كلما جاء ذكر القضية الجنوبية من قبل الجنوبيين إلا وتحسس شماليون من ذلك بشكل لافت للانتباه. هذا أمر بات جلياً بحيث لا يمكن القفز فوق حروفه. شخصياً قرأتُ مقالات كثيرة في هذا الصدد في الأيام الفائتة؛ لكنني أحببتُ الجهد الكبير الذي بذله صاحبي الزميل العزيز مروان الغفوري في مقاله الأخير (ضد قسمة الوحدة على مجهولين) علاوة على ذلك، هو في نهاية المطاف لم يضع خياراً مثل: (عليك بوحدتي أو سأقتلك)، بغض النظر عن بعض التفاصيل التي أختلف معه فيها، علماً بأننا في الأخير إنما نعبّر عن ما نراه ليس غير. ثمة حقيقة لا يمكن القفز فوق حروفها؛ وهي أن الوحدة اليمنية قامت في 22 مايو 1990م بين دولتين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحدة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية.. يعني: بين شمال معروفة حدوده، وبين جنوب معروفة حدوده أيضاً. بالتالي، وببساطة شديدة، لا يمكن انكار أن هناك حاجة اسمها شمال، وحاجة اسمها جنوب. وعلى ذلك ببساطة أشد يمكن للمرء أن يقيس باقي الأمور. حاول مروان بأسلوب آسر تقديم صورة سيئة قدر استطاعته عن الرئيسين صالح والبيض؛ في محاولة رائعة منه لتوجيه الأنظار إلى مسألة واحدة لا قرين لها: عدم صلاحيتهما للحكم بعد الآن. وهذا أمر منطقي تماماً لسبب بسيط جداً هو أنه لا يوجد سبب أصلاً في رؤية الوجه ذاته يحكمنا كل هذا السنوات.. ياااااه: ما أطولها. لكن مروان في سبيل ذلك جعل توجهه العاطفي يطغي على ما عداه بحيث اغفل حقائق كثيرة سواء كانت موجودة في الشمال أو في الجنوب، الأرضية السياسية المختلفة التي انطلق منها صالح والبيض لا شك مثالاً. يعتقد مروان قائلاً أن الوحدة لم تسقط من وعي الناس في الجنوب. ويضيف: (لقد سقطت فكرة "الدولة الموحّدة" باعتبارها فضيلة، وفرصة لحياة أفضل)؛ وهو ما اتفق معه في ذلك، ومن ذا الذي لن يتفق مع هذا التوصيف الدقيق جمالاً. كل إنسان - جنوبي أو شمالي- بالفعل كان يتطلع إلى حياة أفضل. لكن هذا ما لم يحدث؛ بيد أن الدقة تتطلب منا قول أن مثل هذا الأمر يتجلى بصورة ناصعة في الجنوب أكثر مما هو في الشمال. يذهب مروان في الاعتقاد أن (خروج الشباب في الجنوب في الثلث الأول من الثورة بكثافة غير مسبوقة تنادي بإسقاط النظام وترفع علم الدولة الموحدة؛ هو مظهر اجتماعي يعني أن الوحدة لم تسقط لأنها "شمال جنوب" بل لأنها أوجدت دولة غير قابلة للحياة)؛ وهذا صحيح تماماً، بيد أن ذلك يتطلب مني طرح السؤال التالي: لماذا تغير الأمر تالياً؟، وبالتالي أسبابه للوصول إلى وضع حلول بالضرورة..؟.. أليس كذلك..؟! لقد انتهت الوحدة كمظهر اجتماعي قبل مظهره السياسي ولم يعد لها وجود على الأرض. كلنا صرنا يعرف ذلك، على الأقل في الثلثين الباقيين من الثورة توافقاً مع ما جاء بعاليه. أو لتراقبوا وحسب هذا المشهد الاجتماعي البسيط الصادم، كنقطة في بحر من المشهد الاجتماعي الكبير: معظم المؤسسات الحكومية في الجنوب يحرسها أفراد أمن من الشمال. هذا المنظر بالتأكيد غير موجود في المحافظات الشمالية..! يحاول الكاتب التعبير عن خوفه الشديد مما هو قادم جرّاء ما يحدث الآن، وفي سبيل ذلك عمل على تلخيص وجهة نظره حول تكرار المشهد في تأزيم المشهد السياسي ووصوله إلى طريق هادم للوحدة: الاعتكاف، وكلنا يعرف ما تلى الاعتكاف الذي يقود إلى الحرب؛ أو لنقل هكذا فهمت. طبقاً لمروان: في العام 1993م حدث اعتكاف وكان