تعز تشهد مراسم العزاء للشهيد السناوي وشهادات تروي بطولته ورفاقه    أول تعليق أمريكي على إعلان الحوثيين استهداف وإصابة حاملة الطائرات آيزنهاور    تغاريد حرة .. الحقيقة احيانا بطعم العلقم    مصادر دولية تفجر مفاجأة مدوية: مقتل عشرات الخبراء الإيرانيين في ضربة مباغتة باليمن    المبادرة الوطنية الفلسطينية ترحب باعتراف سلوفينيا بفلسطين مميز    شاب عشريني يغرق في ساحل الخوخة جنوبي الحديدة    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    عاجل: البنك المركزي الحوثي بصنعاء يعلن حظر التعامل مع هذه البنوك ردا على قرارات مركزي عدن    بحضور كامل أعضائه.. اجتماع "استثنائي" لمجلس القيادة الرئاسي بعد قرارات البنك المركزي اليمني    اربيلوا: ريال مدريد هو ملك دوري ابطال اوروبا    انشيلوتي: نحن مستعدون لتحقيق الحلم    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و284 منذ 7 أكتوبر    الحوثي يتسلح بصواريخ لها اعين تبحث عن هدفها لمسافة 2000 كيلومتر تصل البحر المتوسط    هل يتجه البنك المركزي بعدن لوقف التعامل بالطبعة القديمة من العملة الوطنية..؟    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    لكمات وشجار عنيف داخل طيران اليمنية.. وإنزال عدد من الركاب قبيل انطلاق الرحلة    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    لن تكون كسابقاتها.. حرب وشيكة في اليمن بدعم دولي.. ومحلل سياسي يدق ناقوس الخطر    حكم بالحبس على لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    النائب العليمي يؤكد على دعم إجراءات البنك المركزي لمواجهة الصلف الحوثي وإنقاذ الاقتصاد    حرب واسعة تلوح بالأفق..مراسل الجزيرة يوجه تحذيرا لليمنيين    المناضلة العدنية "نجوى مكاوي".. عبدالفتاح إسماعيل عدو عدن رقم 1    الإخوان في اليمن يسابقون جهود السلام لاستكمال تأسيس دُويلتهم في مأرب    "الحوثيون يبتزون التجار بميزان جبايات جديد في صنعاء ويغلقون محلات في ذمار"    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    جماهير اولمبياكوس تشعل الأجواء في أثينا بعد الفوز بلقب دوري المؤتمر    قيادي في تنظيم داعش يبشر بقيام مكون جنوبي جديد ضد المجلس الانتقالي    مليشيا الحوثي تنهب منزل مواطن في صعدة وتُطلق النار عشوائيًا    تقرير حقوقي يرصد نحو 6500 انتهاك حوثي في محافظة إب خلال العام 2023    بعد إيقاف البنوك ...مليشيا الحوثي تهاجم محافظة جنوبية وتسعى للسيطرة عليها واندلاع معارك طاحنة    وكالة أمريكية: سفينة "لاكس" التي هاجمها الحوثيون مؤخراً كانت تحمل شحنة حبوب متجهة إلى إيران مميز    لجنة من وزارة الشباب والرياضة تزور نادي الصمود ب "الحبيلين"    اختتام دورة إدارة البحوث والتطوير لموظفي وموظفات «كاك بنك»    تراجع أسعار الذهب إلى 2330.44 دولاراً للأوقية    الجامعة العربية تدعو الصين لدور أكبر في تعزيز الإجماع الدولي لإنشاء الدولة الفلسطينية    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    الامتحانات.. وبوابة العبور    رسميا.. فليك مدربا جديدا لبرشلونة خلفا للمقال تشافي    لماذا نقف ضد الإسلام السياسي؟    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    حكاية 3 فتيات يختطفهن الموت من أحضان سد في بني مطر    رونالدو يتسلم جائزة هداف الدوري السعودي    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    وزارة الأوقاف تدشن النظام الرقمي لبيانات الحجاج (يلملم)    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    اعرف تاريخك ايها اليمني!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    رسالة غامضة تكشف ماذا فعل الله مع الشيخ الزنداني بعد وفاته    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رئيسٌ سابقٌ.. وشعبٌ متعبٌ وجسور
نشر في المصدر يوم 22 - 02 - 2012

كما لو أن عقداً عقابياً جماعياً معتاداً – صُكّ في خلسة من التاريخ - كان هو قدر اليمنيين الوحيد على مدى 33 عاماً، بحيث كانوا يرتطمون كل صباح بصورة الشخص المعتاد، بينما كل مساء يؤطرهم الشخص المعتاد في مساحته القيمية المشينة فقط.
