استشهاد نجل مستشار قائد محور تعز العميد عبده فرحان سالم في مواجهات مع المليشيا    اسعار الذهب في صنعاء وعدن السبت 3 مايو/آيار2025    صنعاء تصدر قرار بحظر تصدير وإعادة تصدير النفط الخام الأمريكي    عقد أسود للحريات.. نقابة الصحفيين توثق أكثر من 2000 انتهاك خلال عشر سنوات    هذا ما حدث وما سيحدث.. صراع العليمي بن مبارك    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    عدوان مستمر على غزة والاحتلال بنشر عصابات لسرقة ما تبقى من طعام لتعميق المجاعة    إصلاح الحديدة ينعى قائد المقاومة التهامية الشيخ الحجري ويشيد بأدواره الوطنية    اللجنة السعودية المنظمة لكأس آسيا 2027 تجتمع بحضور سلمان بن إبراهيم    خلال 90 دقيقة.. بين الأهلي وتحقيق "الحلم الآسيوي" عقبة كاواساكي الياباني    الهلال السعودي يقيل جيسوس ويكلف محمد الشلهوب مدرباً للفريق    في حد يافع لا مجال للخذلان رجالها يكتبون التاريخ    غارات اسرائيلية تستهدف بنى تحتية عسكرية في 4 محافظات سورية    احباط محاولة تهريب 2 كيلو حشيش وكمية من الشبو في عتق    إذا الشرعية عاجزة فلتعلن فشلها وتسلم الجنوب كاملا للانتقالي    سنتكوم تنشر تسجيلات من على متن فينسون وترومان للتزود بالامدادات والاقلاع لقصف مناطق في اليمن    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    مسلحون يحاصرون مستشفى بصنعاء والشرطة تنشر دورياتها في محيط المستشفى ومداخله    الطيران الأمريكي يجدد قصف ميناء نفطي غرب اليمن    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجمهورية تترنح
نشر في المصدر يوم 09 - 10 - 2009

ظهيرة الأحد، كنت في طريقي إلى مكتب الصحيفة، عندما سمعت سائق الباص يتحدث بسخرية مريرة عن عبثية حرب صعدة. في الواقع كان الرجل المكدود يثرثر متحمساً، ولا يبدو أنه كان مبالياً ما إن كان ثمة من يصغي لما يقول. كان محتدماً، قلقاً، غارقاً في الحيرة والشك، أكثر منه رجل سياسة ينفق وقته بالتفكير في كيف ينتهز الفرص لإثبات شيء ما.
قال إن شقيقه، الذي كان يقطن مدينة صعدة، لقي مصرعه قبل سنة في خضم الحرب. وإن زوجته وأطفاله ال8، فضلوا مواصلة العيش في صعدة. كان يسترسل في الكلام دون أن يجشم نفسه عناء الالتفات ليعرف الانطباع الذي يولده هذا المونولوج الحزين. شرح كيف أن أخبار عائلة شقيقه انقطعت تماماً منذ شهرين، وكيف أنه لم يجرؤ على المجازفة بحياته لتفقد أحوالهم.
لم أكن أذناً صاغية. ورغم أن صوته كان يقحم نفسه في سمعي بلا هوادة، فإن ذهني ظل شارداً ونظراتي مبعثرة. قبل أن نصل تلفظ الرجل بعبارة عادية، لكنها تركتني مشدوهاً. لقد قال إنه لم يجد طريقة لإبلاغ عائلة شقيقه بأن عليهم الانتظار هل ستصبح صعدة بعد انتهاء الحرب "ملكية" أم "جمهورية"، ليقرروا مصيرهم. فإن هي صارت "ملكية" ينتقلوا إلى صنعاء، وإن استمرت "جمهورية"، فلا ضير من البقاء هناك.
