في كتابه (صور المثقف) -وهو من أهم الكتب التي تحدثت عن دور المثقف- يقدم لنا المفكر المعروف إدوارد سعيد صوراً شتى للمثقف في مختلف الظروف والمجتمعات والمواقف المتباينة، لكنه قبل ذلك يقدم لنا أشبه ما يكون بالتعريف العام الشامل للمثقف ودوره إذ يرى سعيد أن المثقف "فرد له في المجتمع دور علني محدد لا يمكن تصغيره إلى مجرد مهني لا وجه له، أو عضو كفوء في طبقة ما لا يهتم إلا بأداء عمله. فالحقيقة المركزية بالنسبة إلي، كما أعتقد، هي أن المثقف وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة، لجمهور ما، وأيضاً نيابة عنه. ولهذا الدور محاذيره، ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء بأنه إنسان مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي(بدل أن ينتجهما)، ويكون شخصاً ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تنسى ويغفل أمرها على نحو روتيني. ويقوم المثقف بهذه المهمة على أساس المبادئ العمومية: إن من حق البشر كلهم توقع معايير سلوكية لائقة من القوى الدنيوية أو الأمم، وإن الانتهاكات المتعمدة أو الناجمة عن إهمال هذه المعايير يجب أن يُشهد ضدها وأن تُحارب بشجاعة." المثقف إذن إنما هو فرد يمتلك صوتاً مختلفاً لا يمكن أن يؤطر أو يقنن أو يمسخ، لا تتأبطه المؤسسات ولا يثنيه عن الجهر بصوته تصلب الثقافة من حوله أو جمود الفكر وتحجره، بل إن مهمته هي مواجهة كل ما يقف في طريق الحق، إن صوت المثقف يبدو أقرب إلى صوت (بارازوف) في رواية "الآباء والبنون" لتورغينيف، وهي رواية صدرت في القرن التاسع عشر تقريباً، ويصور فيها المؤلف –حسب إدوارد سعيد- حياة "هادئة خاليةً من الأحداث الهامة: شبان ذوو أملاك يتوارثون عاداتهم الحياتية عن آبائهم، يتزوجون وينجبون، وتتقدم الحياة على نحو أو آخر، وتبقى الحالة على هذا المنوال إلى أن يقتحم حياتهم فجأة شخص فوضوي لكنه مع ذلك يمتلك شخصية شديدة التركيز، اسمه بارازوف، وأول ما نلاحظه فيه أنه قطع روابطه بوالديه، ويبدو كأنه ليس (ابنا) بقدر ما هو شخصية أنتجت نفسها بنفسها، تتحدى الروتين، وتهاجم التفاهة والأفكار المكررة إلى درجة الابتذال وتدافع عن قيم جديدة علمية وغير عاطفية تبدو منطقية وتقدمية..." الملاحظ أن إدوارد سعيد - وإن لم يكن بشكل مباشر- وليس معنى هذا أنه كان يجب عليه التحدث بشكل مباشر- قد لفت الانتباه إلى دور الشباب في عملية التغيير الاجتماعي، وخصوصاً دور المثقف الشاب في مجتمعه وما يتحتم عليه من صراع مع ثقافة المجتمع بما فيها من الأفكار التقليدية والمفاهيم الراسخة والقيم الثابتة، وتتضح ملامسة سعيد للحياة الاجتماعية وصراع الأجيال من خلال الأمثلة التي استشهد بها، فإلى جانب رواية "الآباء والبنون" تحدث في نفس الوقت عن روايتين أخريين هما "التربية العاطفية" لفلوبير، و"صورة الفنان شاباً" لجويس جيمس، ويجمع بين هذه الروايات "كما يتضح من العناوين ومن ثم الشخصيات" البعد الاجتماعي وظاهرة التجديد وعوامل التغيير بفعل ظهور الأجيال الجديدة، فهذه الروايات الثلاث في رأي سعيد هي "التي يتأثر فيها تمثيل الواقع الاجتماعي بعمق، لا بل يتغير على نحو حاسم، بفعل الظهور المفاجئ لممثل جديد، هو المثقف الشاب العصري". ولعل في رواية تورغنيف ما يمثل الواقع الاجتماعي العربي في هذه المرحلة التاريخية، ولكم يبدو الظهور المفاجئ لهذا الجيل(جيل الإنترنت) شبيها إلى حدٍ بعيد بالظهور المفاجئ لشخصية (بارازوف) في الرواية من حيث تمثيل التغير الاجتماعي وصراع الأجيال، الآباء والأبناء، الجمود والتغير، حيث