إنها معاناة نفسية بليغة مكللة بدروب المستبد ومفتوحة على الهلاك وما بعد اللا جدوى، أو بمعنى أدق صارت تلك ال33 عاماً: سيرة ممهورة بالقحط الوطني والخلط الحاصل بين الوطنية والنخيط، في حين تعد سيرة لا تطاق من معاناة الشعب ومشاهد الدم وثراء الخُبرة ومخاصمة المعرفة والمثقفين والسياسيين الشرفاء، إذ على مدى 33 عاماً أقمنا كيمنيين في عذابات ومصائب ومفارقات علي عبد الله صالح وجنونه اللا محدود، وفي مرآته التي لا أسوأ منها كاد الإحساس يصيبنا في أننا مجرد همجيين متخلفين من دون مكانة أو رؤيا أو مستقبل محظوظ.
على أنه المصير العبثي الذي كاد يعدم كل الغايات البليغة من قيمتي المواطنة والإبداع في اليمن، وبما أن ثلاثة أرباع اليمنيين من الشباب فقد جثم علي عبد الله صالح على تاريخ لا يحصى من الأحلام والأمنيات الشعبية التواقة بشدة للتغيير.
كذلك طغت نزعته الفردية على البلاد والعباد معاً، كما بشكل آلي كدنا كيمنيين ننسى أنه بشر يزول بحيث صبغ حياتنا بحماقات نظامه المتوالية كأنما لا فكاك منه أبداً.
يمكن القول- أيضاً- إننا كنا رهائن الشكل الأسوأ للقبيلة وتحالف ركامات العسكر مع رأس المال الاستغلالي غير الوطني ورجال المسألة الدينية التقليدية التي مع طاعة ولي الأمر لا الدينية الناضجة التي مع التنوير، بمعنى أن الزمن كان منغلقاً وراكداً بامتياز، بينما كان الرئيس المخلوع يفيض بحضوره على آلامنا وفظاعة اليومي، حتى إنه جعل الجمهورية - خلال السنوات الأخيرة بالذات: أبناءه وأبناء أخيه، أما الوحدة فقد حولها منذ سنين نهباً وإذلالاً.
في السياق يلزم التشديد بأن نظام علي عبد الله صالح لم يكن نظام الدولة بقدر ما كان نظام الشخص، نظام الترهيب والترغيب، فإذا راح الشخص انفرط كالعنقود تماماً، نظام المصلحة للشخص ومع الشخص وبالشخص فقط، وليس نظام الدولة كنظام مؤسساتي غايته مصلحة المجتمع ثم ضمان الاستقرار الدائم لرفاهيته وصون حقوقه، بعد زرع الثقة بين الحاكم والمحكوم.
ولقد دأب هذا النظام الكوارثي على تخريب منظومة الأخلاق والقوانين، مسجلاً حضوراً لافتاً في الفساد بعد أن اغتصب الحكم واستولى عليه 33 عاماً بحيث كان مرضاً مزمناً عانى منه اليمنيون بشكل رهيب بالفعل. فالمعروف إنه بالنزوات والرغبات تعامل الرئيس المخلوع مع المال العام وثروات الشعب بلا رقيب أو حسيب. كما إنه طوال عقود أنتج كل الظواهر المجتمعية السيئة من الفقر وتدمير الطبقة الوسطى وتوسيع قواعد الاحتكار مروراً بتكريس الاحتيال على الحقوق فالرشوة...الخ، وليس انتهاءً بتمكين فساد أبنائه وإخوانه وأصهاره جيداً من ثروات واقتصاد البلاد الأشد إنهاكاً بين البلدان العربية والمتبوءة على الدوام قاع المراتب الأدنى عالمياً.