تملكني الأسى والرعب. أغلقت عيناي, وهمست لنفسي: يا إله السماوات، هل انضمت "الجمهورية"، بالفعل، إلى جانب "الوحدة"! لتغدو موضع جدل وتهديد هي الأخرى. كلمات مثل "الملكية" "الإمامية" "الكهنوت" لطالما لاكتها ألسن نخبة الحكم ووسائلها الإعلامية، لكنها لا تنجح في إثارة خوفنا من إمكانية عودة حقب سياسية مضى على اندثار آخر فصولها نصف قرن. وكنا نتلقى المبالغة في هجائها والتحذير من تكرارها بطريقة تشبه تلقينا لهذيان شخص ينذر بزحف المغول أو جيوش الاسكندر الكبير أو أبرهة الحبشي. نوع من حقب تاريخية ونماذج حكم وصراعات يتعذر تكرارها إن لم يكن مستحيل.
وحده سائق الباص جعلني أتخيل كم إن ذلك ممكناً وفظيعاً، لا سيما في بلد يسكن التاريخ في مسامات جلده. كنت مضطرباً حينها. على أن الطريقة التي وضع بها السائق كلمة "الجمهورية" في مقابل "الملكية" كانت تتسم بالدراما وقلة الحيلة. كدرني المشهد حقاً. وأتذكر أنني تخيلت الإمام يحيى بجنبيته المائلة إلى خصره الأيمن، ولحية الشاب الذي كان، الشبيهة ربما بلحية عبدالملك الحوثي، يأخذ البيعة في أحد كهوف "قفلة عذر"، بينما كان شيخ حاشد ناصر مبخوت الأحمر، يجلس على عتبة الكهف مقرفصاً ومتكئاً إلى بندقيته "الجرمل" على الأرجح، وربما عصاه، آخذاً على عاتقه توفير أجواء انتخابية آمنة.
كان الشيخ المحارب بمثابة وزير دفاع، أو لنقل رئيس هيئة الأركان. ولا بد أنه شكل ضغطاً عسكرياً كان من شأنه ترجيح موازين الإمام يحيى. وتقول الروايات إن الرجل، لوح بعصاه، حينما توصلت الهيئة الناخبة إلى ملاءمة يحيى لكافة شروط الإمامة عدا شرط واحد، قائلا: هذا هو الشرط الناقص، في إيماءة ذكية إلى شرط "القوة". تذكرت ناصر مبخوت، وحضرتني أسماء كثيرة مثل بدر الدين الحوثي، وعبدالملك، ورجال مقرفصون على أعتاب الكهوف على غرار صالح هبرة وعبدالله عيضة الرزامي.
وفي كل مرة أعيد التفكير في كيف أن أعتى الصراعات التي تعصف باليمن الآن، هي تكرار، أو امتداد، هزلي تافه وبغيض لمآسي والتباسات وحروب الماضي. إذاً، وضبوا أمتعتكم، فالنزاع في صعدة ينقلنا في قطار جماعي إلى مناخ الستينات ومطلع السبعينات، حيث كان القتال بين المعسكر الجمهوري والمعسكر الملكي يجتذب أنظار العالم. في حين تتفاوت الوجهة التاريخية التي يحشد بعض رموز الحراك الجنوبي جماهيرهم ليرتحلوا بهم إليها. فثمة من يريد العيش في جمهورية اليمن الديمقراطية، ومنهم من يتعطش لاستعادة الجنوب العربي، ومنهم من يتلهف إلى القرن السابع عشر حيث استطاعت لحج الإفلات من قفطان الأئمة لتنشأ بعدئذ سلسلة طويلة من الممالك والسلطنات المتناهية الصغر.
...
