صالح يريد أن يحارب، مسلمة باتت تحظى بإجماع لدى كثير من متابعي تطورات المشهد الداخلي. فمنذ عودة صالح لم تجد لعلعة الرصاص طريقها نحو السكون بتاتاً، لدرجة أنها- بمعية أصوات القذائف وانفجارات المدافع- أضحت جزءاً أساسياً من البرنامج اليومي لحياة قاطني العاصمة صنعاء، وتحديداً أولئك الماكثين منهم في أحياء الحصبة وهائل والدائري والزراعة والزبيري وسواد حنش. إلى ما قبل أسابيع خلت، كان مصطلح «بروفة الحرب» أكثر النعوت قدرة على توصيف المشهد الليلي في صنعاء، غير أن فرضية التكرار اليومي جعلت منه مصطلحاً قاصراً وغير معبر عن حقيقة ما يجري على الأرض. ثمة حرب مندلعة تتخذ أنماطاً من الظهور المتقطع في أكثر من نصف أحياء العاصمة صنعاء، وهي حرب سرعان ما اتسعت دائرة عملياتها عقب العودة المشؤومة لصالح. رغم أن ما جرى منذ تلك العودة يعد حرباً حقيقية، إلا أنها -في الوقت عينه- ليست حرباً شاملة بالمفهوم الاستراتيجي والعسكري. إنها في الواقع حرب محدودة من طرف واحد، تحاول فيها العائلة الحاكمة، ومن تبقى لديها من أصنام النظام البائد، إضعاف الثورة السلمية وإلحاق خسائر بشرية ومادية ومعنوية في صفوف أنصارها من الجناحين العسكري والقبلي. في قواميس الحرب، لا وجود لاصطلاح يمكنه التعبير بدقة عن حقيقة ما جرى سوى مصطلح «حرب الاستنزاف».
دروس حرب الحصبة في الواقع، يصعب القول إن استراتيجية العدوان التي عمد النظام العائلي إلى تطبيقها منذ وقت مبكر بنيت على أساس فكرة استنزاف الثورة وإضعافها. فعقب رفض صالح التوقيع على المبادرة الخليجية في نسختها الأخيرة بذريعة عدم حضور قيادة المشترك الى القصر الرئاسي، حاول النظام أن يشعل حرباً مفتوحة في منطقة الحصبة بهدف كسر الجناح القبلي المؤيد لثورة الشباب السلمية. حينذاك، كان العزم الصالحي على تحطيم الجناح القبلي واضحاً وجلياً، لدرجة يصعب معها القول إن ما حدث في الحصبة لم يكن سوى حرب استنزاف. لقد كانت حرباً حقيقية مفتوحة على كل الاحتمالات، ولم تكن حرباً استنزافية محدودة العمليات والغايات. يومها حاول النظام تحييد الجيش المؤيد للثورة والاستفراد بالجناح القبلي، غير أن النتائج المفاجئة ليوميات الحرب المفتوحة في الحصبة جعلته يحيد عن تكتيك «الاستفراد»، مضيفاً بذلك الجيش المؤيد للثورة الى قائمة الاعتداءات اليومية المتكررة. بدا واضحاً حينها أن النظام العائلي يتجه بخطى منتظمة لفرض واقع الحرب الشاملة على نحو تدريجي متصاعد، غير أنه أخذ يدرك بالتقادم فداحة خيار كهذا، فالجناح القبلي المؤيد للثورة استطاع ان يحقق انتصارات مفاجئة باسطاً سيطرته على وزارة الداخلية ومعسكر النجدة ومعظم المؤسسات الحكومية الواقعة في النطاق الجغرافي لمسرح العمليات بالحصبة.
خشية العائلة من فقدان السيطرة يمكن القول ان إنكسار قوات العائلة في منطقة الحصبة، بموازاة دحر تلك القوات في مداخل ساحة التغيير، عاملان أسهما في إحداث تعديلات جوهرية على استراتيجية العدوان التي اعتمدها النظام العائلي. لقد أدرك النظام ان فكرة «الحرب المفتوحة» لا يمكن ان تحقق غاياته مطلقاً، بل إنها قد تتسبب في تعجيل انهياره وسقوطه. التعليلات هنا لا تقتصر على دروس حرب الحصبة فحسب، إذ ثمة بواعث ومحفزات أخرى للقلق تجلت بوضوح. كانت العائلة تخشى من التداعيات المترتبة على احتمالات فقدانها للسيطرة، ففي الحروب المفتوحة تتضاءل مقومات السيطرة على الأوضاع والأحداث الى حدها الأدنى بالتوازي مع تضاعف قابلية الاحتمالات الصعبة للتحقق والتحول الى ممكنات ووقائع ماثلة. احتمالات صعبة كانشقاق الحرس الجمهوري مثلاً، او انهيار منظومة الأمن والاستخبارات، او فصم العرى الولائية بين العائلة وقوات الجيش، كان يمكن ان تتحول الى ممكنات في ظل انخفاض مقومات السيطرة القسرية التي تفرضها أجهزة العائلة على الحرس والأمن وبعض قوات الجيش التقليدي.
