قبائل بلاد الروس تعلن تفويضها للسيد القائد واستعدادها لاي تصعيد    افتتاح بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد على كأس الشهيد الغماري    تركيا تعلن مقتل 20 من جنودها بتحطم طائرة شحن عسكرية في جورجيا    المنتصر يدعوا لإعادة ترتيب بيت الإعلام الرياضي بعدن قبل موعد الانتخابات المرتقبة    تألق عدني في جدة.. لاعبو نادي التنس العدني يواصلون النجاح في البطولة الآسيوية    دربحة وفواز إلى النهائي الكبير بعد منافسات حماسية في كأس دوري الملوك – الشرق الأوسط    إيفانكا ترامب في أحضان الجولاني    الإخوان والقاعدة يهاجمان الإمارات لأنها تمثل نموذج الدولة الحديثة والعقلانية    جنود في أبين يقطعون الطريق الدولي احتجاجًا على انقطاع المرتبات"    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    خبير في الطقس: برد شتاء هذا العام لن يكون كله صقيع.. وأمطار متوقعة على نطاق محدود من البلاد    القائم بأعمال رئيس هيئة مكافحة الفساد يكرم والد الشهيد ذي يزن يحيى علي الراعي    عين الوطن الساهرة (2)..الوعي.. الشريك الصامت في خندق الأمن    زيارة ومناورة ومبادرة مؤامرات سعودية جديدة على اليمن    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    اليوم انطلاق بطولة الشركات تحت شعار "شهداء على طريق القدس"    إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    حلّ القضية الجنوبية يسهل حلّ المشكلة اليمنية يا عرب    أبين.. الأمن يتهاوى بين فوهات البنادق وصراع الجبايات وصمت السلطات    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    30 نوفمبر...ثمن لا ينتهي!    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    كلمة الحق هي المغامرة الأكثر خطورة    تغاريد حرة .. انكشاف يكبر واحتقان يتوسع قبل ان يتحول إلى غضب    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    قاضٍ يوجه رسالة مفتوحة للحوثي مطالباً بالإفراج عن المخفيين قسرياً في صنعاء    قرار جديد في تعز لضبط رسوم المدارس الأهلية وإعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الدفع    مشاريع نوعية تنهض بشبكة الطرق في أمانة العاصمة    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    انتقالي الطلح يقدم كمية من الكتب المدرسية لإدارة مكتب التربية والتعليم بالمديرية    قراءة تحليلية لنص "خطوبة وخيبة" ل"أحمد سيف حاشد"    النفط يتجاوز 65 دولارا للبرميل للمرة الأولى منذ 3 نوفمبر    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    لملس يبحث مع وفد حكومي هولندي سبل تطوير مؤسسة مياه عدن    الحديدة أولا    الاتصالات تنفي شائعات مصادرة أرصدة المشتركين    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    حكاية وادي زبيد (2): الأربعين المَطّارة ونظام "المِدَد" الأعرق    نائب وزير الشباب والرياضة يطلع على الترتيبات النهائية لانطلاق بطولة 30 نوفمبر للاتحاد العام لالتقاط الاوتاد على كأس الشهيد الغماري    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    البروفيسور الترب يحضر مناقشة رسالة الماجستير للدارس مصطفى محمود    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    قراءة تحليلية لنص "خصي العقول" ل"أحمد سيف حاشد"    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضد قسمة الوحدة على مجهولَين
نشر في المصدر يوم 27 - 08 - 2011

تاريخيّاً، يُعتقد أن من أسباب الحرب اليمنية السعودية مطلع القرن الماضي هو موضوع الوحدة اليمنيّة.