تصدمني مفردة "الانفصال" بالتأكيد، لكنها لا تتركني ذاهلاً كالأبله على غرار ما تفعله مفردة "الملكية". شيء يصعب تصديقه بسهولة. ظننت أن لعبة "ملكي" أم "جمهوري" قد طوت آخر جولاتها بالمصالحة الوطنية في السبعينات، بعد حرب أهلية دامت 8 سنوات. تلك المعارك المدمرة التي انطلقت شرارتها الأولى بانقلاب عسكري على محمد البدر ذات ليلة باردة من ليالي شهر سبتمبر 1962، حيث اتسع الانقلاب ليصبح ثورة عظيمة، يتمتع مدبروها بالعزم لكنهم كانوا يفتقرون إلى النضج والتصور العميق.
قاتل الملكيون بأسنانهم على السلطة. وإذ هبت قوات عبدالناصر لنجدة الثورة، فقد تحولت اليمن الشمالية إلى واحدة من أكثر نقاط التماس سخونة بين القوتين المتعارضتين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، ضمن ما يعرف بالحرب الباردة. خرج البدر من قصره مطروداً، وقيل أنه تخفى في زي نساء. "وفي أحد الشوارع الهادئة للعاصمة تعرفت امرأة على شخصية الإمام وآوته في بيتها واستبدلت ملابسه الفخمة الأنيقة الواضحة بملابس جندي عادي. وفي عتمة الليل البهيم تسلق الإمام ومرافقوه جدران المدينة ميممين شطر الشمال"، والذي ينقل هذا الوصف هو ادجار أوبالانس، مؤلف كتاب "الحرب في اليمن".
كان يجب أن تنتهي الثورة عند هذه النقطة: فرار الملك المخلوع، وتسلم قائد الحرس الملكي عبدالله السلال السلطة في الجمهورية الوليدة. لكن البدر يتحدر من سلالة لم تتعلم التفريط بحق تعتقد أنه "إلهي". أعلن المعسكر الجمهوري مقتل البدر، لكن حكومة المنفى الملكية كذبت من السعودية الخبر. ولم يمض سوى أسبوعين حتى تولى الملك الأردني، بالتنسيق مع السعودية، ترتيب عقد مؤتمر صحفي للبدر في مرتفعات حجة. أرسل الجمهوريون إشارة استغاثة لعبد الناصر، فوصلت أولى قواته بعد بضعة أيام من الثورة. وبوصول الجيش المصري، المدعوم من الاتحاد السوفيتي، وجد الملكيون من يسندهم: السعودية وإيران والأردن، ومن ورائهم الولايات المتحدة وإسرائيل.
لقد أصبحت الثورة في "مهب العاصفة"، على حد وصف محمد حسنين هيكل، الذي يفسر اتساع الحرب في اليمن على هذا النحو: "اتسعت حينما تدخلت فيها قوى السيطرة العالمية، وفي مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية، التي جندت للحرب آلافاً من الجنود المرتزقة الأجانب، انجليز وألمان وفرنسيين وأمريكيين، وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة تنسى بسهولة ما هو حق لنا وتبتلع بسهولة دعاوى الآخرين علينا".
وكتب هيكل في معرض دفاعه عن قرار عبدالناصر التدخل عسكرياً لإنقاذ الثورة: "ننسى أن لندن، كما حدث في حالة أنجولا، كانت مركز تجنيدهم، وتسليحهم، وإرسالهم إلى اليمن". ثم راح يتساءل: "أكثر من ذلك ماذا أقول؟ هل أقول-والقول صحيح- إن المخابرات الأمريكية كانت تجند المرتزقة الأجانب للحرب في اليمن، وإنها كانت مسؤولة عن عملياتهم، وعن التنسيق بينهم وبين دور إسرائيل في مساعداتهم؟ هل أقول-والقول صحيح- إن إسرائيل كانت تتولى مسؤولية إلقاء الذخائر والأسلحة بالطائرات في مناطق محدودة في جبال اليمن؟". ويجادل هيكل بأن الرئيس الأمريكي كنيدي كان يعلم بحقيقة ما يجري في اليمن، وأن المستر كومار كان هو ضابط التنسيق بين البيت الأبيض وإدارة المخابرات المركزية، وكان كنيدي يسمي حرب اليمن بقوله: "حرب كومار الخاصة".
