضغوطا على الرئيس لنقل السلطة، لكنه قال ان اداء الرئيس السياسي وغفلة احزاب المعارضة استطاعا ان يجرا المبادرة الخليجية من تعديل الى تعديل، وبات الوضع الآن ان الرئيس لا يزال قويا ولا يزال متحكما ما يثني الرعاة الدوليين والاقليميين عن ممارسة ضغوط قوية عليه.
وفي ظل استمرار حالة الجمود الحالية، تتصاعد التحذيرات من خطورة الثمن الذي يدفعه وسيدفعه المواطنين في المستقبل. وتشير نشرة يصدرها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية إلى أن التكلفة الصعبة المترتبة على استمرار هذه الحالة تفرض على القوى اليمنية جميعها التحرك بسرعة من أجل تحقيق التوافق الداخلي والتوصل إلى حلول وسط لتجاوز القضايا الخلافية وإنقاذ اليمن من الوقوع بين براثن المجهول.
مؤكدة ان المبادرة الخليجية لا تزال تمثل الآلية التي يمكن من خلالها العمل على تسوية الأزمة خاصة أنها تحظى بدعم كبير إقليميا وعالميا إضافة إلى أن الجانب الخليجي قد أكد أكثر من مرة استعداده لتقديم أي مساهمة يمكن أن تساعد اليمنيين على معالجة المأزق المعقد والخطر الذي تعيشه البلاد.