ذات مرة وأثناء الإنتظار في صف طويل أمام إحدى نقاط التفتيش العسكرية المنتشرة في طول البلاد وعرضها لفت انتباهي على الخط المعاكس لصف السيارات القادمة باتجاهنا أحد السائقين واقف بسيارته و يحاول أن يلفت انتباه الجندي الذي يفترض به أن يقوم بعملية "التفتيش" ولكن هذا الأخير كان منهمكا في الكلام مع زميل آخر له بينما سائق السيارة لم يحاول أن يتحرك بالسيارة بعد طول الانتظار وإنما أخذ "يجذب" كم العسكري وهو يتمتم بكلمات لم أسمعها لبعد المسافة وحين التفت له العسكري أخيرا أشار له أن يمر بلامبالاة فتنهد صاحبنا الصعداء وانطلق بالسيارة ! لم أسمع ما قاله ذلك السائق البائس للجندي المنشغل عنه ولكني شعرت أن لسان الحال يقول على فم السائق "لو سمحت فتشني"!! في اليمن فقط يمكن أن ترى هذا المشهد المضحك المبكي .. فلو فكرت أن تسافر وتقطع مسافة بسيطة لا تزيد عن 50 كيلومتر لابد أن تصادف ثلاث أو أربع نقاط تفتيش على أبسط تقدير إذا ما كنت محظوظا .. "التفتيش" والوقوف لساعات من أجله ثقافة مهمة في حياة اليمنيين وقد يقول لك البعض أنه لولا هذا "التفتيش" و"التوقيف" لأصبحت الأمور فوضى لا تطاق ولأنعدم الأمن والأمان وأصبحت الأمور "سايبة" !! ربما يقول البعض وماذا كنت تريد من ذلك المواطن المسكين أن يفعل؟ هل يغضب ويمشي بدون ان "يتفتش" فيتعرض للضرب بالنار؟؟ وأقول على الأقل فليظهر بعض التذمر أو يصرخ في الجندي المنشغل بالكلام ليقوم بواجبه بدلا من "رطع" الناس وإهمالهم وهذا أضعف ما يمكن لمواطن له أبسط الحقوق في بلده أن يفعله ليس بعد ذلك من المواطنة حبة خردل! لطالما استفزتني نقاط التفتيش المنتشرة بكثافة على مسافات بسيطة سواء داخل المدن أم خارجها والتي تتسبب فقط في تعطيل حركة السير واضاعة وقت المسافرين وإزعاجهم خصوصا في أوقات الظهيرة والحر .. ويثير غيظي معرفتي جيدا أنها ضد الدستور أساسا ولا يمثل وجودها أي فائدة لي كمواطن بسيط .. وكم تحسرت حين عرفت أن الناس في البلاد الأخرى تعودوا أن يقطعوا آلاف الكيلومترات بدون أن تستوقفهم نقطة تفتيش واحدة .. وفي بعض البلاد التي تتكون من اتحادات فيدرالية كالهند والولايات المتحدة وكندا وغيرها يكون هناك نقطة أمنية واحدة على مدخل ومخرج كل ولاية مهمتها ليست ايقاف المسافرين وجعلهم يصطفون في "طوابير" بإنتظار "التفتيش" والعفو السامي بالمرور.. ولكن تؤدي هذه النقاط الأمنية مهام محددة خاصة مثل التأكد من عدم انتقال آفات زراعية أو تهريب بضائع غير مرخص لها قد تؤذي وتضر بالمواطنين!! فإذا ما تركنا كل هذا وقبلنا على مضض "بحتمية" وجود هذه النقاط بحجة الحفاظ على الأمن والأمان وسلمنا أن كل هذه "العطلة" و "الإزعاج" هي لمصلحة المواطنين اولا وأخيرا.. فأن المرء يتسائل بإستغراب عن سر الطريقة "الفظة" و"الوقحة" التي يتعامل بها عادة من يمسكون بهذه النقاط مع المواطنين الذين وُجدت هذه النقاط من أجل حمايتهم وللحفاظ على أمنهم !! من المثير للسخرية وربما الرثاء أن يتوقف المواطن بسيارته عند النقطة بعد اللافتات العديدة المرعبة التي كتب عليها بخط أحمر كبير ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور "قف للتفتيش" .. فيشعر المرء حينها بأنه – لاسمح الله – ارتكب جرما رهيبا وحانت ساعة "التفتيش" والعقاب.. وحين يتوقف المواطن البسيط بسيارته بعد أن قفز بها فوق مطبين أو ثلاثة بارتفاع مترين عن الأرض وضعت خصيصا قبل النقطة لضمان أن تتوقف السيارة أو على الأقل تتحطم إن