كان المعسكر الملكي يتقهقر أمام ضربات سلاح الجو المصري، لكنه ما يلبث أن يستجمع قواه. وكانت صعدة هي مقياس قوة أو تضعضع الملكيين. في البدء سقطت في أيدي الجمهوريين، ثم استعادها الملكيون، ثم فقدوها في سبتمبر 1969. وحينما تمت المصالحة الوطنية، التي قضت بتمثيل الملكيين في السلطة واعترافهم بالجمهورية، كانت صعدة لا تزال في قبضتهم.
في صيف 1967، عندما قرر عبدالناصر سحب قواته من اليمن، كان على الجمهورية أن تجتاز امتحاناً عسيراً. لقد كان المعسكر الملكي يتحين الفرص للانقضاض على صنعاء. وبحسب المصادر التاريخية، فإن القوات التي حشدها الملكيون لإسقاط صنعاء، واستعادة سلطة الإمام، تفوق قوات الجمهوريين بثمانية أضعاف. وفي مطلع ديسمبر، أطبقوا على المدينة حصاراً قاسياً استمر 70 يوما. كان على الجمهوريين أن يخوضوا معركة حاسمة. تشكلت مليشيا للمقاومة الشعبية، وتوزعت الأسلحة على السكان الذين رفعوا شعار "الجمهورية أو الموت". وبعد صمود منقطع النظير، قهر الجمهوريون القوات الملكية. ففي 8 فبراير 1968 احتفل سكان صنعاء بدخول أول سيارة إليها من طريق الحديدة. وهكذا نجت الجمهورية بأعجوبة، من الملكيين، لكنها لم تنج من نفسها.
وضع الملكيون السلاح على مضض. وراح الحالمون منهم يرقبون الطريقة التي ستنمو بها الجمهورية عن كثب، يحدوهم الأمل بأن تقع الحكومات التي أعقبت المصالحة الوطنية في تناقضات لا حصر لها. صحيح ربما كان المضمون الاجتماعي للثورة سقيماً. لكن تبني فكرة "الجمهورية" كشكل للحكم هو التحول الجوهري الفاصل في تاريخ اليمن. لقد قوضت الثورة خرافة النسب، وهذا وحده جدير بالزهو.
...
"كل حرب في التاريخ هي بقية معلقة من حرب سابقة". عبارة شهيرة، خطرت ببالي فيما كنت أقرأ مداخلة للنائب علي العمراني في جلسة البرلمان يوم الأحد. بالنسبة للعمراني فإن الحرب في صعدة تعتبر "شوط إضافي للحرب التي دارت في الستينيات بين الجمهوريين والملكيين". لافتاً إلى "إن البلد يتعرض لخطر لم تعهده اليمن من الستينات"، و"إن الحوثيين اليوم يستولون على دبابات بينما لم يحدث ذلك أيام البدر". تصدق العبارة على حرب صعدة، صدقها على الحراك الجنوبي. فهو بقية معلقة من حرب صيف 94. وإن شئتم بقية معلقة من مذبحة 13 يناير، ودورات العنف التي صاحبت ثورة 14 أكتوبر.
لم نتعلم أبداً كيف نغلق الملفات الشائكة. لهذا لا ينفك يخرج لليمنيين عند كل منعطف زمني، قادة سياسيون بارعون في إثارة الذكريات الحزينة لا الأحلام. فينتهي بنا المطاف إلى خطاب سياسي كريه، يخلق جواً اجتماعياً مسموماً، وتصرفات فاشية معربدة من قبيل اغتصاب زوجة رجل شمالي من إب لأنه وطأ بقدميه الأرض المحرمة، أو تطهير عائلة شخص لأنه موال للسلطة "الباغية" في صعدة، أو اختطاف همجي لصحفي "إمامي" من وسط العاصمة وإخفائه قسرياً.
