أخيراً رحل الرئيس صالح عن السلطة، بعد حكم استمر قرابة 34 سنة، حقق فيها كثير من الانجازات لوطنه وأسرته، وخلف جراحاً كبيرة في جسد الوطن... وفي جسده أيضاً!!. ومن المؤكد أن الرئيس صالح قد اصطحب معه في رحلته "الأخيرة" أشياء كثيرة، بينها ملف قضية تفجير جامع الرئاسة الذي استهدفه شخصياً، وستظل قضية غامضة، وعالقة في ملفاتها الضخمة، تماماً كما تاهت ملفات مقتل الرئيسين السابقين لصالح "الحمدي والغشمي". بين توقيع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية ورحيله عن السلطة شهرين كاملين، دارت فيهما نقاشات طويلة، ونزاعات وصلت حد التجهيز لخيار الحرب المعلنة، ومع الإعلان عن تشكيل حكومة الوفاق، وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية، ضعفت قدرة الرئيس صالح على المناورة، واتخاذ أي تدابير تطيل عمره في السلطة، بدءاً من رغبته في البقاء لإدارة الحملة الانتخابية لمرشح الرئاسة التوافقي، نائبه عبدربه هادي، وانتهاء بتسليم محافظتي أبين والبيضاء لعناصر مسلحة، أدعى نظام صالح أنهم من "تنظيم القاعدة". وخلافاً لم ورد في نص المبادرة الخليجية حول منح صالح وأركان حكمه حصانة من الملحقة القضائية والأمنية تم اعتماد "قانون الحصانة" وفقاً ل"قانون العدالة الانتقالية"، وبعد جدل ونقاش اعتمدت الحكومة نص القانون بتعديلاته المستمرة لأكثر من شهر، كان آخرها منح الحصانة الكاملة للرئيس صالح، ويحصل بقية عائلته ومن عمل معه على حصانة سياسية فقط، وتمت المصادقة البرلمانية على نص القانون السبت 21 يناير، وبعد مرور 28 ساعة من المصادقة غادر الرئيس صالح اليمن، في رحلة عدها كثير من المراقبين "الأخيرة"، وذهب عدد من المحللين وشباب الساحات إلى اعتبار يوم 21 فبراير يرقى إلى مستوى 22 مايو، اليوم الذي توحد فيه اليمن، إذ بإقرار البرلمان لقانون الحصانة تكون اليمن قد طوت صفحة نظام صالح إلى الأبد، ونزع فتيل الحرب الأهلية التي أطلت بوجهها المفزع مرات كثيرة خلال العام المنصرم.
ومصادقة البرلمان على قانون الحصانة لم يكن بالأمر السهل، فقد تصلبت الكتلة البرلمانية للمؤتمر وطلبت أن يأتي لقراءة نص القانون وزيري العدل والشئون القانونية المحسوبين على المعارضة، فيما رأت كتلة المعارضة أن ذاك من اختصاص وزير الدولة لشئون مجلسي النواب والشورى المحسوب على المؤتمر، وتم بذلك إرجاء مناقشة القانون أسبوعاً كاملاً، لتكون دموع رئيس الوزراء المعارض محمد باسندوة هي المخرج والفيصل، فقد ذرف دموعه وهو يقرأ نص قانون الحصانة أمام البرلمان، واختنق بدموعه عندما قال: "البلد تنزلق نحو الهاوية، أرجوكم أنقذوها.. أعرف أن هذا القانون سيعرضني للشتم لكني سأضحي وأنا في هذا العمر (75عاماً) من أجل إنقاذ وطني".
ولولا حكمة باسندوة ومكانته لطال أمد المناقشة، وتفجر الوضع تحت قبة البرلمان. في آخر كلمة له قال الرئيس صالح أنه سيعود إلى اليمن لقيادة المعارضة والاستمرار في رئاسة المؤتمر، وفضلاً عن كون ذلك إقراراً مسبقاً بهزيمة المؤتمر في الانتخابات القادمة، وتحوله من حزب حاكم إلى معارض، لا يمكن لصالح أن يعود إلى اليمن، خاصة وقد رأى معظم قيادة الدولة في عهده يتوزعون بين مؤيد للثورة، ومنسحب من المشهد السياسي، متخلين عن الزعيم الذي حكمهم، وأسبغ عليهم نعمه طيلة 34 سنة، فضلاً عن رغبة جامحة لدى أهالي ضحايا الثورة الشعبية بمحاكمة صالح وعائلته، لذا لن تحضن صالح غير المنافي، وجدياً لن يفكر بغير ذلك. وقد أشار دبلوماسيون غربيون إلى ضغوط أمريكية، مورست على دول خليجية لقبول إقامة صالح وعائلته، بعد أن اعتذرت ألمانيا وأسبانيا اللتان أرادهما صالح، ووافقت الإمارات على قبول صالح و50 من أفراد عائلته، وتم نقل أمتعة العائلة إلى "أبوظبي"، التي سرعان ما اعتذرت بعد موافقتها، لتكون الوجهة الجديدة لصالح هي سلطنة عُمان التي زارها في طريق رحلته العلاجية إلى أمريكا، ومن مفارقة القدر أنها الدولة التي استقبلت نائبه وشريكه في تحقيق الوحدة علي سالم البيض، عقب هزيمته في حرب صيف 1994. كانت إدارة أوباما ترى في بقاء صالح مشكلة، وفي استقباله على أراضيها مشكلتين؛ فبقاءه في الداخل اليمني يعني بقاء شبح الحرب قائماً، واستقباله للعلاج سيثير أحد أمرين: إما إثارة الرأي العام الأمريكي ومنظمات حقوق الإنسان، إذ كيف يتم السماح باستقبال رجل متهم بقتل آلاف المدنيين، وهذا من شأنه التأثير على شعبية الإدارة الديمقراطية في الانتخابات، والمشكلة الأخرى إذا خضعت أمريكا للضغوط الشعبية الداخلية والخارجية، وتم اعتقال صالح على أراضيها ستكون سابقة خطيرة، قد تؤثر على علاقة واشنطن بحلفائها العرب، ولم يكن من مخرج أمام إدارة أوباما غير الإعلان عن استقبال صالح لأسباب طبية فقط، وبشرطين: عدم ممارسة أي نشاط سياسي أثناء فترة العلاج، والآخر أن يتم مجيئه عن طريق وسيط ثالث هو "أثيوبيا"، التي زارها بعد عُمان، ليتسلم منها فيزا أمريكية من نوع A1 وهي فيزا مؤقتة تحمل دلالتين؛ الأولى أنه لن يسمح لصالح بالإقامة الدائمة في أمريكا، والأخرى إذا تم الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية اليمنية وصالح لا يزال في أمريكا فقد خُلعت عن الصفة "الرئاسية"، ويتم التعامل معه كمواطن عادي، وربما هذا ما جعل الرئيس صالح يؤكد في كلمته الأخيرة أنه سيعود لليمن لتنصيب نائبه هادي رئيساً لليمن، أي أنه سيظل محتفظاً بصفته الرئاسية لحين تنصيب الرئيس الجديد، كما جرت العادة في البلدان الديمقراطية.