طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    4 إنذارات حمراء في السعودية بسبب الطقس وإعلان للأرصاد والدفاع المدني    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    الرقابة الحزبية العليا تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    الاحتلال يواصل توغله برفح وجباليا والمقاومة تكبده خسائر فادحة    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    صعقة كهربائية تنهي حياة عامل وسط اليمن.. ووساطات تفضي للتنازل عن قضيته    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    انهيار جنوني للريال اليمني وارتفاع خيالي لأسعار الدولار والريال السعودي وعمولة الحوالات من عدن إلى صنعاء    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجمهورية تترنح
نشر في المصدر يوم 09 - 10 - 2009

ظهيرة الأحد، كنت في طريقي إلى مكتب الصحيفة، عندما سمعت سائق الباص يتحدث بسخرية مريرة عن عبثية حرب صعدة. في الواقع كان الرجل المكدود يثرثر متحمساً، ولا يبدو أنه كان مبالياً ما إن كان ثمة من يصغي لما يقول. كان محتدماً، قلقاً، غارقاً في الحيرة والشك، أكثر منه رجل سياسة ينفق وقته بالتفكير في كيف ينتهز الفرص لإثبات شيء ما.
قال إن شقيقه، الذي كان يقطن مدينة صعدة، لقي مصرعه قبل سنة في خضم الحرب. وإن زوجته وأطفاله ال8، فضلوا مواصلة العيش في صعدة. كان يسترسل في الكلام دون أن يجشم نفسه عناء الالتفات ليعرف الانطباع الذي يولده هذا المونولوج الحزين. شرح كيف أن أخبار عائلة شقيقه انقطعت تماماً منذ شهرين، وكيف أنه لم يجرؤ على المجازفة بحياته لتفقد أحوالهم.
لم أكن أذناً صاغية. ورغم أن صوته كان يقحم نفسه في سمعي بلا هوادة، فإن ذهني ظل شارداً ونظراتي مبعثرة. قبل أن نصل تلفظ الرجل بعبارة عادية، لكنها تركتني مشدوهاً. لقد قال إنه لم يجد طريقة لإبلاغ عائلة شقيقه بأن عليهم الانتظار هل ستصبح صعدة بعد انتهاء الحرب "ملكية" أم "جمهورية"، ليقرروا مصيرهم. فإن هي صارت "ملكية" ينتقلوا إلى صنعاء، وإن استمرت "جمهورية"، فلا ضير من البقاء هناك.
تملكني الأسى والرعب. أغلقت عيناي, وهمست لنفسي: يا إله السماوات، هل انضمت "الجمهورية"، بالفعل، إلى جانب "الوحدة"! لتغدو موضع جدل وتهديد هي الأخرى. كلمات مثل "الملكية" "الإمامية" "الكهنوت" لطالما لاكتها ألسن نخبة الحكم ووسائلها الإعلامية، لكنها لا تنجح في إثارة خوفنا من إمكانية عودة حقب سياسية مضى على اندثار آخر فصولها نصف قرن. وكنا نتلقى المبالغة في هجائها والتحذير من تكرارها بطريقة تشبه تلقينا لهذيان شخص ينذر بزحف المغول أو جيوش الاسكندر الكبير أو أبرهة الحبشي. نوع من حقب تاريخية ونماذج حكم وصراعات يتعذر تكرارها إن لم يكن مستحيل.
وحده سائق الباص جعلني أتخيل كم إن ذلك ممكناً وفظيعاً، لا سيما في بلد يسكن التاريخ في مسامات جلده. كنت مضطرباً حينها. على أن الطريقة التي وضع بها السائق كلمة "الجمهورية" في مقابل "الملكية" كانت تتسم بالدراما وقلة الحيلة. كدرني المشهد حقاً. وأتذكر أنني تخيلت الإمام يحيى بجنبيته المائلة إلى خصره الأيمن، ولحية الشاب الذي كان، الشبيهة ربما بلحية عبدالملك الحوثي، يأخذ البيعة في أحد كهوف "قفلة عذر"، بينما كان شيخ حاشد ناصر مبخوت الأحمر، يجلس على عتبة الكهف مقرفصاً ومتكئاً إلى بندقيته "الجرمل" على الأرجح، وربما عصاه، آخذاً على عاتقه توفير أجواء انتخابية آمنة.
