سيبذل الرئيس صالح جهد الطاقة القصوى لاستثمار عملية اغتيال المواطن اليمني أنور العولقي. ومثله سيفعل رئيس آخر هو الرئيس أوباما، مع فارق طبيعة الوضع السياسي بينهما وواحدية الحاجة لدى كل منهما للدم والاغتيال كي يحافظ على كرسيه. وقد بدأ الاستثمار بالفعل، وإن كان الرئيس الأمريكي انتظر أولاً الإعلان عن مقتل العولقي كي يتحدث بعده عن «الانتصار الكبير» لإدارته، فإن صالح استبق الاغتيال بمقابلتين صحفيتين نشرتا في نفس اليوم الذي كانت فيه طائرة الاستخبارات الأمريكية تتربص بطريدتها اليمنية لتتركها جسدا محروقا في مكان ما بين مأرب والجوف. وبين أخطر ما قاله صالح لمجلة «التايم» و«الواشنطن بوست» الأمريكيتين يوم الجمعة هذه الجملة بالنص: «أريد أن أخاطب الرأي العام الأمريكي بطرح السؤال عبر صحيفتكم، هل انتم لازلتم على عهدكم في مواصلة عملية الحرب ضد طالبان وضد تنظيم القاعدة؟ إذا كانت واشنطن لازالت مع الأسرة الدولية على موقفها في مطاردة طالبان وتنظيم القاعدة الذين أقلقوا السلم الدولي فهذا شيء جيد، وما نراه هو أننا نقع تحت ضغط الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي للتسريع بتسليم السلطة ونحن نعرف إلى أين ستسير، السلطة هي لتنظيم القاعدة». صالح يسهل عملية اختراق السيادة الوطنية ويتيح إعدام مجموعة من مواطنيه، خارج القضاء، ثم يخاطب الرأي العام الأمريكي: «أليس هذا ثمناً مقبولاً لتدعموا بقائي في السلطة».. أو أن هذا هو التفسير الحرفي لما يقوله. وهكذا الحال مع باراك أوباما، الحائز على جائرة نوبل للسلام؛ فعلى جثتي بن لادن والعولقي ورفاقهما يبدو طريقه معبداً إلى ولاية رئاسية ثانية.
لكن هذه ليست مشكلتنا، المشكلة هي النجاح اللافت للقوى السياسية اليمنية، خارج الحكم، في إتاحة كل هذه المساحة لنظام صالح كي يعبث، ثم لكي يفر بعبثه من الرأي العام الداخلي إلى رأي عام أجنبي ليستمد منه شرعية بقائه في السلطة. لم تبنٍ المعارضة في اليمن رؤية وخطاباً معقولين ومتماسكين تجاه قضية «الإرهاب» و«القاعدة»، مع أنها القضية التي تشكل نقطة الارتكاز في كل السياسات والمشاريع، الإقليمية والدولية، التي تتحكم الآن بوجهة هذه البلاد وبكل خطوط السكة التي تمضي بها نحو المستقبل. خلال الأشهر الأخيرة، ومع اندلاع معارك أبين، كررت وسائل إعلام المعارضة وخطابات بعض قياداتها نفس الموقف الذي يثير حساسية مفرطة لدى القوى الدولية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، وهو الموقف الذي يعتبر أن «القاعدة» مجرد مؤامرة من مؤامرات النظام أو أمريكا، وهذا طبقاً لأكثر من برهان يضاعف من حجم شكوك الدوليين في قدرة هذه المعارضة على استيعاب مشكلة الإرهاب وضرورة الشراكة الدولية لمواجهته، وبالتالي يفضل الجميع دعم بقاء صالح رغم كل سوئه. حسنا، حتى لو سلمنا لغرض جدالي، بأن «القاعدة» في اليمن مؤامرة، فإن ذلك لا يلغي أنها «مؤامرة» باتت في مستوى واحد مع «الحقيقة»، أي أن العالم كله يتعامل مع تنظيم قاعدة جزيرة العرب باعتباره حقيقة موجودة على الأرض، وإن كان العالم مجنونا في ذلك فلا يسعك كطرف سياسي معني بالأمر، إلا أن تجاري العالم في جنونه، أو أن شذوذك في الموقف سيجعل منك أنت المجنون. هكذا يصبح «التقليل» الذي تعتمده المعارضة من حجم مشكلة الإرهاب في اليمن سلاحاً ضدها، وورقة ذهبية بيد صالح.