لم تتوقف .. يواجه تلك النظرات الصارمة الحادة التي تشعره بالذنب حتى لو لم يفعل شيئا.. وعليه بعدها أن ينتظر تلك الاشارة الكريمة السخية التي يفعلها الجندي بكل برود واحتقار وتعني "اطلع" فيتنفس الصعداء وينطلق بسرعة ناسيا أن هناك مطب أيضا بعد النقطة بارتفاع مترين! وربما تصحب تلك الاشارة السخية كلمة "اطلع" ولكن الجندي يقولها بطريقة وكأنها "اطلع طلعت روحك" ! وفي بعض الأحيان قد لا يعجب منظرك الجندي رغم محاولتك التظاهر بالبراءة وبأنك لم تسرق شيئا ولكنه ينظر لك شذرا ثم يقول بصرامة شديدة "افتح الشنطة" بطريقة وأسلوب تجعلك تعتقد انك من كبار أعضاء العصابات المتخصصة في تهريب المخدرات أو أنك ربما سرقت هذه السيارة وبالتالي تستحق هذه المعاملة الفظة القاسية وعليك أن تنصاع للاوامر وإياك إياك أن تتذمر أو تفتح فمك بكلمة !!! ولكن الذي يستفزني حقيقة أكثر من كل ما سبق هو طريقة تعاملنا نحن اليمنيين مع هذه المسألة.. قمة في الانضباط والالتزام والوداعة .. لا نتذمر ولانصرخ ولا ننتقد هذا الوضع المزري .. نتعامل معه ببساطة وكانه جزء من حياتنا وثقافتنا اليومية .. نتوقف لدقائق طويلة وربما لساعات في انتظار شيء لا يعنينا كمواطنين ولا يقدم لنا أي خدمة بل يعطلنا ويؤخرنا .. نتعرض لمعاملة سيئة من قبل عساكر النقاط التفتيشية وكأننا بالفعل "سرقنا" هذه السيارات أو أرتكبنا جرما ما ونستحق هذه المعاملة المهينة .. وننتظر جميعا في طوابير كي يتعطف علينا العسكري الموقر و"يفتشنا" !! حتى حين نغضب وونفعل تتوجه انفعالاتنا نحو الطرف الخطأ .. فقد يحدث أثناء الاصطفاف قبل التفتيش أن تتدافع السيارات وتتزاحم وكل واحد يحاول أن يصل قبل الاخرين إلى أيادي العساكر الرقيقة كي ينال شرف اشارة "اطلع" .. وقد يحدث – بالطبع- أن تقطع سيارة على أخرى الطريق أو تمنعها من العبور فيبدأ الشتم والسب والصراخ الذي قد يتطور إلى العراك بالأيدي بين السائقين وكل هذا في منأى عن الطرف الذي يفترض أن يوجه له كل الصراخ والشتم لتأخير الناس وتعطيلهم بدون أي ضرورة أو فائدة تذكر !! أي أننا نتعارك ونتشاجر من منا يصل أولا كي يتم تفتيشه!! وكأن "التفتيش" حق من حقوق المواطنة فإذا لم يتم "تفتيشي" فأنا إذا أقدح في مواطنتي!! وقد يجادل البعض بأن هذه النقاط استحدثت وزادت بسبب أحداث الثورة ولكن الجميع يعرف أن هذه النقاط موجودة ومنذ زمن بعيد وأن المسافر من صنعاء مثلا إلى تعز عليه أن يمر بما لايقل عن 15 نقطة تفتيش في مسافة 250 كيلومترا فقط!! لا يسري هذا الوضع على نقاط التفتيش فقط ولكن على معظم نواحي الحياة التي يضطر فيها المواطن للتعامل مع الأمن في أي مكان .. هناك دائما ذلك الاحتقار والحقد والاستخفاف من قبل الطرف الذي يمسك بالمدفع ويرتدي الزي الرسمي يقابله تلك الاستكانة والاستسلام والرضى من جانب الطرف الذي يفترض أن يحصل على كل الاحترام والمعاملة اللائقة !! ثقافة "لو سمحت فتشني" يجب أن تختفي تماما من قاموسنا ..اذا كنا فعلا نريد أن نتقدم ونتطور فإن أول خطوة هي معرفة حقوقنا.. من حقي أن أسافر كما أشاء ولا أتعرض للتوقيف كل ربع ساعة .. من حقي أن لا يضيع أحد وقتي ويتعامل معه باستهتار ولا مبالاة .. من حقي أن أحصل على المعاملة اللائقة والكريمة كمواطن حر له حقوق واحترام.. فهل يأتي اليوم الذي نستبدل فيه ثقافة "لو سمحت فتشني" وإشارة "إطلع طلعت روحك" بثقافة الجندي أو العسكري الذي يبتسم في وجه الناس ويتكلم بأدب ويقول "لو سمحت .. تفضل" !