...
بالمناسبة.. في جعبتي قصة أخرى، ذات طابع شخصي أيضاً، تعكس المصير الرهيب الذي يتربص باليمنيين. قبيل العيد، شاطرني صديق عزيز فكرة قضاء الإجازة خارج صنعاء، كل منا برفقة أسرته. استعرنا سيارة "هيونداي" من شركة تأجير سيارات. كانت وجهتنا عدن، رغم ضآلة الميزانية. وفجأة تذكرت المزاج العدواني القاسي المتفشي في جنوب الوطن. لم أستطع مقاومة الشعور بالخوف من تعريض أنفسنا والسيارة المستعارة للخطر. وتطوع الأصدقاء بتعزيز القلق لدى شخص لا يتمتع بحس المغامرة أصلاً. فكرت ملياً، واتخذت القرار بتحويل اتجاه الرحلة إلى الحديدة بدلاً من عدن التي كنت أتحرق شوقاً لزيارتها.
الأسبوع الماضي، تناقلت وسائل الإعلام خبر الاعتداء الذي تعرض له صالح أحمد غالب العديني وعائلته، في مدينة الحبيلين وهو في طريقه من عدن حيث أمضى فيها إجازة العيد. وطبقاً للرواية التي قدمها الرجل ل"الصحوة نت"، فإن حافلة صغيرة (باص) كانت تقل 3 شبان، اعترضت طريق سيارته وعلى متنها عائلته ونساء إخوته وابن أخيه في الشارع العام بالحبيلين. وحين حاولوا التوسل إليهم إفساح الطريق، قام الشبان بإطلاق الشتائم البذيئة، ثم الأعيرة النارية على الإطارات الأمامية للسيارة.
استشاط ابن أخيه غضباً. ولسوف ينخرط معهم في عراك تدخل صالح لفضه، فأوسعوه ضرباً ورشقوه بالأحجار في رأسه، وتضرج جسده بالدماء. الأمر الذي أثار الفزع في نفوس أطفاله. مضت برهة وجيزة التقط فيها صالح أنفاسه، فعاود الشبان الهجوم، لكن بعد تعزيز قوتهم بأفراد آخرين قدموا على متن سيارة هايلوكس. رشقوا سيارته بالحجارة، حتى تهشمت زجاجاتها.
انتهى الشوط الثاني. غادر المهاجمون المكان. وبعد بضع لحظات استأنفوا الكر، حيث كان صالح ورفاقه قد شرعوا في إصلاح إطار السيارة المعطوب. يقول صالح: "تبعونا ثالث مرة، وكادوا يبطشوا بنا دون مراعاة للنساء والأطفال الذين أفزعهم منظر الدماء وهي تسيل من على رأسي أنا وابن أخي بغزارة كبيرة جراء حرارة المكان". وأردف متنهدا: "إن ما أرهقني كثيراً هو فزع الأطفال وصراخهم".
إن فرص أن تلاقي هذا المصير تتضاعف بوتيرة عالية. سأبدو ساذجاً لو قلت إنني عندما كنت أقرأ هذه القصة، خالجني شعور بالرضا عن نفسي، لأنني في الحديدة لم أضطر إلى حمل مسدس مثلما فعل زميل عزيز امتلك من الشجاعة ما يكفي لإمضاء يوم في عدن برفقة أولاده. "إن ما أثار غضب تلك العناصر التي اعتدت علينا، هو أن السيارة كانت تحمل لوحة معدنية فاصل 13 محافظة البيضاء -أي لأننا شماليون- ، فكانوا يشتموننا هكذا: يا دحابشه ، يا زنوات"، هكذا يشرح العديني ل"الصحوة نت".