إن من المحير لأبعد حد، أن حزب الإصلاح لا يزال حتى اللحظة قابلاً بأن يؤدي دور «الحمار القصير» الذي يقرر صالح أن يرمي عليه حمولة الإرهاب وأسبابه متى شاء، وآخر الشواهد هي مقابلة صالح آنفة الذكر والتي كرر فيها رمي «الإخوان المسلمين» بعاهة المسئولية عن الإرهاب والقاعدة. طبقاً لشهادة المعهد الديمقراطي الأمريكي، فإن استخدام صالح لورقة الإرهاب ضد خصومه عام 2006 قد أثر بشكل حاسم ضمن عوامل أخرى في نتيجة الانتخابات الرئاسية آنذاك. كلنا يتذكر ما حدث عشية تلك الانتخابات: مقتل أشخاص قيل إنهم كانوا يخططون لتفجير منشأة نفطية في مأرب، واعتقال خلية ادعت السلطة أنها من القاعدة ويقودها المرافق الشخصي لبن شملان. كانت ادعاءات النظام، لو كان يواجه خصوماً محترفين في عالم السياسة، كافية بأن تجعل من الحزب الإسلامي، الذي قاد عملية المنافسة الأكبر على كرسي الرئاسة حينها، أن يخرج من التجربة باستعداد أكبر للتعامل مع حقائق الإرهاب ومع تضليلات الأجهزة الرسمية بشأنه بنفس القدر، وبحيث تأتي مرحلة فاصلة كالمرحلة الثورية التي نعيشها وليس بوسع صالح أو أي من أجهزته المزايدة على أي طرف من معارضيه باسم مكافحة الإرهاب، أو اتخاذ الورقة «الإسلامية» مطية لاستقطاب دعم العالم لكرسيه. ليس مهماً هنا تقديم أمثلة على ما كان ينبغي على الإصلاحيين فعله في هذا السياق، ولكن كإشارة سريعة فقط، لماذا لم نشهد تأصيلاً جديداً وجريئاً لأفكار من نوع «الجهاد» و«العلاقة مع الغرب»، أو تفكيكاً لمقولات دينية تستند إليها جماعات الإرهاب في اليمن ك«طرد المشركين من جزيرة العرب» و«جيش عدنأبين» الذي يمهد ل«المهدي» آخر الزمان، وغيرها من المقولات؟، ألن يؤدي هذا أولاً: إلى قطع كل إصبع تشير بالتهمة إلى تيار الإصلاح (مثلما حد المؤتمر العام الرابع للحزب بمنحه دائرة للمرأة في أمانته العامة من الانتقادات التقليدية له بشأن تعامله مع المرأة) ويؤدي ثانياً: إلى إطلاق وعي مجتمعي جديد قد يسهم جذريا في محاصرة التطرف في عموم البلاد؟. الشيخ عبد المجيد الزنداني، ولطالما استخدمت عصا الإرهاب ضده، لم يباغتنا مرة بموقف واضح، صريح، ومحدد ضد القاعدة (كأنما يخشى خسارة جماهيره أو أن يتلقى ضربة تكفير من الظواهري)، وعلى العكس ينبري أحياناً، بدعم من سوء التقدير، لإطلاق مواقف تتفاقم معها المخاوف الدولية ناحيته، كتصريحاته العام الماضي بشأن الاستعداد لإعلان الجهاد بوجه العمليات العسكرية الأمريكية ضد القاعدة في اليمن معتبراً إياها «غزوا» (نتفق معه، أن أي تدخل أجنبي يستحق المعارضة الشديدة.. ولكن بما لا يعطي غطاء أخلاقيا للمتورطين من القاعدة في أعمال العنف، ولا بطريقة يبدو المرء معها مدانا). إن «سد الذرائع»، لو استخدمنا لغة الفقهاء هنا، هو أحد مناطق العجز لدى كل خصوم صالح الذين يرميهم الآن مع الإرهاب في عربة واحدة، إنه أيضا الدعامة الأخيرة التي يستند إليه الكرسي المتهاوي للرئيس صالح. وإلى «ابتزاز» الرئيس للغرب والإسلاميين معاً بهذه الورقة، ينشأ هذا الصمت الغريب حيال جرائم كجريمة قتل إنسان خارج القضاء، ففي الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها أدان قطاع واسع من المنظمات المدنية والسياسية عملية اغتيال العولقي باعتبارها «جريمة» بما أنها استهدفت متهماً، مهما قيل في حقه أو مهما صدر عنه من خطابات، إلا أنه يظل غير مدان ما لم يعرض على القضاء أولاً. وفي اليمن الكل، وفي المقدمة أكبر أحزاب المعارضة، يبدو غير معني بإدانة ما حدث أو تعريته، على الأقل إعلامياً، كفعل يتناقض مع الدستور والقانون ومختلف الشرائع، وسبب هذا الصمت هو أولاً الرضوخ للابتزاز الرسمي والاستسلام لعقدة «اللي على راسه بطحة» مع أن أحدا غير قادر على إثبات أي علاقة جدية بين الإصلاح والإرهاب إلا على جناح التأويل للخطاب والأفكار (وهي أيضا أفكار أكثر من طرف ديني) والسبب الثاني هو الافتقار للمنطق: فكل هذه الأحزاب لم تصدر أي موقف ضد أنشطة وخطاب أنور العولقي طيلة بقائه حياً في اليمن يُصدر الفتاوى والتوجيهات المفخخة إلى أقصى زوايا المعمورة، ومن لا يقول كلمة عادلة هنا لا يستطيع أن يقولها هناك. أهملت المعارضة، بشكل يثير الأعصاب، ظاهرة أنور العولقي ومجمل تفاصيل ملف الإرهاب، استنادا إلى كون كل شيء «لعبة من الرئيس»، دون أن تدرك يوما أن العولقي وزملائه قد يكونون «الباب الخلفي» أمام صالح للعودة إلى كرسيه كلما بدأ مواطنوه في زحزحته عنه.