ما يجري في اليمن هو ثورة مستوفية الشروط. ليست انتفاضة، ولا هي حراك، هي ثورة مكتملة بملامحها المشبّعة الناضجة. خروج جماهيري كاسِح ضد كل الماضي، وحديث عن المستقبل بلغة نوعية شديدة التمايز عن لغة الزمن الصالحي المريض. إنها ثورة كاملة، ومكتملة. وعندما نقول ثورة فنحن نتحدث عن فعل عظيم هو استثمار في المستقبل، وقطيعة جذرية مع الماضي: شخوصه، أفكاره، لائحته القانونية، أنماط حياته وسلوكه، مدوناته الأخلاقية. الثورة تسقط كل ذلك لكي تفسح مجالاً شاسعاً لحضور المستقبل. تحدث الثورة الآن في اليمن لكي تسقط نظامين باليين: الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية وما تولّد عنهما: نظام الجمهورية اليمنية بكل عناصره. توحد النظامان الشموليان، خصما الحريات والحقوق والمعرفة الحرة في العام 90 فنتج عنهما نظام هو مزيج من المدونة الذهنية والسلوكية لنظامي ما قبل الوحدة بمنظومة من العلل والفجوات التي يصعب ردمها وصيانتها، لذا فقد كان سقوط ذلك النظام الوليد متوقّعاً، وانحصر السؤال حول زمن السقوط لا إمكانياته. لقد كان نظام دولة الوحدة، وما نتج عنه من نظام مهجّن بفعل الحرب والاستبعاد، خليطاً غير منقى من عناصر زمني الفقر والقمع في القطرين. الثورة في كل اليمن قررت أن يرحل نظام صالح، بكل خيامه ومكوناته، وأن يختفي نظام علي سالم البيض بكل تاريخه وضوضائه وشخوصه المريضة التي لا تزال تثير الضحك والسخرية في هامش المشهد السياسي المتلاشي. يتحدث الرئيس صالح عن شرعيته، وكذلك الرئيس علي سالم البيض. صالح يتحدث عن هذه الشرعية منذ 33 عاماً، وعلي سالم البيض يتحدّث عن شرعية نقيضة بحسبانه ممثلاً لجنوب اليمن لحوالي 25 عاماً منذ 1986م. لكن حديث الثورة يقول بطريقة مباشرة: يرحل نظام صالح، وكل ما تبقى من نظام علي سالم البيض. يتشابه الرجلان، وتتطابق مضامين السبّورة الذهنية لنظاميهما. وضدهما يتوحد موقف الثورة اليمنية: يسقط نظام الربع قرن، يسقط نظام الثلث قرن. ومعهما، فلتندحر تلك الجحافل البشرية السقيمة المحيطة إلى "حيثُ ألقت أم عمرو رحالها".. ثارت تونس ضد حكم 23 عاماً، لكن الثورة في جنوب اليمن لا تزال بها أعراض غريبة عن حزام الثورات العربية، ولدي يقين بأنها ستصحح نفسها قريباً. هناك من يرفع صورة علي سالم البيض الذي وصل إلى السلطة قبل 25 عاماً على نحو لم يكن يمثل، بالمرة، الإرادة الجماهيريةً. يجري استجلاب الماضي في الجنوب اليمني على نحو غير مفهوم في وقت تنجز فيه الثورات العربية المشرقة، على امتداد الفالق البوعزيزي الكبير، القطيعة النهائية مع الماضي الراكد بكل ديناصوراته ومومياته التي أخرجته من التاريخ. من يعبر عن إرادة الشعب اليمني في الجنوب هو الشعب اليمني في الجنوب بشبابه وفئاته وتشكيلاته المدنية الواسعة. لا يملك أحد الحق، لا في الشمال ولا الجنوب، أن يتحدث عن هكذا إرادة، وعلى جهة التحديد: أولئك الذين لم يكونوا أحسن حالاً من بن علي والأسد ومبارك وصالح فيما يخص موقفهم من الحريّة. والحريّة هي القادح الأعظم لعبوّة الثورة العربية الأسطورية. كل من عمل على حرمان الشعوب من حرية التعبير، الاختيار، التفكير، الاعتقاد، التمثيل، عليه أن ينزوي في ماضيه بدخانه، أن يتوارى كمومياء بلا زمن، وخرافة بلا قيمة. كان البيض رئيساً فعلياً لليمن الجنوبي، لكنه لم يكن الرئيس الشرعي. الجماهير هي المصدر الوحيد للشرعية، باعتبار الشرعية عملية تعاقدية بين طرفين تسقط لمجرّد رفض أحدهما أو إحساسه بأنه وقع ضحية عملية احتيال ومصادرة. لم يكن علي سالم البيض منتجاً لشرعية جماهيرية، وأياً كان شكل الشرعية التمثيلية غير الجماهيرية التي امتاز بها فإن الثورة العربية الحديثة في صورتها اليمنية قد وضعت حداً لكل أشكال تلك الشرعيات غير الجماهيرية وانتهى ذلك الفصل القديم بتعقيداته ولاأخلاقياته. نحن بصدد تيار جديد شديد التمايز، عالي الكثافة، يعبر إلى المستقبل بقوة الزمن وشهوة التغيير الشامل. مهمة الثورة كنس كل تلك اللاشرعية في أزمانها وأنظمتها وأمكنتها المختلفة. لم يكن لأحد في الجنوب اليمني الحق، ولا