كنت قد كتبت في الأسابيع الأولى لقيام الثورة الشبابية المباركة عن مقترحات لشكل النظام والدستور الجديدين في يمن ما بعد الثورة، وقدمت عرضا لنظم الحكم المختلفة كالنظام الرئاسي والنظام البرلماني والنظام المختلط. وقد ذكرت في تلك المقالة أن النظام الرئاسي اللامركزي الذي يختلف في شكله جملة وتفصيلا عن النظام الحالي، من وجهة نظري، يضل الخيار الأمثل أما اليمنيين من أجل التحول نحو نظام ديمقراطي حقيقي بشكل سلس وهادئ لا يؤدي إلى مزيد من الفوضى التي لا تزال تعصف باليمن منذ عقود. كذلك فإن من نتائج هذا التحول الديمقراطي السلس إلى هذا الشكل من الحكم الرئاسي اللامركزي سيساعد على تهيئة الفرصة للنمو والتطور في وقت قياسي بحكم الاستقرار المصحوب ووضوح سلطة الرئيس الذي سيتركز مجهوده في إدارة شؤون الدولة وبناء علاقات خارجية تعود لليمنيين بالخير وتساهم في تحسين الوضع الاقتصادي بحيث يتمكن اليمن من العودة الى الوضع الطبيعي واللحاق بركب الأمم، فالشعب اليمني لا يمكنه تحمل المزيد من المعاناة لسنوات أخرى والتي قد تنتج عن خلافات سوف تبرز بلا شك إذا ما قمنا بتغيير دراماتيكي كبير لمنظومة الحكم في اليمن. الآن وبعد تحقق المطلب الأول للثورة المتمثل في سقوط رأس النظام وكذلك بروز بوادر مشجعه على أن الثورة مستمرة في اقتلاع من تبقى من مخلفات النظام الرجعي البائد فإنه وجب لزاما على الجميع التفكير بشكل جدي في أسلوب هذا التحول الديمقراطي الحقيقي لأن هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها اليمن تعد من أهم بل وأخطر المراحل، وهي التي ستحدد مستقبل اليمن وشعبه التواق إلى بداية جديدة تمحو آثار الماضي المليء بالمعاناة. هذا الشعب لا يمكنه تحمل ثورة فاشلة أخرى وبروز دكتاتور آخر وكذلك لا يمكنه الانتظار طويلا حتى تتفق القيادات السياسية على شكل النظام إذا ما اتجهت هذه القيادات إلى أسلوب تقاسم السلطة وتوزيع المناصب بين القوى المختلفة (الحكومة الحالية تعد استثناء وهي منوطة بتحقيق هذا التحول الديمقراطي ولكن لايمكن أن تكون نموذجا لمستقبل الحكم فنظام المحاصصة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقانات والصراعات). هناك قواعد أساسية ينبغي النظر إليها كركيزة ينبني عليها النظام الديمقراطي لليمن الجديد. هذه القواعد تتلخص في: حرية الفرد، حفظ حقوق الأقليات (مجتمعيه، عرقية، دينيه... الخ)، وترسيخ النظام والقانون. فإذا ما تم ترسيخ هذه القواعد الأساسية فإن تصميم أو تحديد شكل البناء سوف يصبح أكثر مرونة وأقل تعقيداً. الكثير من المفكرين والكتاب والسياسيين في اليمن يرون أن النظام البرلماني يمثل الحل الأمثل لطبيعة اليمن المعقدة الذي لن يؤدي إلى بروز دكتاتور جديد يملك صلاحيات مطلقة. قد يكون هذا الكلام صحيحاً وممكناً ولكنه من وجهة نظري يقدم حلاً سطحياً لمشكلة معقدة ومستعصية فوجود رئيس وزراء ورئيس جمهورية فخري يعد وصفة لنظام ذو أجنحة متصارعة. كذلك فإن من يطرحون حل الفيدرالية والأقاليم لا يقدمون نموذجا يقبل به أكثرية الشعب اليمني الذي يحرص على وحدة اليمن أرضا وإنسانا وهو وصفة أخرى لصراعات لن تنتهي. لذلك فإنه بالنظر إلى مسببات المشكلة اليمنية المتمثلة في الصراعات والتشتت المناطقي والقبلي وغياب النظام والقانون فإن وجود النظام الرئاسي واللامركزي يمثل الحل المنطقي إذا ما تم على أساس القواعد الثلاث التي