باختصار: كان هذا جوهر سياسيات علي عبد الله صالح: السياسات التي قسمت الشعب إلى نصفين: «أصحاب الكروش بعروشهم وأصحاب القروش بنعوشهم» كما يقول المثل. والأسوأ أن نظام علي عبد الله صالح كان بلا أي دور اجتماعي خصوصاً في مسألة الغذاء بعد تنصل الدولة عن معظم التزاماتها، أي مجرد نظام اتضح أنه كان مؤسساً على مقاس الأسرة الحاكمة، وفاسدي الحزب الحاكم، فيما جعل أكثر من ثلاثة أرباع اليمنيين في حالة تعيسة جداً على كافة المستويات. وبالإجماع فإن أطفال اليمن هم الأتعس حظاً في العالم، والسبب: التجهيل والتهريب والعمالة والمشاكل الصحية وعدم الاهتمام الحكومي.... الخ، أضف إلى ذلك سوء التعليم في كل المراحل ومخرجاته بشكل عام، كما لا ننس نهب الأراضي في الحديدة والجنوب بالذات، إضافة إلى الانتهاكات الصارخة للحقوق المدنية والسياسية، بحيث ظل اليمنيون لا يتمتعون بالحقوق الواردة في العهد الدولي دون تمييز.
لذلك حملت الثورة الجديدة بالتأكيد دلالات طبقية وسياسية وحقوقية، ما يعني أن المتاعب والإكراهات قد وصلت مداها، وأن الشعب عندما يتحرك يشكل قوى ثورية كبيرة باهرة.
فاليمن هو الأكثر فقراً وبطالة وأمية وانتشاراً للسلاح في العالم العربي، ثم إن التغطرس والتسويف وصولاً إلى تعزيز المكانة في السلطة بشراء الذمم وسياسات التجهيل والغشم توجهات علي عبد الله صالح طوال فترة حكمه، ما جعل الاستبداد وعدم الوعي يكادان يكتسحان تماماً حياة اليمنيين، وطبعاً: مع تراجع الحال إلى الخلف على معظم المستويات الإنسانية والأخلاقية والوطنية.
فمن عقد صفقات شراء الأسلحة دون حسيب ولا رقيب، إلى اختلاس المعونات والقروض الخارجية التي حصل عليها باسم اليمنيين، فبيع الثروات الوطنية بأثمان بخسة: استمر نفوذه المطلق لصالح أبنائه وأبناء أخيه وأصهاره وبقية أقاربه المشاركين في الاستيلاء على الحكم، كما لا نستثني في السياق كل زبانيته في المؤتمر وخارجه من مراكز القوى البغيضة.
ويبدو معلوماً- أيضاً- أن أقرباء علي عبد الله صالح وزبانيته ظلوا يشاركون بحصص مجانية في رأس مال كبرى الشركات التجارية والصناعية، فيما يرى اقتصاديون أن اليمن أصبحت دولة لا تجبر الضرر الاقتصادي الكبير الواقع على غالبية المواطنين، إضافة إلى بروز طبقة المتحكمين في البلاد تؤازرها طبقة الطفيليين في مناصب الدولة ممن صاروا يملكون مساحات شاسعة من الأراضي والشركات في مختلف المجالات.
كذلك أدخل علي عبد الله صالح اليمنيين في حروب مريرة بينهم البين، كما ازداد لعبه بورقة الانقسامات المناطقية التي لا أقذر منها، إلا أن «ارحل» برزت مع الثورة الشعبية كمفردة مقدسة لصنع الكتلة التاريخية للتغيير في اليمن، بينما مثلت التوق للثورة الشعبية السلمية كثورة للنهضة المجتمعية المنشودة، ولترسيخ مبادئ الكرامة والعدل والإنصاف الاجتماعي، مثلما للمحاسبة ولإنفاذ القانون على المستهترين به والغاشمين، كما للاحترام الفعلي لكافة الحقوق المدنية والسياسية والتنموية.
بمعنى أدق فرض الرئيس السابق سطوته باحتقار القانون، وإذ عمل على تشويه الضمائر دون أدنى اكتراث، ظل زبانيته يرغمون الشعب على منطق اللا مساواة مستمرين بالتالي في جرائم الاستقواء والاستحواذ على مقدرات الدولة ونهب المال العام والشحت في الخارج باسم الشعب، بينما استمر خيارهم الأخير الانحياز لبشاعتهم وصلافتهم، وعلى محياهم يتضح رغد البؤس الشعبي العميم.
وبالمحصلة فقد تفاقمت هجرة الأدمغة والكفاءات العمالية للخارج، إذ غمر هذا النظام ذويه في المزاج بما يفوق الوصف على حساب البلد وملايين اليمنيين المقهورين الحالمين حتى صار الفساد بسببه كما لو انه تربية وطنية، بل لعل أسوأ أنواع الفساد الذي كرسه هو الفساد السياسي.
غير أن قوى المعارضة المنصهرة في تكتل اللقاء المشترك (وحدها بالطبع) استطاعت تشكيل حائط صد مثالي لكل ممارساته المتفاقمة رغم كل المواجهات والمصاعب، وصولاً إلى تحطم علي عبد الله صالح أمام شعبه خلال السنوات الأخيرة مع بروز توريث الحكم كظاهرة بارزة دون أدنى خجل، ومن ثم ظهور قضية صعدة، فانتشار «القاعدة» في عموم البلاد، حتى قيام الحراك السلمي الجنوبي معترضاً على كل التعسفات والانحطاطات التي تمت باسم الوحدة.
تخيلوا- أيضاً- أن تهريب الآثار لم يسلم من هذا النظام الذي يمكن وصفه بأكثر من أنه انهار أخلاقياً ووطنياً، بل لعل أنقى عناصره فاسد بلا حدود، كما أن كل الدائرين في فلك نظام كهذا ظلوا عوائق التنوير والتقدم والآمال بوطن حقيقي منذ انقلاب نوفمبر ومأساة أغسطس وتشويه حركة 13 يونيو مروراً بإعلان حرب 94.
والثابت أن علي عبد الله صالح ضحى طوال 33 عاماً من حكمه بالرمزية الوطنية للجيش والأمن لصالح رمزيته هو كمستبد، حتى صارت مؤسسة القوات المسلحة والأمن تحتاج بشدة إلى محاربة الفساد وإعادة البناء عبر جملة من الإصلاحات العاجلة والمستقبلية التي أصبحت أكثر من ضرورية وهامة، بحيث أن قوة فساد نظام الشخص/ علي عبد الله صالح، جعلت الجيش والأمن أداة إرهاب بيده، وبدلاً من أن يكونا مبعث فخر واعتزاز وطنيين، كانا مبعث خوف واشمئزاز بالنسبة لغالبية المواطنين الذين يأملون عودتهما إلى يد الدولة كما هو مفروض.
علاوةً على ذلك تبدو المفارقة المؤسفة في الانطباع العام لدى البسطاء في اليمن على أن الرجل «أحمر عين» يستحق بشدة ما جناه طوال حكمه نظراً لقوته، في حين أن حلم المواطن اليمني المغلوب لا يزال متفاقماً كما هو: دولة مدنية وقانون ومواطنة متساوية.
وإذ يعد الاستبداد هو الراعي الأول للفساد، فإن سلب الحقوق والحريات على رأس تجليات النهج الذي اتخذه نظام علي عبد الله صالح، فهو لم يحترم القضاء، كما سيطر على مؤسسات البلاد محاولاً انتزاع العيش الكريم من أعصاب الناس ومتعاملاً معهم كحالة أمنية فقط بمعنى أن نفوذ القانون استمر بعيداً عن التحقق.