كانت بريطانيا تسيطر على الإقليم الجنوبي من اليمن. وكان الإمام يحيى قد بدأ في إقامة علاقات سياسية وتجارية عميقة مع الإيطاليين الموجودين على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، أثيوبيا. ولأول مرة يدخل البن اليمني إلى إيطاليا في تلك الفترة الزمنية، ويشهد رواجاً. وأيضاً: لأول مرة يقام مصنع عسكري في الجزيرة العربية في شمال اليمن، بدعم إيطالي وربما ألماني، 1928م. فُهم موقف الإمام يحيى حميد الدين من الوحدة آنئذٍ كما لو كان تنسيقاً مع "المحور" في فترة ما بين الحربين ضد بريطانيا. فاختارت بريطانيا أن تدفع حليفها السعودي إلى الضغط على إمام اليمن واحتلال أراضيه لكي يدرك جيداً أن دخوله في اللعبة الدولية سيجني عليه الوبال. كان المثقفان اليساريان الشهاري، الشمالي، وباذيب، الجنوبي، يؤلفان عن تلك الحقبة الزمنية في الشطرين وكأنهما يكتبان نصّين ماركسيين متطابقين.

في الجانب الآخر، ومنذ العشرينات، كان مثقفو اليمن في الجنوب ينظرون إلى الوحدة مع الشطر الشمالي بوصفها موضوعاً رئيساً في مشروعهم السياسي والثقافي.

وبعد حوالي سبعة عقود من مطالبة الإمام يحيى بالوحدة حدث الأمر. كان بطلا الوحدة رجلين من مجاهيل التاريخ، من مجاهيل الثقافة، من حطام الساسة. اثنين وضعتهما المصادفات التاريخية المحضة في مقدمة العربة: صالح، البيض. وهكذا قاما بتخريب هذا الموضوع الكبير بصورة عميقة، وربما إلى الأبد.
عقد الوحدة اليمنيّة وقعت عليه مجهولان لا يمثلان – بالمعنى الديموقراطي- سوى جماعات مصالح ضيقة، غير أخلاقية وبالتالي غير وطنية. لكنه، ويا للمصادفة، الوثيقة الوحيدة التي حازت شرعيتها بتوقيع لصّين. كانت ساعة التوقيع أول وآخر لحظة شرعية تمثيلية للمجهولين "البيض، صالح" لأنهما في تلك اللحظة كانا يصدران عن إرادة جماهيرية هي الأعلى والأكثف في التاريح اليمني الحديث. ليس قبلاً، وليس بعداً.

عندما أجريت حواراً مع القيادي الجنوبي شعفل عمر، 2007، لصالح صحيفة النداء قال لي: قضت أحداث يناير على أبرز القادة الجنوبيين، فوصل البيض إلى المقدمة بسبب الفراغ التاريخي في القيادة. أما الشيخ الأحمر فيروي أن صالح جاء من المجهول. وأن السعودية فقط هي التي كانت تعرف هذا المجهول. التقى المجهولان، ورفعا العلم في لحظة تاريخية مهيبة لم تمنع البردّوني العظيم من أن يشك فيها بعمق "يا ربة الصبل قولي لنا .. أي عليٍّ سوف يقصي علي".

كان غورباتشوف يعاني. وكان العملاق العالمي يهوي. واكتشفت دول هذا المعسكر التي عاشت بلا سوق، وبلا ديموقراطية أنها لم تعُد قادرة على أن تبصر المستقبل جيّداً، فقد اعتادت أن تفعل ذلك من فوق كتفي العملاق السوفيتي. دخل الشطران في طور الوحدة على وقع من أغاني الفنان الجنوبي محمد مرشد ناجي "طال صبري على شين طاء راء ياء نون". ركن الرفاق القادمون من الجنوب إلى جحافلهم اليسارية في الشمال. وانتظر صالح – كعادته – المصادفات السعيدة. سئم صالح انتظاره بسرعة، وبدأ على الفور لعبته القذرة. لقد سقط عشرات الشهداء من القادة الجنوبيين، وكان صالح يرد على البيض الذي يطالبه بإلقاء القبض على القتلة: لست شرطياً لدى علي سالم البيض. هكذا يفهم صالح دور رئيس الدولة!