صالح يستأنف ترتيبات الأولاد الحرب الاستنزافية، إذن، جسّدت خياراً مثالياً لاستراتيجية العدوان العائلية الجديدة. ورغم ان لجنة الوساطة (قبل عودة صالح) بمتابعة من عبد ربه منصور هادي، تمكنت من إيقاف إطلاق النار وفض الاشتباك في الحصبة، إلا ان قوات العائلة سرعان ما استأنفت عدوانها وعملياتها القتالية على نحو متقطع سواءً على قوات الجيش المؤيد للثورة او على الجناح القبلي المتمثل في أنصار ومسلحي الشيخ صادق الأحمر. قبل العودة المشؤومة بيومين، تكثفت اعتداءات القوات العائلية وبالأخص على شباب الثورة المعتصمين، ثم انخفضت مؤقتاً، لتستأنف أنشطتها عقب الخطاب الصالحي التالي لفعل العودة. عاد صالح لإدارة الحرب إذن، لكنه لا يريدها ان تكون حرباً شاملة سوى عقب التأكد من عوامل ومعطيات شتى. وبما ان صالح سبق له القيام بخطوات عديدة لتهيئة البلاد لخيار الحرب الشاملة، فلم يتبق سوى استكمال تلك الخطوات واستئناف ما قام به الأولاد في هذا الجانب وصولاً الى تخليق ضمانات او بالأحرى أوهام النصر. إضعاف الثورة، إنهاك الجيش المؤيد لها، استنزاف جناحها القبلي، ثلاثة مانشيتات تجسد –بالنسبة لصالح- ضمانات النصر الزائف، ولأن تلك الضمانات تبدو شرطاً أساسياً لإقدام صالح على الحرب الشاملة، فإن تحقيقها عملياً لا يمكن ان يتم سوى عبر وسيلة واحدة ألا وهي «حرب الاستنزاف». من هنا، لم يدخر النظام جهداً في تكريس واقع الحرب الاستنزافية عملياً عبر برنامج شبه يومي يتوزع ما بين قصف معسكر الفرقة الأولى مدرع والاعتداء على مقر قيادتها، بالإضافة الى الاعتداء بالقذائف والرصاص على مداخل ساحة التغيير ونشر قناصة وحدة المهام الخاصة التابعة للحرس الجمهوري في عدد من البنايات المطلة على الساحة، علاوةً على تنفيذ أعمال قصف بالأسلحة الخفيفة والثقيلة على المسلحين القبليين الموالين للشيخ صادق الأحمر.
ماهية حرب الاستنزاف يبدو من المهم، قبل الخوض في تبيين النتائج المترتبة على حرب الاستنزاف، الوقوف عند هذا المصطلح العسكري من حيث التعريف والماهية. حرب الاستنزاف بالنسبة لخبراء الشؤون العسكرية هي عبارة عن عمليات وإجراءات عسكرية محدودة يتم تنفيذها بهدف إضعاف الطرف المستهدف وإلحاق خسائر بشرية وعسكرية ومادية في صفوفه ووضعه على حافة الانهيار تمهيداً لهزيمته. ويعتقد بعض خبراء الشأن العسكري إن الجهة المنتصرة في حرب كهذه عادةً ما تكون هي التي تمتلك العدد الأكبر من المصادر والاحتياطيات على صعيدي الأفراد والمعدات والتجهيزات العسكرية والحربية. ويتم اللجوء الى حروب الاستنزاف عادةً عندما يتضح لأحد أطراف النزاع أن الطرق الأخرى –كالحسم العسكري مثلاً- غير ممكنه عملياً او انها قد تؤدي الى الهزيمة. وتجسد حرب الاستنزاف وفق بعض الآراء بروفات عملية للحرب الشاملة، كما انها تتسبب في إبقاء الطرف المستهدف في حالة عدم استقرار بصورة تفقده القدرة على مواصلة الحرب او بناء نفسه، ويرى بعض الخبراء كالفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري الأسبق، ان حرب الاستنزاف –بالنسبة للجيش المهزوم- تشكل دافعاً لرفع المعنويات وإزالة آثار الهزيمة!