كان الشيخ المحارب بمثابة وزير دفاع، أو لنقل رئيس هيئة الأركان. ولا بد أنه شكل ضغطاً عسكرياً كان من شأنه ترجيح موازين الإمام يحيى. وتقول الروايات إن الرجل، لوح بعصاه، حينما توصلت الهيئة الناخبة إلى ملاءمة يحيى لكافة شروط الإمامة عدا شرط واحد، قائلا: هذا هو الشرط الناقص، في إيماءة ذكية إلى شرط "القوة". تذكرت ناصر مبخوت، وحضرتني أسماء كثيرة مثل بدر الدين الحوثي، وعبدالملك، ورجال مقرفصون على أعتاب الكهوف على غرار صالح هبرة وعبدالله عيضة الرزامي.
وفي كل مرة أعيد التفكير في كيف أن أعتى الصراعات التي تعصف باليمن الآن، هي تكرار، أو امتداد، هزلي تافه وبغيض لمآسي والتباسات وحروب الماضي. إذاً، وضبوا أمتعتكم، فالنزاع في صعدة ينقلنا في قطار جماعي إلى مناخ الستينات ومطلع السبعينات، حيث كان القتال بين المعسكر الجمهوري والمعسكر الملكي يجتذب أنظار العالم. في حين تتفاوت الوجهة التاريخية التي يحشد بعض رموز الحراك الجنوبي جماهيرهم ليرتحلوا بهم إليها. فثمة من يريد العيش في جمهورية اليمن الديمقراطية، ومنهم من يتعطش لاستعادة الجنوب العربي، ومنهم من يتلهف إلى القرن السابع عشر حيث استطاعت لحج الإفلات من قفطان الأئمة لتنشأ بعدئذ سلسلة طويلة من الممالك والسلطنات المتناهية الصغر.
...
تصدمني مفردة "الانفصال" بالتأكيد، لكنها لا تتركني ذاهلاً كالأبله على غرار ما تفعله مفردة "الملكية". شيء يصعب تصديقه بسهولة. ظننت أن لعبة "ملكي" أم "جمهوري" قد طوت آخر جولاتها بالمصالحة الوطنية في السبعينات، بعد حرب أهلية دامت 8 سنوات. تلك المعارك المدمرة التي انطلقت شرارتها الأولى بانقلاب عسكري على محمد البدر ذات ليلة باردة من ليالي شهر سبتمبر 1962، حيث اتسع الانقلاب ليصبح ثورة عظيمة، يتمتع مدبروها بالعزم لكنهم كانوا يفتقرون إلى النضج والتصور العميق.
قاتل الملكيون بأسنانهم على السلطة. وإذ هبت قوات عبدالناصر لنجدة الثورة، فقد تحولت اليمن الشمالية إلى واحدة من أكثر نقاط التماس سخونة بين القوتين المتعارضتين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، ضمن ما يعرف بالحرب الباردة. خرج البدر من قصره مطروداً، وقيل أنه تخفى في زي نساء. "وفي أحد الشوارع الهادئة للعاصمة تعرفت امرأة على شخصية الإمام وآوته في بيتها واستبدلت ملابسه الفخمة الأنيقة الواضحة بملابس جندي عادي. وفي عتمة الليل البهيم تسلق الإمام ومرافقوه جدران المدينة ميممين شطر الشمال"، والذي ينقل هذا الوصف هو ادجار أوبالانس، مؤلف كتاب "الحرب في اليمن".
كان يجب أن تنتهي الثورة عند هذه النقطة: فرار الملك المخلوع، وتسلم قائد الحرس الملكي عبدالله السلال السلطة في الجمهورية الوليدة. لكن البدر يتحدر من سلالة لم تتعلم التفريط بحق تعتقد أنه "إلهي". أعلن المعسكر الجمهوري مقتل البدر، لكن حكومة المنفى الملكية كذبت من السعودية الخبر. ولم يمض سوى أسبوعين حتى تولى الملك الأردني، بالتنسيق مع السعودية، ترتيب عقد مؤتمر صحفي للبدر في مرتفعات حجة. أرسل الجمهوريون إشارة استغاثة لعبد الناصر، فوصلت أولى قواته بعد بضعة أيام من الثورة. وبوصول الجيش المصري، المدعوم من الاتحاد السوفيتي، وجد الملكيون من يسندهم: السعودية وإيران والأردن، ومن ورائهم الولايات المتحدة وإسرائيل.