حدث تحوّل خطير بعد الوحدة بعامين. النفط في الجنوب. خسر الرفاق الانتخابات، بخلاف توقعاتهم. ظهر خصم جديد ذو شكيمة وقدرة على الاختراق: الإصلاح. تحالف صالح والإصلاح، وتحالف الرفاق مع "فكرة النفط ودولة الرفاه". الطريق آمن، إذن، ولا بد من العودة إلى الوراء فهناك فرصة ثمينة لدولة رفاه على أرض واسعة يقطنها بضعة ملايين من البشر، ويحيطها النفط من كل جانب. هندست فكرة الانفصال بالفعل، وكان صالح يضغط في اتجاه هذا الخيار بكل شراهة، في انعدام كلي للرؤية. وصالح دائماً بلا رؤية، وفيما يبدو هو المخلوق الدارويني الوحيد على ظهر الأرض، كما تقول الشواهد!

حتى تلك اللحظة كان الشعب اليمني في الشطرين المندمجين يعيش خارج هذه المعارك. هذه الصراعات لا تخصّه. إنها سياسة، والسياسة ليست أم الحقائق، بينما كانت الوحدة الحقيقة الاجتماعية المدعومة تاريخياً ودينيّاً، الحقيقة الغالبة. صعدت المواجهات بين المجهولين "صالح والبيض" إلى حرب 94م. لم تسقط الوحدة في تلك الحرب. لقد سقط صالح والبيض. سقط نظام صالح، وسقط نظام البيض وأكدا، بلا مزيد من الجدال، أنهما جاءا بالفعل من مجهول السياسة والأخلاق وأن بقاءهما في المشهد لا يعني أكثر من الإبقاء على فتائل الانفجار. وكان لا بد أن يطردا، مع نظاميهما، في تلك اللحظة لكي يعيش اليمن. وهذا ما لم يحدث، فلم تتعافَ اليمن حتى هذه اللحظة. انهارت العملية السياسية في حرب 94 وبقيت الحقائق الاجتماعية والتاريخية سارية المفعول. كان أغرب ما في تلك الحرب أن تكون الوحدة مردافة للوقوف في صف صالح. وأن تكون مجابهة بلطجة صالح مرادفة لفكرة الانفصال. لقد كانت خيارات شديدة الحساسية، مربكة إلى أبعد ما يمكن للسياسي أن يتصوره. وفي هذه الإشكالية التاريخية علِق حزب الإصلاح أيضاً.

انتهت الحرب، وانتصر فيها صالح الذي مارس عملية تضليل واسعة النطاق جعلت قبائل وجهات جنوبية واسعة تقف إلى جوارِه ضد نظامها السياسي السابق. من التسطيح غير المقبول أخلاقياً ولا تاريخياً القفز على هذه الحقيقة.

دخل المجهول الدارويني، صالح، مدينة عدن فحرف طريقها من "سكة سنغافوره" إلى سوق القات. أحاط نفسه بجماعة طفيلية، نفشهم في محافظات الجنوب مثل أغنام البدو. بدأت الوحدة، عند هذا الطور، في التآكل على المستوى الاجتماعي بعد أن تآكلت في المنطقة السياسية. صعد صالح في عملية التخريب للدالة الوطنية حتى الينابيع. بعد 13 عاماً من بدء عملية التجريف "الاجتماعي" للوحدة خرجت الأفواج في الجنوب تطلب طريقاً آخر، غير طريق الحليب المطعّم ببكتيريا وفطريات صالح. انتظر الناس في الجنوب إلى أيقونة تجمعهم. ببساطة: استعادة الدولة، كانت هي الأيقونة. قال فيصل بن شملان عن هذه الظاهرة الاجتماعية: اطلب باطل تلقَ الحق. لكنه عاد بعد عام ونصف من مقولته لكي يؤكّد أمراً آخر "جئتكم من عدن، لم تعد الوحدة كما كانت في قلوب الناس".