إن ما يحصل في المحافظات الجنوبية هو عنف عرقي يتغذى بالأوهام. وفيما يسهل تفسير دوافعه واتجاهاته، فإنه لا شيء يمكن أن يبرره على الإطلاق. في نيوزويك، كتب الأسبوع الماضي، جون غيثنغو، وهو ناشط اجتماعي كيني، مقالاً عن العنف العرقي الذي بدأت تشهده بلاده على حين غرة. في الواقع أظن أن اللغة التي كتب بها المقال تستحق عناء الاقتباس. يقول غيثنغو: "يجدر بنا أن ننظر إلى ما تلا ذلك (انتخابات 2002، والنهضة الاقتصادية التي أعقبتها) من سقوط وشيك في حرب عرقية على أنه انهيار دراماتيكي في البرمجيات الوطنية، أي أزمة علاقات". ويعزو أزمة العلاقات هذه إلى أن الحكومة الجديدة استمرت في التسامح مع الفساد، حتى في أعلى المستويات، وترسيخ الظلم العرقي القديم. "لقد قامت النخبة الحاكمة الجديدة، والتي يعتقد بشكل واسع أنها متحدرة من مجموعة كيكويو العرقية التي ينتمي إليها كيباكي، بإقصاء النخبة التي حكمت في عهد موي والتي كانت تسيطر عليها عرقية الكالينجين، مما جعل الجميع تقريباً يشعر بأنه مستثنى"، كتب غنثيو.
ويستغرب الرجل كيف أن ما يطلق عليهم "مزودو برمجيات الأمة" مثل الكنيسة، والتي كانت "الحكم الأكثر احتراماً في النزاعات الوطنية ونصير الفقراء، قد خاضت في هذه التجاذبات، الأمر الذي أفقدها القدرة على التدخل الفعال". ويتابع: "والفعل أصعب من القول في هذه الأمور. لكن إذا لم تعالج قضايا برمجية أساسية مثل الانتماء للأمة، فلن يفلح أي تطوير للبنية التحتية أو نمو اقتصادي في إنقاذ كينيا وجيرانها من الاضطرابات المستقبلية الناجمة عن حالات الاستياء التي لا ترصدها إحصائيات البنك الدولي". يصل الكاتب الكيني إلى القوال: "والأهم من هذه البنية المادية هو خلق فكرة تجسد كينيا، أي هوية جمعية. حاليا، تنطوي هذه الهوية على حس قوي بالعار، تزداد حدته عندما يتقدم نحونا رفاقنا الأفارقة ويقولون لنا: "نأسف لما حصل لكم يا رجال. ولكن قد يثبت أن في ذلك خلاصنا النهائي".
والحقيقة أن أزمة اليمن تتخطى السياسة والاقتصاد إلى ما هو أبعد. حتى الدين نفسه فقد القدرة على التدخل الفعال. وفي غمرة الاعتقاد بأن فرص نجاة هذا البلد تكاد تكون معدومة، تتنامى مشاعر لا يمكن لأحد مقاومتها، هي مزيج من الخوف والألم والغثيان. لكن طريقتنا في الاستجابة للمخاطر الرهيبة المحدقة باليمن تشي بفقدان جماعي للرغبة في البقاء. إنها طريقة حمقاء لا تليق إلا بنوع غريب من المخلوقات التي خسرت أكثر سماتها جوهرية: القدرة على التمييز، والإحساس الغريزي بالخطر.
أنا شخص مفرط في التشاؤم. أنظر للأشياء بسوداوية حزينة أكثر من اللازم. أشعر بضيق لا حدود له لأنني كذلك. إنها سمة متأصلة وضاربة بجذورها في أسلافي الأوائل لدرجة أنني لا أستطيع تجنب أن يكون لدي شعور مفرط وجبان. وبالطبع الكوارث لا تعد شيئاً بالمقارنة مع العذاب الذي يتسبب به انتظارها. تلك اللحظات الثقيلة والقاتلة من الزمن التي يقضيها المرء بانتظار ساعة الصفر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.