تُحدثنا ثورات الربيع العربي بأن أقصى درجات السرعة في التجاوب الرئاسي مع طموحات الثورة الشعبية تفضي إلى «مَخرج طوارئ» يؤدي إلى المطار، ومنه إلى أي مكان في العالم، وهو ما تبقى من رصيد حرية لم تعرف غير «صالة المغادرة»، وأوسط درجات تلك السرعة تفضي إلى «خلف القضبان» وضجيج المَحاكم والجلسات المؤجلة بكل ما فيها من دعاوى ومرافعات وكاميرات و.. «حاجة تقرف»!، أما أدنى درجات تلك الاستجابة فتفضي إلى قبرٍ مجهول لا تُخْطئه اللعنات، كآخر محطة من محطات «البهذلة» والشماتة الحاشدة، ولو عُثر على القبر لكان خليقاً بأن يوضع عليه لوحة يُكتب عليها: يا مُعاند الشعب أنت خسران!، ويمكن أن يقف بجواره أحد الشباب المهندمين وهو يتمثل دور المرشد السياحي، فيقول بنشوة بلاغية: هنا يرقد زعيمٌ فاتَه القطار، فجلس فوق سكة الحديد والنار!.. زعيم سأل شعبه متغابياً: من أنتم؟، فأجابوه، وجابوا به، ثم طرحوه أرضاً كي يعرفهم جيداً، ثم أردوه قتيلاً، ولعله كان يقول: دقّت ساعة الأجل، بدلاً من ساعة العمل!. حديث الثورات هذا محل فَهم واستيعاب لدى رؤساء الشعوب الثائرة، وهو تحدٍ يدفعهم لنوع عبثي من الاستجابة، كمحاولة حجب الخيارات الثلاثة والاستغناء عنها إلى خيار رابع يقضي على الخصوم بانتقاء محترف، أو خيار خامس يقضي «عليّ وعلى أعدائي وأصدقائي والناس أجمعين» سقوطاً في وهدة السيرة والمسيرة!، ليكون رد الشعب: ما رأينا منك غير «القوارح» فاقضِ ما أنت قاض! و مثلما لا يختار الناس في القطار رفقاء سفرهم عادةً، قد لا يسعف الوقت رؤساء الشعوب الثائرة لاختيار نهايات مشرفة لهم، لعلمهم أنهم لم يحكموا بشرف حتى يُجَازَوا بمثل ما حكموا، وإن عدّدوا المنجزات وأرغوا وأزبدوا في خطابات المَن والأذى، فالأمر ما يراه الناس لا ما يسمعونه.. ما لم فسيكون الأمر ما يصنعونه!. ربما لا يدرك الرئيس صالح أن شعبه قد وصل إلى مرحلة يتساوى فيها الموت والحياة، بل تختلط فيها الحياة بالموت، تتعالى الزغاريد فوق الجُثث المتبسمة والمُهَشمة، ويتهافت الشباب على مصادر النيران والقذائف كما تتهافت الفَراش على الضوء لتحترق!، لم يعد لدى الشعب ما يخسره إن هو صمد في ثورته، وهذا سر تعاظم الاعتصامات والمسيرات بعد كل موجة عنف وحالة صلَف يظن صالح أنها كفيلة بإيقاف أو عرقلة الثورة الماضية في طريقها لإسقاط نظامه، وتتأخر لأنها تريد إنقاذه من مطبات تاريخ الرئاسة في اليمن، التي عادة ما تنتهي بهروب أو اغتيال، وهو حاصل جمع تجارب الرئاسة في الجنوب والشمال!. تكثف الثورة طاقتها السياسية لتتكيف مع هذا المسار اللاعنفي، وكأنها تتمثل قول محمود درويش: أَنزلْ هنا، والآن، عن كتِفيكَ قَبْركَ واعطِ عُمْركَ فُرصةً أخرى لترميم الحكايِة
تريد الثورة أن تبني مشروعاً سياسياً حضارياً، لكن المشغول بثقافة المشروعية لا يعرف ثقافة المشروع، وربما لا يريد أن يعرف لأنه جزء من تاريخ معروف يريد الشعب طيّ صفحته!، فالمعركة اليوم هي اللحاق بقطار المستقبل، يمضي إليه الشعب بكل أحاسيسه وقواه وبكل ما لديه من عزمٍ وبذل وصمود واستعدادٍ للفناء مقابل بلوغه، لا وقت للانتظار، قائلين للمسكون بماضيه، والمهووس بإخفاق حاضره: فاتك القطار!. المصدر أونلاين