سبباً في ما تلاه من أحداث. وفي العام 2011م حدث اعتكاف، وسيكون سبباً في ما سيلي من أحداث. لتتأكدوا من ذلك ما عليكم إلا اعادة قراءة الفقرة التالية: (كنا نفترض أن حرب 94 أسقطت الوحدة بالمعنى السياسي، لكن الوحدة بقيت مؤكدة اجتماعياً وتاريخياً. فالعام 90م لم يفعل أكثر من أنه نصب مسرحاً عظيماً ليطلع العالم على معزوفة محلّية عمرها يقترب من مائة سنة، أعني الحلم المؤكّد تاريخياً. بعد 94 تآكلت الوحدة اجتماعياً. لكن منذ فبراير2011م عادت فكرة الوحدة مرة أخرى تتأكد على المستوى الاجتماعي، الأكثر خطورة في مثل هكذا مواضيع ودوال. يمكن أن يلمح مثل هذا المعنى، والمضمون، في تصريحات الأمين العام للحراك الجنوبي، على سبيل المثال، وفي منطق الشباب في عدن والمكلا، خاصة في الثلث الأول من الثورة. لكن المفارقة غير المفهومة سياسيّاً أن يأتي الساسة القدامى ليمارسوا لعبة تقع خارج الحقائق الاجتماعية، والسياسية الراهنة. إنهم فيما يبدو، من جديد، ينظرون لصالح المترنّح في 2011م كأنهم لا يزالوا ينظرون لصالح 1993م وهو يفتتح آبار النفط في المسيلة. ومرّة أخرى يفكّرون بالاعتكاف في عدن. لكن الاعتكاف هذه المرة سيجري عبر الانسحاب من المجلس الوطني). حسناً.. كنتُ أود من مروان التوقف عند هذه النقطة بمزيد من التمعن؛ [المنسحبون] من المجلس الوطني لا يمثلون كل الجنوب؛ ولا يملكون الحق أصلاً في التحدث باسمهم مع أنهم وضعوا أسباباً لموقفهم وهذا حقهم، في حين كان الوضع مختلفاً تماماً ما قبل 1994م. إذاً.. مسألة الاعتكاف هنا مختلفة في الحالين إذا اعتبرنا أن الانسحاب يماثل الاعتكاف ولو مجازاً؛ والمنطق هنا يحتم علينا - طالما ان الثورة تجمعنا- أن نعالج طريقة وآلية اختيار أعضاء المجلس الوطني الذي من المفترض أنه جاء ليعبّر عن الجميع، بدلاً من التركيز على المنسحبين وحسب، علماً بأن كثيرين في محافظات كثيرة في الشمال علت أصواتهم من العملية الإقصائية ذاتها. هل سأل أحدكم: لماذا نتغاضى عن كل ذلك؛ لماذا نهمل الأهم ونركز على ما عداه..؟! دعكم من حكاية التبرير المغاير غير المنطقي كالقول مثلاً بالنص أن (التجارب أثبتت أنه من الصعب في بلد مثل اليمن تمثيل كل القوى السياسية في مجلس واحد بلا استثناء إلا إذا تم انشاء مجلس يبلغ عدد أعضائه 22 مليون عضو حيث أن كل يمني يعتبر نفسه قوة سياسية، خصوصاً بعض الأفراد من أدعياء النضال الذين لا وزن لهم ولا قيمة، ويريدون فرض وجهات نظرهم على الثوار في الساحات دون أدنى شعور بجسامة المسؤولية وخطورة اللحظة التاريخية) منير الماوري مثالاً كرد فعل متشنج. الأخطاء حدثت، والمنسحبون ليس كلهم من الجنوب، وهي أخطاء إنما عمّقت الشعور بالاقصاء فعلاً، ولا أقول استهبالاً لعقولنا، مع انه كذلك، خصوصاً النعرة الإستعلائية بتحقير الآخرين ووصفهم ب"أدعياء النضال الذين لا وزن لهم ولا قيمة....الخ"، أو على شاكلة الابتزاز السياسي الذي راح يسوقه أخرون؛ فكل هذا يزيد من تعقيد ما هو قائم من مشاكل فوق ما هي معقدة أصلاً. حسناً.. ما الفرق بين هذا السلوك، السالف ذكره، وسلوك صالح: "اللي مش عاجبه يشرب من البحر"...؟! من حق غيري أن يعبر عما يراه أصوب كيفما شاء أو رغب شريطة أن يحترم حق الآخر بالقدر ذاته. شخصياً أنا مع المنطق الذي يؤمن بأن القيادات السابقة التي جربناها في الجنوب لا يمكن ان نعيد انتاجها من جديد. لا بد من التركيز والعمل على اتاحة الفرصة للوجوه الجديدة وفق معايير الكفاءة والخبرة والقدرة.. الخ، كشرط لازم للتغيير.. وهو ما يفترض أن يتم في الشمال أيضاً، وليس إعادة إنتاج نفس الوجوه.. وإلاّ لماذا قامت الثورة أصلاً؟ تالياً اتفق معك، وهذا لا يعني ان غيري سيفعل ذلك، في أنه فعلاً أن (خطورة ما ينال دالة الوحدة راهناً هو تآكلها على المستوى الاجتماعي، وأيضاً الجغرافي، وهذا أمر يخص الأجيال الجديدة)؛ لكنني اختلف معك في ما تلاه، بقولك: (مرة أخرى: تصبح مقولة القضية الجنوبية غير ذات موضوع، لأنها تلخيص للمشكلة السياسية. والمشكلة السياسية، المكثفة في هذه المقولة، تنتمي إلى صراع نظامين سياسيين لم يعودا في الوقت الراهن واقعيين فاعلين على الأرض، ولا في المستقبل)؛ إذ يحق لي أن أطرح السؤال التالي هنا على نحو تلقائي: ما معنى أن تصبح مقولة القضية الجنوبية غير ذات موضوع؟.. هل ينتفي الحديث عنها كقضية مثلاً لأنها تلخيص للمشكلة السياسية وبالتالي ليس هناك من داع لحلها؟ ان قضية المجلس الوطني مثالاً تجاهلت القضية الجنوبية مع أن رئيس المجلس الوطني كان عبّر قبل أكثر من عام على ضرورة حل القضية الجنوبية عبر الفيدرالية وبوضوح تام، وغيره كثيرون نادوا بفعل ذلك أيضاً وبوضوح تام، وهي قضية تقف مجدداً في وجه الجميع للأسف [بدون حل]، وعدم حلها يجعلنا نفقد الشعور بالثقة - في عقولنا قبل قلوبنا- بحيث بتنا على يقين بأن الأمور التي من المفترض أنها ستعود إلى مسارها الصحيح ليس غير مجرد سراب يسبح في الفراغ. ان هدف أي ثورة هو التغيير نحو الأفضل؛ ببساطة شديدة. ولذلك في ما يخص هدف الثورة الراهنة فأنا اتفق معك أيضاً؛ ولكن لكي تنجح الثورة سيتعين على الجميع توحيد الصفوف في مواجهة الهدف الكبير؛ وللوصول إلى ذلك سيتوجب اتباع الحوار بشفافية مطلقة مع جميع الأطراف وفق أسس ومعايير واضحة: لا لبس فيها ولا غموض. حتى أكون دقيقاً: علينا أن لا نتعامل بالعقلية الإقصائية ذاتها التي كان يمارسها النظام؛ يختار أناساً بذاتهم لشغل مناصب أو مواقع معينة دون الاستناد إلى معايير وأسس واضحة. لنترك التوصيف الشمالي والجنوبي جانباً الآن. لننساه وحسب للحظات. عوضاً عن ذلك لنتحدث بمنطق عقلاني بحت. مثلاً، ليس غير: لماذا يتم اختيار عشرين رجلاً من آل الكاف لشغل عضوية المجلس الوطني دوناً عن غيرهم؟ إذا كانوا يمتلكون ما يؤهلهم لذلك وفق الأسس والمعايير الواضحة المتفق عليها؛ فالواقع يقول انه لن يعترض أحد عاقل على ذلك.. سيعترض فقط الذين يطالبون بالمحاصصة لمجرد المحاصصة لذاتها. هل يعرف أحدكم الآن كيف تم اختيار أعضاء المجلس الوطني؟ ومن هم الذين قاموا بذلك وكيف...؟!. من حقنا أن نفهم أليس كذلك؟ هل معرفة ذلك سر من أسرار الدولة المدنية الحديثة التي ننشدها والتي تقوم على العدل والحق والمواطنة المت ساوية...؟! إنه السؤال الذي يقودنا إلى التالي: ما الذي كان يمنع وضع القضية الجنوبية كمدخل للقضية الوطنية عند تكوين المجلس الوطني الذي سيتعين عليه تالياً التحدث باسم كل اليمنيين؛ وقد فعل بعضهم ذلك فعلاً وبشكل نافر..! رجاء من فضلكم: لا تقولوا لي الكلام التسطيحي البليد المتعارف عليه "معليش في سبيل الوطن خلونا نمشي"..! أليس مثل هكذا أمر إنما يعمّق الشعور الجمعي لدى الجنوبيين بعدم وجود سلوك قويم يصحح ما حدث في السابق؟