دعوني أفترض أن الوحدة لم تسقط من وعي الناس في الجنوب. لقد سقطت فكرة "الدولة الموحّدة" باعتبارها فضيلة، وفرصة لحياة أفضل. تدخل مثل هذه الحسابات البشرية الفيزيائية في جوهر المشروعية الأخلاقية دائماً. فهي تقع في صميم حركة الإنسان، وغرائزه التكوينية، منذ خرج من الكهف لأول مرّة: اللذة والألم. من غير المتوقع تصور الجنوبي الاعتيادي وهو منشغل طيلة نهارة بالمقولات السياسية الفارعة التي يرددها العطّاس بلا وعي. يصب في صالح هذه الفكرة خروج الشباب في الجنوب في الثلث الأول من الثورة بكثافة غير مسبوقة تنادي بإسقاط النظام وترفع علم الدولة الموحدة. وهو مظهر اجتماعي يعني أن الوحدة لم تسقط لأنها "شمال جنوب" بل لأنها أوجدت دولة غير قابلة للحياة.

كانت التباشير الرومانسية الأولى للثورة تعني أن دولة ما، صالحة للحياة، توشك على التحقّق. وقد بدا أن غالبية الجنوب مستعد لمد فترة الحلم الوحدوي قليلاً، لإعطاء الوحدة فرصة جديدة ريثما تثبت جدارتها في تحقيق مستقبل أفضل. علي سالم البيض، وهو سياسي قليل الحنكة ومتوسط الذكاء، كان يعزِف بطريقته القديمة التي تجعل من الوقوف مع صالح أمراً أخلاقياً مثلما فعل في السابق، عندما كان الشخص الخطأ الذي يقف في الجانب الصحيح!

في السابق، مع نهاية 1993، كان صالح يبتسم للكاميرات وهو يدشن افتتاح حقول نفط جديدة في الجنوب، بمزاج وأخلاق مقوّت أصيل. كان خصومه المعتكفون في عدن يحدثون أنفسهم على طريقة ربات المنازل "زيتنا في دقيقنا". أنا هنا لا أنوي السخرية من المقوّت ولا من ربة المنزل. فقط أريد أن أقول: إن المقوّت وربّة المنزل لا يزعمان أنهما يبرعان في العمل السياسي، بل يكتفيان بكونهما ميسرين لما خلقا له.

في لحظة فارقة أصبح صالح، الرجل التالف على كل الصعد، يعني: الوحدة. كانت اللحظة التاريخية تضغط في اتجاه تفعيل هذه المعادلة المستحيلة وجعلها حقيقة براغماتية قابلة للتحوّل مع الزمن. وكان انتصار صالح على خصومه القادمين من الجنوب، والمدعوميين من قبل إنتيليجنسيا شمالية واسعة، يعني انتصاراً للدالة التاريخية: اليمن. عاد التاريخ بعد ذلك، دون أن يعتذر، لكي يقول لنا إن تلك المعادلة كانت هي أكثر المعادلات خطأ. وأنه لم تكن توجد، في تلك الأثناء، معادلة أصح منها! وهي نفس الصورة القائمة الآن: الخيارات المربكة، شديدة التعقيد. إذ يبدو الآن كما لو كان صالح مرادفاً للسلامة الوطنية. مرّة أخرى: يقع فريق البيض العطّاس في نفس الخطيئة التاريخية. يمنحون صالح، مرة أخرى، مشروعية أخلاقية، وزمنية، قابلة للتصديق وينهزمون له في معركة ليست من اختصاصهم.