لقد أصبحت الثورة في "مهب العاصفة"، على حد وصف محمد حسنين هيكل، الذي يفسر اتساع الحرب في اليمن على هذا النحو: "اتسعت حينما تدخلت فيها قوى السيطرة العالمية، وفي مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية، التي جندت للحرب آلافاً من الجنود المرتزقة الأجانب، انجليز وألمان وفرنسيين وأمريكيين، وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة تنسى بسهولة ما هو حق لنا وتبتلع بسهولة دعاوى الآخرين علينا".
وكتب هيكل في معرض دفاعه عن قرار عبدالناصر التدخل عسكرياً لإنقاذ الثورة: "ننسى أن لندن، كما حدث في حالة أنجولا، كانت مركز تجنيدهم، وتسليحهم، وإرسالهم إلى اليمن". ثم راح يتساءل: "أكثر من ذلك ماذا أقول؟ هل أقول-والقول صحيح- إن المخابرات الأمريكية كانت تجند المرتزقة الأجانب للحرب في اليمن، وإنها كانت مسؤولة عن عملياتهم، وعن التنسيق بينهم وبين دور إسرائيل في مساعداتهم؟ هل أقول-والقول صحيح- إن إسرائيل كانت تتولى مسؤولية إلقاء الذخائر والأسلحة بالطائرات في مناطق محدودة في جبال اليمن؟". ويجادل هيكل بأن الرئيس الأمريكي كنيدي كان يعلم بحقيقة ما يجري في اليمن، وأن المستر كومار كان هو ضابط التنسيق بين البيت الأبيض وإدارة المخابرات المركزية، وكان كنيدي يسمي حرب اليمن بقوله: "حرب كومار الخاصة".
كان المعسكر الملكي يتقهقر أمام ضربات سلاح الجو المصري، لكنه ما يلبث أن يستجمع قواه. وكانت صعدة هي مقياس قوة أو تضعضع الملكيين. في البدء سقطت في أيدي الجمهوريين، ثم استعادها الملكيون، ثم فقدوها في سبتمبر 1969. وحينما تمت المصالحة الوطنية، التي قضت بتمثيل الملكيين في السلطة واعترافهم بالجمهورية، كانت صعدة لا تزال في قبضتهم.
في صيف 1967، عندما قرر عبدالناصر سحب قواته من اليمن، كان على الجمهورية أن تجتاز امتحاناً عسيراً. لقد كان المعسكر الملكي يتحين الفرص للانقضاض على صنعاء. وبحسب المصادر التاريخية، فإن القوات التي حشدها الملكيون لإسقاط صنعاء، واستعادة سلطة الإمام، تفوق قوات الجمهوريين بثمانية أضعاف. وفي مطلع ديسمبر، أطبقوا على المدينة حصاراً قاسياً استمر 70 يوما. كان على الجمهوريين أن يخوضوا معركة حاسمة. تشكلت مليشيا للمقاومة الشعبية، وتوزعت الأسلحة على السكان الذين رفعوا شعار "الجمهورية أو الموت". وبعد صمود منقطع النظير، قهر الجمهوريون القوات الملكية. ففي 8 فبراير 1968 احتفل سكان صنعاء بدخول أول سيارة إليها من طريق الحديدة. وهكذا نجت الجمهورية بأعجوبة، من الملكيين، لكنها لم تنج من نفسها.
وضع الملكيون السلاح على مضض. وراح الحالمون منهم يرقبون الطريقة التي ستنمو بها الجمهورية عن كثب، يحدوهم الأمل بأن تقع الحكومات التي أعقبت المصالحة الوطنية في تناقضات لا حصر لها. صحيح ربما كان المضمون الاجتماعي للثورة سقيماً. لكن تبني فكرة "الجمهورية" كشكل للحكم هو التحول الجوهري الفاصل في تاريخ اليمن. لقد قوضت الثورة خرافة النسب، وهذا وحده جدير بالزهو.
...
"كل حرب في التاريخ هي بقية معلقة من حرب سابقة". عبارة شهيرة، خطرت ببالي فيما كنت أقرأ مداخلة للنائب علي العمراني في جلسة البرلمان يوم الأحد. بالنسبة للعمراني فإن الحرب في صعدة تعتبر "شوط إضافي للحرب التي دارت في الستينيات بين الجمهوريين والملكيين". لافتاً إلى "إن البلد يتعرض لخطر لم تعهده اليمن من الستينات"، و"إن الحوثيين اليوم يستولون على دبابات بينما لم يحدث ذلك أيام البدر". تصدق العبارة على حرب صعدة، صدقها على الحراك الجنوبي. فهو بقية معلقة من حرب صيف 94. وإن شئتم بقية معلقة من مذبحة 13 يناير، ودورات العنف التي صاحبت ثورة 14 أكتوبر.