يقف الآباء والمجتمع في خندق الجمود ويقف الشباب في خندق التغيير، وهو ما يمكن إسقاطه على الواقع الاجتماعي العربي خصوصاً بعد دخول الألفية الثالثة، وتتجلى إرادة التغيير لدى جيل الشباب العربي من خلال ما يبدو عليه هذا الجيل الذي تغيرت ثقافته بفعل وسائط الاتصال الحديثة ومتغيرات العصر، بينما يرى ما حوله غارقاً في الجمود، وهو ما سيجعل شخصيته تبدو غريبةً إلى حدٍ ما لأنها قطعت صلتها بالآباء ولأنها تطرح أفكاراً ورؤى جديدة من الصعب أن يتقبلها المجتمع. بل لأنها تضع نفسها في مواجهة الثقافة التقليدية للآباء، ومحاربة الركود الحاصل في المحيط الاجتماعي... غير أن بارازوف العربي أو (الممثل الجديد) أو (المثقف الشاب العصري) لم يظهر من أول لحظة على هذه الصورة التي هو عليها الآن، أو على الأقل لم يتجل دوره بشكل واضح كما هو الآن، لقد كان هناك صورة أخرى للمثقفين الشباب في الوطن العربي لم تكن على هذا النحو وعلى مدى سنوات –إن لم نقل أجيال- وحين نسأل عن طبيعة تلك الصورة فلا بأس من الاستعانة بإدوارد سعيد الذي استعان هو أيضا بعالم الاجتماع الأمريكي سي رايت ميلز ليجيب عن سؤال مشابه هو: "ماذا يمثل المثقف الآن؟" إذ كتب عالم الاجتماع الأمريكي سي رايت ميلز عام1944م، قائلاً:"أن المثقفين المستقلين كانوا يواجهون إما بشعور قانط بالعجز نتيجة هامشيتهم، وإما بخيار الالتحاق بصفوف المؤسسات، أو الشركات، أو الحكومات" ولعل هذا ينطبق على حالة المثقف العربي الشاب، إذ أن المثقفين الشباب كانوا إما يشعرون بالتهميش ويدخلون في عزلة فردية، وإما يلتحقون بالمؤسسات، ويتحولون إلى أبواق للسلطات، لكن هذا كان قبل الأحداث الأخيرة، أي قبل الثورات العربية(الربيع العربي)، أما الآن فيبدو أن المثقف العربي الشاب قد آثر الانخراط في الحياة الاجتماعية، والتموضع في سياق جديد خلقته الثورات العربية، يتجلى فيه تمثيل الأفكار على نحو ملموس وفاعل له علاقته بالحياة السياسية والاجتماعية، وهذا التحول يكاد يشمل بشكل أوسع المثقف المهمش أو المعزول باختيار منه أو خارج عن إرادته.... على كلٍّ ستمثل الثورة العربية ثورة الشباب العربي، لأنها تستمد روحها من هذه الشريحة، ومن وعيها المتجدد والمنفتح على المتغيرات، فإذا كان (بوعزيزي) رمز الثورة في تونس وشرارتها، و(خالد سعيد) رمزها في مصر وشرارتها، فإن الملاحظ أن هذين الرمزين يجمع بينهما أنهما هامشيان بحيث يجسدان وعي الهامش وثورته، كما أن كلاً منهما ضحية للمؤسسة القمعية التي تبالغ في القمع وتمعن فيه، بالإضافة إلى كونهما شابين بحيث يمثلان وعي الجيل الرافض للجمود المطبق على الحياة من حوله الجيل الذي تغير وتغيرت ثقافته وأنساق تفكيره، الجيل الذي سيغدو(هو الثورة والثورة هو) هذا الجيل الذي"شكل الانترنت ثقافته المتسمة بالقطيعة مع التراث والقطيعة مع الآباء"...هذا الجيل الذي يشبه (بارازوف) من حيث كونه –حسب إدوارد سعيد- "شخصية أنتجت نفسها بنفسها، تتحدى الروتين، وتهاجم التفاهة والأفكار المكررة إلى درجة الابتذال وتدافع عن قيم جديدة علمية وغير عاطفية تبدو منطقية وتقدمية.." هذا الجيل الذي فجر ثورته ضد الصنمية معلناً معركته معها ومع كل الأنساق التي تنتمي إلى نفس الحقل مثل(الأبوية، الوصاية، المركزية، الجمود، الفردية، القطب الواحد) بكافة تجلياتها وأشكالها حتى داخل الثورة نفسها، لأنها تعني في جوهرها أو تكرس بطبيعتها لفكرة الحاكم الإله...ولأنها إن لم تفتتها الثورة فكأن شيئاً لم يكن أو بتعبير البردوني: أي نفعٍ يجتني الشعب إذا** مات فرعون لتبقى الفرعنة