بالعودة إلى أول الكلام. كنا نفترض أن حرب 94 أسقطت الوحدة بالمعنى السياسي، لكن الوحدة بقيت مؤكدة اجتماعياً وتاريخياً. فالعام 90م لم يفعل أكثر من أنه نصب مسرحاً عظيماً ليطلع العالم على معزوفة محلّية عمرها يقترب من مائة سنة، أعني الحلم المؤكّد تاريخياً. بعد 94 تآكلت الوحدة اجتماعياً. لكن منذ فبراير2011م عادت فكرة الوحدة مرة أخرى تتأكد على المستوى الاجتماعي، الأكثر خطورة في مثل هكذا مواضيع ودوال. يمكن أن يلمح مثل هذا المعنى، والمضمون، في تصريحات الأمين العام للحراك الجنوبي، على سبيل المثال، وفي منطق الشباب في عدن والمكلا، خاصة في الثلث الأول من الثورة. لكن المفارقة غير المفهومة سياسيّاً أن يأتي الساسة القدامى ليمارسوا لعبة تقع خارج الحقائق الاجتماعية، والسياسية الراهنة. إنهم فيما يبدو، من جديد، ينظرون لصالح المترنّح في 2011م كأنهم لا يزالوا ينظرون لصالح 1993م وهو يفتتح آبار النفط في المسيلة. ومرّة أخرى يفكّرون بالاعتكاف في عدن. لكن الاعتكاف هذه المرة سيجري عبر الانسحاب من المجلس الوطني.

قبل حوالي العامين نشر الشاعر والمثقف المعروف، ابن عدن، "كريم الحنكي" بياناً عميقاً في صحيفة النداء. تحدث فيه عن وحدة الثابت والمتحوّل، عن الوحدة السياسية، المتحول، والوحدة الجغرافية، الثابت. قال إن الوحدة السياسية، بشكلها المتوفّر، لم تعد أمراً يخص أبناء الجنوب. لكنه كان متحمّساً لفكرة "اليمن الجغرافي الكبير". الحنكي عرف اليمن الجغرافي الكبيربأنه حاصل جمع هذه الأقاليم الثلاثة: الشمال، الجنوب، السعودية. يمكنني أن أتعامل مع فكرة الحنكي كالتالي: الوحدة، كموضوع سياسي، هو أمر يخص الطرفين السياسيين الموقعين عليها. وهما بالمناسبة ليس طرفين ديموقراطيين، وتجري الآن عملية متأخرة لإسقاطهما. والحديث، سياسياً، عن سقوط الوحدة هو حديث يخص جماعة سياسية منقرضة. لكن خطورة ما ينال دالة الوحدة راهنا هو تآكلها على المستوى الاجتماعي، وأيضاً الجغرافي، وهذا أمر يخص الأجيال الجديدة. مرة أخرى: تصبح مقولة القضية الجنوبية غير ذات موضوع، لأنها تلخيص للمشكلة السياسية. والمشكلة السياسية، المكثفة في هذه المقولة، تنتمي إلى صراع نظامين سياسيين لم يعودا في الوقت الراهن واقعيين فاعلين على الأرض، ولا في المستقبل.

يتشابه حديث العطاس الأخير لقناة النيل حول "الاستفتاء على الوحدة" مع مضمون إعلان الانفصال 22 مايو 1994 الذي تلاه البيض. يقول الخطابان إن الموقف من الوحدة خيار جنوبي، وأنه مرهون بموافقة أجيال المستقبل. يتجاهل الرجلان حقيقة أنهما يمارسان عملية تضليل واعية تلعب على أكثر من مستوى لوعي وإدراك "أجيال المستقبل" وتحرف خياراتهم في اتجاه خدمة الموقف السياسي والرؤية الأنانية الديكتاتورية لأجيال الماضي. هذا ليس هجاءً مقتبساً من افتتاحية صحيفة الثورة، فقط يبدو غريباً، وممجوجاً، أن تنسى هذه القيادات التاريخية أنها لم تكُن تمثّل إرادة جماهيرية في الماضي، بل واقعاً سياسياً غير ديموقراطي. وأن عودتها إلى الواجهة بالصفة الماضية، دون ترميم يتواءم مع المنطق الديموقراطي للشرعية التمثيلية، يضعها في حزمة الأنظمة العربية الديكتاتورية التي يجري تفكيكها الآن، وفي مقدمتها نظام أسرة صالح.