لم نتعلم أبداً كيف نغلق الملفات الشائكة. لهذا لا ينفك يخرج لليمنيين عند كل منعطف زمني، قادة سياسيون بارعون في إثارة الذكريات الحزينة لا الأحلام. فينتهي بنا المطاف إلى خطاب سياسي كريه، يخلق جواً اجتماعياً مسموماً، وتصرفات فاشية معربدة من قبيل اغتصاب زوجة رجل شمالي من إب لأنه وطأ بقدميه الأرض المحرمة، أو تطهير عائلة شخص لأنه موال للسلطة "الباغية" في صعدة، أو اختطاف همجي لصحفي "إمامي" من وسط العاصمة وإخفائه قسرياً.
...
بالمناسبة.. في جعبتي قصة أخرى، ذات طابع شخصي أيضاً، تعكس المصير الرهيب الذي يتربص باليمنيين. قبيل العيد، شاطرني صديق عزيز فكرة قضاء الإجازة خارج صنعاء، كل منا برفقة أسرته. استعرنا سيارة "هيونداي" من شركة تأجير سيارات. كانت وجهتنا عدن، رغم ضآلة الميزانية. وفجأة تذكرت المزاج العدواني القاسي المتفشي في جنوب الوطن. لم أستطع مقاومة الشعور بالخوف من تعريض أنفسنا والسيارة المستعارة للخطر. وتطوع الأصدقاء بتعزيز القلق لدى شخص لا يتمتع بحس المغامرة أصلاً. فكرت ملياً، واتخذت القرار بتحويل اتجاه الرحلة إلى الحديدة بدلاً من عدن التي كنت أتحرق شوقاً لزيارتها.
الأسبوع الماضي، تناقلت وسائل الإعلام خبر الاعتداء الذي تعرض له صالح أحمد غالب العديني وعائلته، في مدينة الحبيلين وهو في طريقه من عدن حيث أمضى فيها إجازة العيد. وطبقاً للرواية التي قدمها الرجل ل"الصحوة نت"، فإن حافلة صغيرة (باص) كانت تقل 3 شبان، اعترضت طريق سيارته وعلى متنها عائلته ونساء إخوته وابن أخيه في الشارع العام بالحبيلين. وحين حاولوا التوسل إليهم إفساح الطريق، قام الشبان بإطلاق الشتائم البذيئة، ثم الأعيرة النارية على الإطارات الأمامية للسيارة.
استشاط ابن أخيه غضباً. ولسوف ينخرط معهم في عراك تدخل صالح لفضه، فأوسعوه ضرباً ورشقوه بالأحجار في رأسه، وتضرج جسده بالدماء. الأمر الذي أثار الفزع في نفوس أطفاله. مضت برهة وجيزة التقط فيها صالح أنفاسه، فعاود الشبان الهجوم، لكن بعد تعزيز قوتهم بأفراد آخرين قدموا على متن سيارة هايلوكس. رشقوا سيارته بالحجارة، حتى تهشمت زجاجاتها.
انتهى الشوط الثاني. غادر المهاجمون المكان. وبعد بضع لحظات استأنفوا الكر، حيث كان صالح ورفاقه قد شرعوا في إصلاح إطار السيارة المعطوب. يقول صالح: "تبعونا ثالث مرة، وكادوا يبطشوا بنا دون مراعاة للنساء والأطفال الذين أفزعهم منظر الدماء وهي تسيل من على رأسي أنا وابن أخي بغزارة كبيرة جراء حرارة المكان". وأردف متنهدا: "إن ما أرهقني كثيراً هو فزع الأطفال وصراخهم".
إن فرص أن تلاقي هذا المصير تتضاعف بوتيرة عالية. سأبدو ساذجاً لو قلت إنني عندما كنت أقرأ هذه القصة، خالجني شعور بالرضا عن نفسي، لأنني في الحديدة لم أضطر إلى حمل مسدس مثلما فعل زميل عزيز امتلك من الشجاعة ما يكفي لإمضاء يوم في عدن برفقة أولاده. "إن ما أثار غضب تلك العناصر التي اعتدت علينا، هو أن السيارة كانت تحمل لوحة معدنية فاصل 13 محافظة البيضاء -أي لأننا شماليون- ، فكانوا يشتموننا هكذا: يا دحابشه ، يا زنوات"، هكذا يشرح العديني ل"الصحوة نت".