ذكرتها سلفا والمتمثلة في الحفاظ على حرية الفرد وضمان حقوق الأقليات وترسخ النظام والقانون في شتى أنحاء اليمن. وينبغي التذكير هنا بأنه في ظل النظام الرئاسي اللامركزي الذي طرحته في مقالتي السابقة لا يوجد منصب لرئيس الوزراء لأن رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب هو المسؤول التنفيذي الذي يقود الحكومة ويخضع للمساءلة. ليس هناك أي داع لوجود رئيس آخر للوزراء غير رئيس الجمهورية لأن هذا كما ذكرت سابقا يعد تشتيتا للصلاحيات وسببا كبير في إهدار مال الأمة الغير متوفر أصلا. كذلك فإن اليمن ليس بحاجة إلى رئيس فخري يسكن في قصر رئاسي ويملك صلاحيات غير معروفة ووظيفة يمكن أن يقوم بها أصغر موظف في أي إدارة وبأقل راتب. تجدر الإشارة هنا إلى أن ان النظام العرقي الحالي يمثل نموذجا ماثلا أمامنا لفشل تجربة النظام البرلماني الذي ينتج عنه تعدد المناصب (رئيس جمهورية، نائب رئيس جمهورية، رئيس حكومة، نائب رئيس حكومة) وتشتت الصلاحيات الذي يؤدي إلى صراعات خطيرة لا تنتهي وتبديد للثروات لما يحتاجه كل هؤلاء من ميزانيات وصرفيات غير محدودة. اليمن بطبيعتها أيضا مرشحة لهذا الشكل من الصراعات الذي نراه في العراق اليوم إذا ماتم الأخذ بالنظام البرلماني وبأسلوب التحاصص لذلك ينبغي الاعتبار من تجارب الآخرين بحيث لا نقع في نفس الأخطاء. عندما يكون هناك رئيسا تنفيذيا واحدا (رئيس الجمهورية الذي هو رئيس للحكومة) تكون إجراءات المساءلة واضحة باعتبار أن الرئيس هو المسؤول أمام الشعب عن تنفيذ برنامجه والتقيد بالدستور والقانون، ولا يمكن له بأن يرمي بمسؤولية فشله إن هو لم ينجح على الآخرين أو بأن يلوم فلانا أو علان. اليمن ليس بحاجة إلى تقسيم طائفي أو مناطقي لذلك فإن على النظام الديمقراطي الجديد أن يحفظ حقوق الأقليات والمناطق ذات التعداد السكاني المنخفض في الجنوب أو في غيره بمنحها نفس القوة الانتخابية للمناطق ذات الكثافة السكانية العالية كصنعاء أو تعز. عندما لا يكون هناك تكافؤ في الوزن الانتخابي للمحافظات ستتجه الأحزاب إلى ترشيح شخصيات للرئاسة من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية لضمان الفوز الأمر الذي سيؤدي إلى تهميش الكثير من المناطق وبروز دعوات مناطقية غير محمودة. بالمقابل فإن المساواة في القوة الانتخابية لشتى المناطق سوف يجعل التنافس في الانتخابات الرئاسية على البرامج ممكنا وسيكون البعد المناطقي أقل تأثيرا أو غير ذي جدوى. قد يعتقد البعض أن هذا الأمر (المساواة في القوة الانتخابية) لايمكن تحقيقه في اليمن ولكن في حقيقة الأمر فإن هذا الأسلوب يمثل حلا عمليا وناجعا للكثير من مشاكل اليمن، وهناك نماذج كثيرة في العالم يمكن أن ينظر إليها كما هو الحال في الولاياتالمتحدة التي حرص مؤسسوها قبل أكثر من مائتي عام على تجاوز مشاكل مشابهة لما تعانيه اليمن في وقتنا الحالي. أخيرا يجب أن يكون هناك صلاحيات متعددة للبرلمان تبدأ بمساءلة رئيس الجمهورية وتمرير أو رفض خططه وبرامجه ولا تنتهي بإمكانية حجب الثقة عنه في حالات معينة والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة. هذا ما ينشده اليمنيون عموما وشباب الثورة على وجه الخصوص الذين يتطلعون إلى يمن ديمقراطي جديد لا يفلت فيه أحد من العقاب ولا يوجد من هو فوق القانون بل وليس هناك مايسمى بالقائد الأوحد أو الملهم فالجميع تحت سلطة القانون سواء.