القدرة، على أن يتساءل حول شرعية نظام علي سالم البيض. فالنظام كان غير ديموقراطي بالمرة، ولم يكن يوجد في مسودته السياسية القديمة، ولا حتى الجديدة، حديث منهجي وعملي عن الحقوق والحرّيات. شخوصه المهيمنة التي لا تزال تتحدث عن شرعية تمثيلية غير انتخابية، لا تختلف في نوعها عن شخوص نظام الجمهورية العربية اليمنيّة. لا يمكن إصلاح نظام صالح من داخله، وكذلك نظام علي سالم البيض بما بقي منه من شخوص. إن إصلاح الماضي التالف لأجل استخدامه في المستقبل هو تخريب للماضي وتهديد لقابلية المستقبل للحياة. بالنسبة لنظام علي سالم البيض كان المواطن مجرّد "عامل مستهلِك" أحادي البعد، اقتصادي الملامح، غير مركّب. وبالنسبة لعلي سالم البيض نفسه فإن رئاسته للدولة هي فترة أزلية، وفي أفضل الأحوال تحددها اللجنة المركزية للحزب وليس الجماهير. لا يبدو أن نمط تفكيره قد تغير، ومعه أركان نظامه السابق، وعليه فمن غير الجدير استجلابه على أي نحو. يفكر البيض أو العطاس أن يعود رئيساً لجنوب اليمن. وبالطبع، فلا يمكن لأي منهما أن يتخيل نفسه رئيساً لمدة أربع سنوات، ولا عن عملية اختيارية حرّة. كل ما يخطر في باليهما الآن –استناداً إلى المسودة التاريخية لكل منهما على حدة- هو الحديث عن عملية تفويض جماهيرية غير قابلة للقياس، ثم الجلوس على عرش الملك متنكرين بثياب "رئيس جمهوري"! تحدث العطاس مؤخراً لقناة البي بي سي عن أن شعبه الجنوبي قرّر الخروج من الوحدة بلا رجعة. لم يقُل إن شعب اليمن في الجنوب أعلن الثورة، لأنه يدرك بعمق أن الثورة تعني القطيعة مع كل الموميات التاريخية الفاسدة، أو الفاشلة. في الآن ذاته، فإن الثورة لا تتردد في أن تنحت التماثيل، وتدق الطبول، وتسمّي الشوارع والجامعات لأجل وبأسماء أولئك الذين أضافوا للكبرياء الوطنية والذاكرة الجماعية زخماً خاصاً على صعيد الحرية والفن والأدب والفكر والسياسة والرياضيات. دعونا نشِر إلى باسندوة وجار الله والجاوي والبردوني.. الثورة الراهنة هي عملية جماهيرية محضة نصرها الشباب وخذلها الكهول والشيوخ، ولا ينبغي أن ينتج عنها سوى مزاج سياسي يتماشى يداً بيد مع تطلعات ونفسيات ومزاج الجيل العربي الجديد. البيض، مثل صالح، ينتميان إلى زمن شرعية اللاشرعية، زمن السديم العربي حيث لم يكن هناك وجود لتلك الشروط الموضوعية العربية اللازمة لحياة سياسية نظيفة. نحن نرفع صور الحمدي لكننا لا نريده الآن، ولن نقبل بأن يحكمنا. نحبّه كثيراً لأنه جزء من ماضينا الجميل لكننا، مع اعتذاري الكبير للرئيس الحمدي، نتحدث عن المستقبل. القادم من الماضي يرعبنا أكثر مما يثير فينا الفرحة والنشوة. نحب الحمدي ليس لأنه فقط ماضينا الجميل بل لأنه سيبقى في الماضي ولن يأتي. ولو كان لا يزال ممكناً أن يفد إلينا الحمدي من الماضي فإننا كنا سننزل صوره في الحال. التطوّر متتالية زمنية نوعية على شكل شلال وليس دائرة. لا يعود الكائن البشري إلى ماضيه بل ينطلق إلى اللازمن واللامكان واللامتعين واللامتحدّد. ينطلق الكائن البشري، عبر عملية تطورية تثور كل يوم على نمطها السابق، وهذه هي الحتمية الأكثر جلاءً ورهبة والملمح الأكثر صفاء لنوعية الحياة على ظهر هذا الكوكب. الثورة في اليمن تعتزم إنجاز مهمة تاريخية: كنس كل هذا الماضي المتخلف، في الشمال والجنوب، لأنه لم يعد صالحاً للمستقبل كما لم يكن جيداً في الماضي. يعتقد صالح أنه غير شرير، وكذلك البيض. وتعتقد الثورة أنهما في أحسن أحوالهما لم يعودا صالحين للحاضر والقادم من زمن الشعب اليمني، من عصر الجماهير. أما إذا حرصا على أن يواصلا حضورهما في المشهد السياسي فإن مهمة الثورة هي أن تجعل رؤية المستقبل ممكنة من خلال إزالة كل تلك الكيانات المعتمة التي تحجب الرؤية وتعيق الحركة. المستقبل يخص الشباب اليمني وهم وحدهم من لهم حق الحديث بشجاعة، وبلا حدود، عن مستقبلهم وبالطريقة التي يختارونها. لا العطاس ولا صالح ولا البيض. دعونا ننهِ هذا الحديث بمقولة الشاعر المصري الكبير الأبنودي عشية الثورة المصرية: آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز..