بشفافية مطلوبة؛ أو بمناسبة التوجيه الرئاسي لترشيح قائمة لعضوية هيئة مكافحة الفساد.. كانت الهيئة العليا لمكافحة الفساد تمشي بخطوات سلحفائية جداً، بينما استمر الفساد يسرع ويقفز كالأرانب. كان الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة يشير إلى استفحال الأزمة، غير أن لا أحد يبالي. زاد الطين بلة أن كلاً من الهيئة والجهاز قد تكللا بالفساد أيضاً! تكمن المشكلة السمجة في أن الجميع يعترفون بالفساد حتى الحكومة، إلا أن المؤكد أن الاعتراف وحده لا يكفي. وفي هذا الصدد يزداد اعتقادنا في أن المانحين أنفسهم بشكل أو بآخر صاروا يساهمون في تعزيز الفساد – إن لم يستفيدوا منه - للأسف. طبعاً طوال 33 عاماً - عمر النظام السابق - لم نجد فعلاً واحداً معتبراً لتجفيف منابع الفساد ومحاصرته رغم ادعاءاته المتكررة ومزاعمه الخطابية التي مل الناس منها؛ إذ كان يتعامل مع الفساد وقضاياه بخفة ولا مسؤولية. والمفترض كما نتصور أن يتم دمج الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة مع الهيئة العليا لمكافحة الفساد؛ إذ تشكلت الأخيرة –كما نعرف- على إثر ضغوط الداعمين، مع أنها حتى الآن لم تؤثر في الحد من عملية الفساد الممنهج الذي تتعرض له مؤسسات الدولة والمال العام. لعلنا نتذكر في هذا السياق ما أقدم عليه قبل أربع سنوات من عمل مشّرف ويحمل عديد دلالات الرجل القدير سعد الدين بن طالب الذي كان يترأس قطاع التعاون الدولي بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حين بادر بتقديم استقالته، واصفاً الهيئة بأنها أصبحت بؤرة من بؤر الفساد أساساً، ومؤكداً أنها فشلت في أداء مهامها وأهدافها التي أنشئت من أجلها، فإضافة إلى تعمد أعضاء الهيئة بتوظيف أبنائهم وأقاربهم في قطاعات الهيئة المختلفة، والامتيازات الكبيرة التي يحصلون عليها، لم تثبت الهيئة مقدرتها على التعامل مع قضايا الفساد الكبيرة وفي مواقع سيادية للأسف، فما بالكم بالقضايا الأخرى كقضايا المنطقة الحرة، حوش الخضار بعدن، أو الفساد في قطاعي الكهرباء والنفط... إلخ. وهكذا.. لكأن الهدف من وراء إنشاء هذه الهيئة هو أن تكون محللاً لما يتم من عمليات فساد واسعة في أروقة الدولة، أي هيئة للشرعنة - عبر الدعممة والتواطؤ - لأسوأ إجرام يتم بحق اليمن واليمنيين على الإطلاق. وإذن.. ليبدأ العمل على مراجعة الصيغة القانونية الجامدة والفضفاضة لعمل الهيئة وصلاحياتها مع انتهاء فترة أعضائها في الشهر المقبل نحو صيغة قانونية جديدة أكثر حيوية ولابيروقراطية حتى ينتج عنها أثر ملموس على الواقع. أما الجهاز الذي أنشئ بعد الوحدة بعامين فقد تعثر مراراً بسبب ارتباطه المباشر بمكتب رئاسة الجمهورية؛ بحيث تحول إلى جهاز يعرف بشكل مباشر كل الإفسادات التي تتم تحت رعاية عليا فقط، إذا ما أمكننا التشبيه، وببساطة أكثر: فإن هذا ما لمسناه بالفعل في الذهن الشعبي القادر على الفرز رغم كل شيء والذي لا يقبل بتبريرات مكافحة الفساد ورعايته في آن، إلا كونه الحقيقة الوحيدة للنظام السابق .. ذلك أن تقارير الجهاز - المعلنة على الأقل والتي كانت تصل للصحافة - كانت مهمشة ولا يؤخذ بها لتفضي إلى معالجات ملحة ومنتظرة. ولهذا كان أن تجذر الفساد بدون أي معالجات ومكافحات، بل وفي ظل تسيب متفق عليه بسبب عدم وجود مصداقية في القرار السياسي أولاً حتى صار الفساد ثقافة وطنية يتم التباهي بها كذلك. **** برأينا أن الجهاز بصفته الأكثر امتداداً في كل مرافق الدولة كان يفترض استفادة الهيئة من كوادره أكثر، ولا مانع من تحويلهم إلى الهيئة بدلاً من تكدسهم في الجهاز أو اعتماد الهيئة على كوادر جديدة غير مدربة، فيما الغريب أن قانونه يحظر تسيس موظفيه أو تحزبهم، إلا أننا نعرف موظفين فيه منخرطين في أحزاب سياسية. في العام 2006م تأسست الهيئة لتكون هي «أعلى هيئة وطنية مستقلة في الجمهورية اليمنية لها