إثناء الثوار عن المضي في التصعيد بالتأسيس على الماهية والتعريف، يمكن تفريع الغايات الصالحية المراد تحقيقها من يوميات حرب الاستنزاف، الى ثلاثة مانشيتات رئيسية، أولها: غايات بالنسبة لشباب الثورة المرابطين في ساحة التغيير، ثانيها: غايات بالنسبة للجيش المؤيد للثورة، ثالثها: غايات بالنسبة للجناح القبلي المساند. في المانشيت الأول، يحاول صالح بحربه الاستنزافية ان يعزل ساحة التغيير عن محيطها الاجتماعي والحد من قدراتها التأثيرية في هذا المحيط وتحجيم تفاعلها اليومي معه. يتغيّا صالح ايضاً التأثير على الأنشطة والفعاليات الثورية وإثناء الثوار عن المضي قدماً في برنامج التصعيد السلمي المتمثل في المسيرات والمظاهرات المليونية، بالإضافة الى تكريس فكرة الحرب في الوعي الجمعي لدى شباب الثورة ورفع وتائر القلق لديهم ولدى المواطنين عموماً. ويسعى النظام الصالحي كذلك الى التأثير في قناعات المؤيدين للثورة والمناصرين لها تحقيقاً لأحد أمرين: فإما استمالة هؤلاء المؤيدين، وإما تحييدهم وإبعادهم عن تفاعلات المشهد الثوري. كما يحاول ايضاً التأثير في الأداء السياسي المتميز للمجلس الوطني والمشترك، ودفعهما لاتخاذ قرارات غير مدروسة. إنهاك الجناحين العسكري والقبلي في المانشيت الثاني المتعلق بالجيش المؤيد للثورة، يتطلع النظام الصالحي من حربه الاستنزافية الى تحقيق غايات عديدة يمكن حصرها على النحو الآتي: اولاً: إنهاك الجيش المؤيد للثورة وإعاقة ترتيباته واستعداداته الوقائية والحيلولة دون استكمال بناء استراتيجيته الدفاعية. ثانياً: إشغال الجيش المؤيد للثورة في تأمين قياداته، وتقليص أدواره في المسار الثوري. ثالثاً: إعاقة برامج التدريب التي كانت الفرقة قد استهلت تنفيذها منذ أشهر. رابعاً: منع الجيش المؤيد للثورة من المضي قدماً في برنامج تعزيز العلاقات مع الأصدقاء عبر إيقاف اللقاءات التي كان يجريها الجنرال محسن في مكتبه مع سفراء الدول الغربية بصنعاء. خامساً: شلّ قدرة الفرقة على التخطيط ومحاولة استدراجها إلى منزلقات التفكير الانفعالي بهدف دفعها الى اتخاذ قرارات متسرعة وغير مدروسة. سادساً: تحجيم قدرة الفرقة على التأثير في الوحدات العسكرية التي لازالت مؤيدة للنظام. سابعاً: استنزاف المخزون الاستراتيجي للفرقة من الذخيرة والأسلحة. على صعيد المانشيت الثالث، بوسعنا حصر الغايات الصالحية بالنسبة للجناح القبلي المؤيد للثورة في ستة عناوين رئيسية: أولها: إنهاك مسلحي وأنصار الشيخ الأحمر وإضعاف قدراتهم، ثانيها: منع الجناح القبلي من تعزيز قدراته وقواته، ثالثها: إشغال المسلحين بتأمين حياة القيادات القبلية الموالية للشيخ الأحمر، رابعها: تحجيم دور الجناح القبلي في المسار الثوري عبر الحيلولة دون إقدامة على تنفيذ أي جهود داعمة، خامسها: استنزاف الأسلحة والذخائر والأموال.