؛ ألم تقل يا مروان أن (القضية الجنوبية جزءٌ أصيل من القضية الوطنية، والقضية الوطنية هي قضية الوحدة في أوضح تجلياتها).....؟! ألم تقل الأخت حورية مشهور الناطق باسم المجلس الوطني رداً على تساؤلي لها في الفيس بوك أن: (القضية الجنوبية يا سامي حاضرة وبقوة في أجندة المجلس ولا نريد أن نحمل الثورة أخطاء النظام). ومع ذلك؛ للأسف، لم تشر الأخت حورية مشهور كيف سيتم ذلك بالضبط..؟! كنتُ وما زلتُ أتمنى من الجميع التحدث بمنطق عقلاني؛ ومعالجة الأخطاء التي حدثت؛ بدلاً من العمل على مفاقمتها على نحو يعزز ما هو موجود على الأرض فأعلام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تنتشر في الشوارع والأزقة في كل محافظات الجنوب وبشكل لافت للأنظار، وانتشارها لا أظنه مجرد مزاح، أو لعب عيال...! لسائل أن يسأل: ما هو المنطق العقلاني كحل بالنسبة إلى القضية الجنوبية كجزء من القضية الوطنية؟ حسناً.. هناك من يرى إمكانية استمرار الجمهورية اليمنية وفق نظام فيدرالي بين جنوب وشمال، وهناك من يرى خلاف ذلك والعودة إلى ما قبل 1990م. وثمة من يرى غير ذلك تماماً وفق خيارات أخرى تماماً. لكل هؤلاء الحق في اختيار ما يرونه مناسباً. غير أن الفصل في هذا الاختيار سيكون على شعب الجنوب اتخاذه؛ بمعنى أخر سيتعين على شعب الجنوب تقرير مصيره وذلك لن يتأتى إلا من خلال استفتاء بعد أن يكون النظام سقط. لا تقولوا العكس صحيح أيضاً، إذ لم نشهد قيام أحد من الشماليين ليطالب بفك الارتباط والعودة إلى ما قبل العام 1990م؛ مع أن هذا أمر في الواقع من حقه تماماً. الطريف في إطار الكوميديا السوداء أن كثيراً من الشماليين ما برح بعناد غريب غير مفهوم يتساءل وعلى نحو مستفز: ما هي القضية الجنوبية؟ ومن ثم يذهب هؤلاء بإصرار أغرب إلى تعميق الشعور الجمعي للجنوبيين بعدم الثقة بالشماليين الذين يفهمون الوحدة كمعنى مرابط أو مرادف للدم، على سبيل المثال: الوحدة أو الموت، أو الوحدة هي الشجرة التي سنرويها بالدم، أو سنحتاج حرب أخرى لتأديب الإنفصاليين..!، أو كما كتب أحد الشماليين تحت عنوان "الغبار الأسود": (الحل الممكن لبقاء الوحدة.. أن ينزل الرشد فجأة على الأطراف الوحدوية المؤثرة في صنعاء وباقي أرجاء اليمن، بحيث يتم حشد كافة القدرات السياسية والاجتماعية والمالية والأمنية والعلمائية والدبلوماسية والقضائية والإعلامية والتربوية، ضمن أداء متناغم الإيقاع شديد الهبوب، بحيث يأتي تظافر مثل هذه الجهود كعاصفة هائلة تطفئ وإلى الأبد فتيل الانفصال... ولا بد أن يحدث القتل في اليمن، ونضحي بثلاثمائة ألف انفصالي مقابل أن يعيش 27 مليون نسمة حياة كريمة لا يهددها الأوغاد)....! أجدني في الأخير اتفق معك يا مروان في أن الوحدة عملاً سياسياً بين نظامين طائشين لم يعملا وفق أسس واضحة - بالنسبة لي تمت الوحدة وفق لحظة مزاج سليماني في نفق جولدمور بالتواهي وكان ما كان- ومع ذلك؛ كانت الوحدة فعلاً اجتماعيّاً شديد الروعة. ما زلتُ أتذكر كيف قضيتُ نحو نصف عمري وأنا أردد كل يوم في الطابور من حياتي الدراسية في مرحلتي الابتدائية والثانوية وحتى أثناء خدمتي العسكرية: "لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية"..!، لكن الجميع - بعد كل هذه السنوات- على يقين الآن بأن أمر هذه الوحدة مختلف تماماً...! الغريب حد الدهشة أن من ينظر إلى عنوان مقال مروان سيتضح له أن قسمة الوحدة على معروفين ممكن؛ طالما الكاتب عنّون مقاله بالتالي: "ضد قسمة الوحدة على مجهولين".....!