صلاحيات قانونية في مكافحة الفساد وتعقب ممارسيه». غير أن عملها لا يعدو كونه فنياً، يعني كذر الرماد في العيون، مجرد دراسات وتقييم وتنسيق وبيانات وتقديم اقتراحات وتمثيل الجمهورية في المحافل. والمضحك بشدة هي الفقرة التالية في قانون إنشائها «اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لاسترداد الأموال والعائدات الناتجة عن جرائم الفساد بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة».. يعني بالله عليكم، هل نتوقع من مجرم فساد أن يعيد ما في ذمته بكل هذه النعومة؟. أما حكاية «التحقيق مع مرتكبي جرائم الفساد وإحالتهم إلى القضاء» فهذا هو المعطل! أو الذي يتم أحياناً دون المستوى اللائق. واضحٌ أن النظام السابق كان يكافئ الفاسدين لأسباب غامضة تراعي أنانيته أصلاً في تنمية مصالحه اللامشروعة عبر تنمية واقع الفساد وليس العكس, مع تدليل ومحاباة وتشجيع شبكته الضاربة في كل مؤسسات الدولة. بل إن الكوادر التي كانت نزيهة وذات صدقية ووطنية عالية تم محاربتها أو إبعادها عمداً وفي سياسة ممنهجة غايتها أن تصير اليمن في جيوب قلة من الأوغاد وزبانيتهم. ثم بسب رئيسي من هذه الإجراءات المشينة في الأساس كان شعور انهيار تدهور الدولة وعدم الثقة بها يتعزز يوماً إثر آخر لدى الشعب المغلوب حتى قيام الثورة. على أنها الصيغة الأقذر التي باركها النظام السابق تفعيلاً لغايته في استغلال السلطة والثراء غير المشروع على حساب مصالح البسطاء وإحباط الأمل الممكن بالإصلاحات، ما جعل حال البلاد يتدهور بشكل مضطرد أمام أعين الجميع. ولقد صارت اليمن بؤرة مثالية خصبة للفساد المالي والإداري المقذع في كل أروقة مؤسسات البلاد؛ فساداً معلناً وغير سري بالطبع، فساداً صفيقاً بمجاهرته وليس لديه أدنى شعور بالخجل، فساداً متبجحاً وغليظ الحس وطنياً، كما لا يهمه مستقبل البلاد المنشود مهما بلغ حجم الكارثة الموشكة. فالثابت أن الفاسدين كانوا هم شبكة النظام السابق في الدولة بحيث كانت تهمه فقط مسألة استقرارهم ليستقر هو بالتالي. لذلك لانزال بحاجة ماسة إلى جدية الرقابة واتباع نهج الشفافية في المحاسبة من أجل الاتعاض وتعزيز الشعب بقيم مرحلة نأمل أنها جديدة ولن تدع للفاسدين استمرار انتشارهم المتسرطن قبل بتره، وبما يحمي المال العام من هذا الاستغلال الهمجي. وإذ لم يقم الجهاز بدور لا هوادة فيه – كما يفترض - هو دور المساءلة، فلقد تساءلنا سابقاً: ما جدوى إنشاء الهيئة للقيام بمهام لم يقم بها الجهاز قبلها كما ينبغي. وإذ قلنا : إن تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ينبغي أن يكون خطوة للوعي بهذه الإشكالية القاصمة، إلا أن الذي اتضح لاحقاً هو العكس، تماماً كما صار حاصلاً اليوم. خلافاً لكل هذا كانت السياسة الفوقية المعتمدة هي التقليل المتعمد من صلاحيات الهيئة والجهاز أصلاً وعدم مواءمة عديد قوانين لتفعيل أدوارهما المأمولة مع تكريس منطق عدم محاكمة الفاسدين وتحصينهم حتى صارت اليمن واحدة من أهم الدول المتقدمة عالمياً في هذا المسار. يقودنا الأمر إلى الاعتراف بافتقاد البلاد إلى الصرامة والجدية في الحد من التمييز بين الناس والرشوات وسطوة المتنفذين والتلاعب بالقوانين والأنظمة والأساليب الملتوية الماحقة لسطوة الدولة التي تتبعها مختلف أذرع الفساد، خصوصاً مع إيمان الجميع بأن الفساد من أهم أسباب هلاك الدولة في اليمن. **** المهم فليفعلها الرئيس عبد ربه وإنا لمنتظرون. ولتكن عضوية هيئة مكافحة الفساد الجديدة هي المدخل. فيما لن يخذل الشعب قائداً جسوراً ومحترماً يريد له الرفعة والحياة؛ فالشعب لم يعد هامد الإحساس بعد كل ما أحدثته الثورة من قيم في العقول والأفئدة وهو يعرف أن نزاهة كوادر الدولة بوابة أولى لليمن الجديد الذي يحلم به. لكن الأهم.. أن تتوفر كل الإرادات العليا الصادقة في المقام الأول. رابط المقال على الفيس بوك