لتلك الأسباب وغيرها ظل اليمنيون يفتقدون للأساس الذي يتيح بناء الإصلاحات في مؤسسات الدولة، إذ من شأن آليات المساءلة ذات الكفاءة والفعالية أن تساعد الدول على وضع سياسات أفضل وسن قوانين أرقى، ورصد تأثير هذه وتلك في حياة الناس لصالحهم.

وعلى نحو ما كان المجتمع اليمني يعيش حالة طوارئ غير معلنة، بحيث ظل المواطنون في عدد من المحافظات الشمالية والجنوبية يتعرضون للقمع والاعتقال التعسفي والمداهمات بسبب آرائهم الاحتجاجية والمعارضة لهذا النظام، أضف إلى ذلك فإن خيارات النظام البدائية والصلفة في تعامله مع الصحفيين وحرية الرأي والتعبير، من العوامل التي ساهمت في تجلي فعل الثورة مطلع العام الماضي عليه، بينما كان الصحافيون على رأس النخبة المجتمعية تفعيلاً لهذا المطلب إضافة إلى عديد قوى كالشباب.
الآن تبدو اليمن أمام مفترق طرق حقيقي، إذ يحتاج اليمنيون إلى نظام سياسي مسؤول اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، يعلي من شأن الفرد وحقوقه، كما يحمي الكرامة ويصون الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة والوحدة الوطنية فعلاً لا قولاً.
بينما يبدو أن انتقال مركزية السلطة بانتخاب عبد ربه منصور هادي رئيساً انتقالياً زاخر بالمعنى والتاريخ، أما من يظن أن الانتخابات ستمثل زوالاً لقيمة الثورة اليمنية الحيوية فهو مخطئ لا شك، إذ أن في هذا مكمن التفرد الخطير والرائع لثورتنا، كما في كل مراحل الثورة لم تنعدم المفاجأة، وقبل عام على سبيل المثال كان علي عبد الله صالح يمضي في طريق الانتخابات بمفرده عازماً التجديد لنفسه غير آبه بأحد، لكن من يصدق الآن أن يوماً واحداً صار يفصله عن الحكم دون حذاقة أو مغالطة أو لف أو دوران.
***
كنت أسلفت مراراً أنني سأنتخب عبد ربه لأنه النقطة الأخيرة في كتاب التوريث قبل أن نمزقه إلى الأبد، ومن ناحية أخرى لأجل النقل التاريخي للسلطة من الشمال، بحيث أنه لن تسقط فزاعة المركز المقدس إلا بهذه الخطوة الجبارة وطنياً.
ثم إن الانتخابات كخطوة مهمة في طريق المبادرة التي مثلت انفراجة مهمة للمأزق الثور تمثل عودة للروح اليمنية التي زاد من سلبها علي عبد الله صالح على مدى 33 عاماً، وهي بالتالي تفوّت عليه كلفة الحرب ككلفة باهظة لطالما هددنا بها وتوعد، فيما يبقى الأهم من هذه الانتخابات أن تطوي صفحة علي عبد الله صالح نهائياً، بعد أن صار عبئاً على اليمن واليمنيين بلا منازع.
ففي غضون العقد الأخير عموماً تفوق هذا النظام في أن يكون أكثر همجية ومناطقية وعشائرية ودناءة وأقل احتراماً - ولو شكلياً- لمبادئ الحقوق والمواطنة واللا تمييز.
أما اليوم فيبقى عبد ربه منصور هادي هو السبيل الوحيد الذي بإمكانه أن يهيئ أهم الأسباب الموضوعية لانتقال اليمنيين من نظام الشخص إلى نظام الدولة، حيث وأن هذا النظام هو من قامت الثورة لبنائه رفضاً لنظام الشخص الذي كان كعصابة أخطبوطية تحكمت في كل شيء عبر استغلال مقدرات أدوات الدولة بالطبع، في حين تغافلت عن حتمية أن القوة الغاشمة ليست هي الضمان الوحيد للكرسي فما بالكم بتوريثه.