إن ما يحصل في المحافظات الجنوبية هو عنف عرقي يتغذى بالأوهام. وفيما يسهل تفسير دوافعه واتجاهاته، فإنه لا شيء يمكن أن يبرره على الإطلاق. في نيوزويك، كتب الأسبوع الماضي، جون غيثنغو، وهو ناشط اجتماعي كيني، مقالاً عن العنف العرقي الذي بدأت تشهده بلاده على حين غرة. في الواقع أظن أن اللغة التي كتب بها المقال تستحق عناء الاقتباس. يقول غيثنغو: "يجدر بنا أن ننظر إلى ما تلا ذلك (انتخابات 2002، والنهضة الاقتصادية التي أعقبتها) من سقوط وشيك في حرب عرقية على أنه انهيار دراماتيكي في البرمجيات الوطنية، أي أزمة علاقات". ويعزو أزمة العلاقات هذه إلى أن الحكومة الجديدة استمرت في التسامح مع الفساد، حتى في أعلى المستويات، وترسيخ الظلم العرقي القديم. "لقد قامت النخبة الحاكمة الجديدة، والتي يعتقد بشكل واسع أنها متحدرة من مجموعة كيكويو العرقية التي ينتمي إليها كيباكي، بإقصاء النخبة التي حكمت في عهد موي والتي كانت تسيطر عليها عرقية الكالينجين، مما جعل الجميع تقريباً يشعر بأنه مستثنى"، كتب غنثيو.
ويستغرب الرجل كيف أن ما يطلق عليهم "مزودو برمجيات الأمة" مثل الكنيسة، والتي كانت "الحكم الأكثر احتراماً في النزاعات الوطنية ونصير الفقراء، قد خاضت في هذه التجاذبات، الأمر الذي أفقدها القدرة على التدخل الفعال". ويتابع: "والفعل أصعب من القول في هذه الأمور. لكن إذا لم تعالج قضايا برمجية أساسية مثل الانتماء للأمة، فلن يفلح أي تطوير للبنية التحتية أو نمو اقتصادي في إنقاذ كينيا وجيرانها من الاضطرابات المستقبلية الناجمة عن حالات الاستياء التي لا ترصدها إحصائيات البنك الدولي". يصل الكاتب الكيني إلى القوال: "والأهم من هذه البنية المادية هو خلق فكرة تجسد كينيا، أي هوية جمعية. حاليا، تنطوي هذه الهوية على حس قوي بالعار، تزداد حدته عندما يتقدم نحونا رفاقنا الأفارقة ويقولون لنا: "نأسف لما حصل لكم يا رجال. ولكن قد يثبت أن في ذلك خلاصنا النهائي".
والحقيقة أن أزمة اليمن تتخطى السياسة والاقتصاد إلى ما هو أبعد. حتى الدين نفسه فقد القدرة على التدخل الفعال. وفي غمرة الاعتقاد بأن فرص نجاة هذا البلد تكاد تكون معدومة، تتنامى مشاعر لا يمكن لأحد مقاومتها، هي مزيج من الخوف والألم والغثيان. لكن طريقتنا في الاستجابة للمخاطر الرهيبة المحدقة باليمن تشي بفقدان جماعي للرغبة في البقاء. إنها طريقة حمقاء لا تليق إلا بنوع غريب من المخلوقات التي خسرت أكثر سماتها جوهرية: القدرة على التمييز، والإحساس الغريزي بالخطر.
أنا شخص مفرط في التشاؤم. أنظر للأشياء بسوداوية حزينة أكثر من اللازم. أشعر بضيق لا حدود له لأنني كذلك. إنها سمة متأصلة وضاربة بجذورها في أسلافي الأوائل لدرجة أنني لا أستطيع تجنب أن يكون لدي شعور مفرط وجبان. وبالطبع الكوارث لا تعد شيئاً بالمقارنة مع العذاب الذي يتسبب به انتظارها. تلك اللحظات الثقيلة والقاتلة من الزمن التي يقضيها المرء بانتظار ساعة الصفر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.