جاءت الثورة الراهنة لكي تنسف نظام صالح حتى جذوره، ولكي تجرف نظام البيض حتى آخر قلاعه، ولكي تنبت جذرياً وتفارق كل تاريخ القمع والاستحواذ والهيمنة والوراثية والعسكرتاريا والقبليّة السياسية والاجتماعية. ومن المهام المؤكدة والأصيلة لهذه الثورة اليمنية النوعية أن تعود بالوحدة إلى ما قبل عام 90، وإلى ما قبل اتفاق 30 فبراير 1989م. إلى ذلك الزمن الجميل، عندما كانت الوحدة معزوفة جماهيرية، اجتماعية بالمعنى العملي، قبل أن يختطفها العازفان النشاز: صالح والبيض، ويهلكاها بلا ضمير ولا رؤية ولا مسؤولية. وهذا لا يعني سوى أني أدعو إلى استكمال إسقاط نظام علي صالح، وعلي البيض بكل صراعات النظامين ومقولاتهما السياسية ومواقفهما من كل شيء، من الديموقراطية حتى كرة القدم، وإلى الأبد. ولندع الثورة تجرِ المعالجة الاجتماعية الضرورية للوحدة اليمنية بلا مقولات فارغة غير قادرة على تفسير ذاتها، وبلا قائمة شروط ديموقراطية يقدمها ألد خصوم الديموقراطية وأكثر الناس جهلاً – على المستوى العملي والتاريخي - بها. هناك قضية جنوبية، هناك أيضاً قضية وطنية. القضية الجنوبية جزءٌ أصيل من القضية الوطنية، والقضية الوطنية هي قضية الوحدة في أوضح تجلياتها. لم يعد من المناسب أن ينظر إلى الوحدة كموضوع سياسي، بل يجدر تناولها بحسبانها موضوعاً اجتماعياً ماساً وملحّاً. فالوحدة لم تتآكل لأن نظام البيض خسر الحرب، بل لأن الشعب اليمني في الجنوب خسر الثقة في المستقبل عبر الدولة الموحدة واصطدم بأطماع جماعة صالح الطفيلية التي كانت تحمل، للأسف، أرقام سيارات شمالية. هكذا بدأ تعريف المشكلة الوطنية، في حضورها الجنوبي، باعتبارها فشلاً ذريعاً للنظام السياسي المنتصر. هناك مغالطة ماكرة يجري الزج بها هنا: إن المشكلة الجنوبية ناشئة عن الحرب وخسارة نظام البيض أمام نظام صالح. في حين نعتقد نحن أن المشكلة الجنوبية نشأت بسبب فشل النظام المنتصر في إدارة الدولة الجديدة، ليس لأنه انتصر. لذلك نعتقد أن المشكلة الجنوبية هي مشكلة اجتماعية أصيلة، أما موضوعها السياسي فهو الجزء الأبرز في المشكلة الوطنية إجمالاً.

إن الذين يتحدّثون عن القضية الجنوبية لا يقدّمون سوى منطق سياسي في حين تبدو القضية أكثر عمقاً وتعقيداً من السياسي. لأن اعتبارها موضوعاً سياسياً صرفاً يعني اعترافاً ضمنياً بالمشروعية التاريخية لنظام صالح ونظام علي سالم البيض على السواء. وفي تصورنا أن الثورة لم تأتِ فقط لكي تنقذ المستقبل، بل من مهامها تصحيح الماضي. لقد كانت الوحدة عملاً سياسياً طائشاً بين نظامين لا ينتميان إلى المشروعية التاريخية. لكنها كانت فعلاً اجتماعيّاً شديد الروعة. أستندُ إلى هذه الفكرة لكي أدعو إلى تصحيح فكرة القضية الجنوبية وأطالب بإصالحها من الداخل وتنقيتها من مضمونها السياسي الخطير، لكي لا تستخدم كحصان طروادة لعودة "الأوجه الكئيبة" إذا استعرنا وصفاً للراحل صلاح عبد الصبور في قصيدة شهيرة ذات مضمون سياسي.

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.