هكذا وجد اليمنيون أنفسهم أمام اللحظة الفارقة لتداول السلطة رغم كل المخاضات العسيرة، ما يعني أن «عقلنة» الثورة كانت العامل الوحيد للحفاظ على البلد، إذ ليست الثورة استعراضاً فقط وإنما خوضاً في حاجات المجتمع باتجاه تحقيق الإنجاز الأفضل داخل مسار لا ينقص من أهداف الثورة، كما لا يؤدي إلى تشطير الدولة وفناء مؤسساتها الهشة أصلاً.
تذكيراً فقد كان الثوار المشدودون إلى النموذج التونسي يتغافلون عن فارق التراكم هنا وهناك، كما كان الداعون للسلاح بين الثوار اليمنيين محاكاةً للنموذج الليبي- مثلاً- يعملون على إنهاء الطابع الأخلاقي لسلمية ثورتهم دون أن يأخذوا في الاعتبار أهمية هذا الطابع قيمياً ووطنياً، إضافة إلى نسيانهم قدرة الليبيين المادية الرهيبة التي سيعيدون بها بناء مؤسسات بلادهم مقارنة بحالتنا المادية الأكثر من تعيسة.
والمقصد أن السياسة المسؤولة كفلت لليمنيين السيطرة على ذواتهم من السحق الكلي الذي كرسه النظام بشكل وقح خلال سنوات حكمه، بينما كان من المهم أن تسكت أصوات المدافع التي كادت تمهد لحرب ضروس بين اليمنيين مع احتدام الفعل الثوري، إذ كان الحل السياسي الأكثر جدارة بين الحلول، وحيث لم يكن العنف مبهجاً عموماً، ظل مصير استمرار السلمية مرهقاً أمام نظام وقح بلا أدنى أخلاق، ثم إن التجاوزات التي ارتكبها علي عبد الله صالح امتدت إلى المجتمع بكامله. أما العجيبون فعلا فهم أصحاب الزحف وكأن النظام المعتوه هذا لا يقدم سوى الحليب والزهر للثوار. مع ذلك أؤمن بأن تضحيات اليمنيين أدهشت العالم وأنهم صاروا يدركون جيداً معنى استحقاقهم الجدير لوطن يصونهم. فمن ينكر أن الشعب اليمني عانى عديد فظاعات مدة شهور خصوصاً حين كان بلا سند دولي.
يقودنا ما سبق إلى أن كل ما نحتاجه خلال الأيام القادمة مسؤولون يضعون الحقائق أمام الناس بشفافية لا مواربة فيها، وليذهب كل الكلام البراق المعسول المغالط إلى الجحيم. أما أصحاب الغرائز التوريثية للحكم فعليهم أن يفهموا بأنه لا هيبة لأحد أمام صحوة الشعب إطلاقاً.
ينبغي كذلك أن ترتبط الإرادة الحكومية والشعبية جوهرياً بمشروع ثقافي تنويري وطني نبيل ضد المناطقيات والمذهبيات وكل الحزازات اللا وطنية الآثمة التي كرسها علي عبد الله صالح.
***
نعم.. يكفينا «بهذلة» من اليوم وصاعداً على كافة المستويات كشعب وكإرادة. فيما الحضور الفاتن الآن للشعب الجسور بإمكانه وحده أن يخرجنا من متاهة تلك النوستالجيا فادحة الوجع عن الرئيس السابق، وذلك تجاوزاً لزلات الماضي المأخوذ بذاكرتنا من ناحية، وباتجاه كل المراجعات الموضوعية الصارمة من ناحية أخرى، من أجل تفعيل «السفر إلى الأيام الخضراء» التي سنظل نحلم بها ونحلم.

خاص بالمصدر أونلاين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.