التعليق المؤقت لحرب الاستنزاف ثمة توقعات تشير الى ان صالح سيعمد خلال قادم الأيام إلى تعليق عمليات وأنشطة الحرب الاستنزافية، وتحديداً منذ لحظة وصول مبعوث أمين عام الأممالمتحدة جمال بن عمر للإشراف على تنفيذ القرار 2014 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. تعليق حرب الاستنزاف في الواقع لا يعني انتهاءها، إذ من المرجح ان يستأنفها النظام عقب رحيل جمال بن عمر واحتمالات إخفاقه في إقناع صالح بالتنحي وتنفيذ القرار الأممي، بل ان النظام يمكن ان يستأنف الحرب الاستنزافية في وجود بن عمر بصنعاء. على مدى الأسبوعين الآنفين لازمت القوى المناصرة للثورة في الجناحين العسكري والقبلي استراتيجية عدم الرد في التعاطي مع حرب الاستنزاف التي يحاول النظام فرضها عملياً. ورغم ان تلك الاستراتيجية ساهمت في إنتاج معطيات سياسية إيجابية لصالح الثورة، إلا انها يمكن –في حال الاستمرار- ان تساعد على إنجاز الأهداف التي يتغيّا صالح تحقيقها من حربه الاستنزافية. هنا لا يبدو الركون الى استراتيجية «عدم الرد» تكتيكاً كافياً ومثالياً، إذ لابد من تحركات تكفل إثناء الحرب الاستنزافية عن تحقيق غاياتها وأهدافها. وماذا بعد؟ بالقطع لسنا نعني بتلك التحركات الرد على استفزازات النظام وعملياته العدوانية، إذ يمكن الاكتفاء بمنظومة من الإجراءات سواءً على صعيد الشباب في الساحة او على صعيد الجناحين المؤيدين للثورة العسكري والقبلي، أول تلك الإجراءات: استمرار برنامج التصعيد السلمي عبر المسيرات والمظاهرات المليونية. ثانيها: إحباط محاولات النظام الرامية الى حصر الصراع في صنعاء وتعز عبر تكثيف برامج التصعيد السلمية في باقي المحافظات. ثالثها: استئناف جهود التأثير على قيادات الجيش المؤيد للعائلة، واستحداث لجنة تواصل عسكرية من كبار الضباط والمتقاعدين بهدف التأثير على القوات الموالية للعائلة. وبما ان الفرقة الأولى مدرع تعيش حصاراً وعزلاً جراء العمليات شبه اليومية للقوات الصالحية، فيمكن-كإجراء رابع- تكليف قائد المنطقة العسكرية الشرقية الجنرال محمد علي محسن بتشكيل غرفة عمليات والتواصل اليومي والدائم مع قيادات وضباط الحرس الجمهوري، ومحاولة استمالتهم الى صف التأييد السلمي للثورة، ويمكن هنا استخدام اي وسائل لإيصال رسالة الثورة الى الجيش الموالي للعائلة بما في ذلك التفكير بإنشاء إذاعة عسكرية موجهة شريطة ان تبث برامجها من المنطقة العسكرية الشرقية التي يهيمن عليها الجيش المؤيد للثورة هناك بقيادة اللواء الركن محمد علي محسن. خامسها: ممارسة ضغوط مكثفة على لجنة الوساطة المكلفة بفض الاشتباك بين القوات، وذلك بهدف فرملة اندفاع رئاستها الى مربع الانحياز للنظام الصالحي، والتشديد على ضرورة التزامها بتأدية أعمالها بكل حيادية وموضوعية وعدم استثمار تموضعها لتحقيق مآرب وأهداف خاصة. سادسها: مطالبة لجنة الوساطة بالضغط على النظام الصالحي لإيقاف حربه الاستنزافية وبموازاة الكشف عن خروقاته وانتهاكاته المتواصلة لموجبات فض الاشتباك بين القوات الذي تم برعاية هذه اللجنة. سابعها: مطالبة لجنة الوساطة بإدانة الاستحداثات الجديدة في الحصبة من قبل القوات الصالحية المتمثلة بطرد جنود الحماية التابعين للكلية الحربية من بعض المنشآت الحكومية التي تم تسليمها الى اللجنة من قبل مسلحي الشيخ صادق، حيث تشير معلومات متطابقة الى ان قوات الحرس الجمهوري حلت كبديل لجنود الحربية، وهو انتهاك سافر يستوجب موقفاً واضحاً من لجنة الوساطة. أخيراً: لا يبدو ان «صالح» سيتخلى عن نزعته الطافقة نحو الحرب، فحتى وإن تم تعليق عمليات حرب الاستنزاف بالتزامن مع وصول جمال بن عمر وعبداللطيف الزياني خلال قادم الأيام، إلا انه سيظل تعليقاً مؤقتاً. وبما ان مؤشرات عدم الرضوخ الصالحي لقرار مجلس الأمن الدولي آخذة في التكثف والتجلي، فلا مناص –كإجراء سابع وأخير- من اتخاذ التدابير والاحتياطات الكفيلة بمواجهة عمليات حرب الاستنزاف عبر تشجيع الجناح القبلي للقيام بتحركات سلمية تكفل إقحام الأذرع العسكرية الموالية للنظام خارج العاصمة صنعاء في متاهة استنزاف مماثلة.. وكفى.