كانت الهيئة العليا لمكافحة الفساد تمشي بخطوات سلحفائية جداً، بينما استمر الفساد يسرع ويقفز كالأرانب. كان الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة يشير الى استفحال الازمة، غير ان لا أحدا يبالي. زاد الطين بلة ان كل من الهيئة والجهاز قد تكللا بالفساد ايضا! تكمن المشكلة السمجة في ان الجميع يعترفون بالفساد حتى الحكومة، إلا أن المؤكد ان الاعتراف وحده لايكفي. وفي هذا الصدد يزداد اعتقادنا في ان المانحين انفسهم بشكل أو بآخر صاروا يساهمون في تعزيز الفساد –ان لم يستفيدوا منه - للأسف. طبعاً طوال 33 عاما - عمر النظام السابق - لم نجد فعلا واحدا معتبرا لتجفيف منابع الفساد ومحاصرته رغم ادعاءاته المتكررة ومزاعمه الخطابية التي مل الناس منها إذ كان يتعامل مع الفساد وقضاياه بخفة ولا مسؤولية. والمفترض كما نتصور ان يتم دمج الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة مع الهيئة العليا لمكافحة الفساد إذ تشكلت الاخيرة –كما نعرف- على اثر ضغوط الداعمين، مع انها حتى الآن لم تؤثر في الحد من عملية الفساد الممنهج الذي تتعرض له مؤسسات الدولة والمال العام. لعلنا نتذكر في هذا السياق ما اقدم عليه قبل ثلاث سنوات من عمل مشّرف ويحمل عديد دلالات الرجل القدير سعد الدين بن طالب الذي كان يترأس قطاع التعاون الدولي بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد حين بادر بتقديم استقالته واصفاً الهيئة بأنها أصبحت بؤرة من بؤر الفساد اساسا، ومؤكداً انها فشلت في أداء مهامها وأهدافها التي أنشئت من أجلها، فإضافة الى تعمد أعضاء الهيئة بتوظيف أبنائهم وأقاربهم في قطاعات الهيئة المختلفة، والامتيازات الكبيرة التي يحصلون عليها، لم تثبت الهيئة مقدرتها على التعامل مع قضايا الفساد الكبيرة وفي مواقع سيادية للأسف، فمابالكم بالقضايا الأخرى كقضايا المنطقة الحرة، حوش الخضار بعدن، أو الفساد في قطاعي الكهرباء والنفط الخ. وهكذا: لكأن الهدف من وراء انشاء هذه الهيئة هو ان تكون محللا لما يتم من عمليات فساد واسعة في أروقة الدولة، أي هيئة للشرعنة - عبر الدعمة والتواطؤ- لأسوأ اجرام يتم بحق اليمن واليمنيين على الإطلاق. وإذن : ليبدأ العمل على مراجعة الصيغة القانونية الجامدة والفضفاضة لعمل الهيئة وصلاحياتها مع انتهاء فترة اعضائها في الشهر المقبل نحو صيغة قانونية جديدة اكثر حيوية ولابيروقراطية حتى ينتج عنها أثر ملموس على الواقع. اما الجهاز الذي أنشئ بعد الوحدة بعامين فقد تعثر مرارا بسبب ارتباطه المباشر بمكتب رئاسة الجمهورية بحيث تحول الى جهاز يعرف بشكل مباشر كل الافسادات التي تتم تحت رعاية عليا فقط، اذا ما امكننا التشبيه، وببساطة أكثر: فإن هذا مالمسناه بالفعل في الذهن الشعبي القادر على الفرز رغم كل شيء والذي لايقبل بتبريرات مكافحة الفساد ورعايته في آن، إلا كونه الحقيقة الوحيدة للنظام. ذلك ان تقارير الجهاز -المعلنة على الاقل والتي كانت تصل للصحافة - كانت مهمشة ولايؤخذ بها لتفضي الى معالجات ملحة ومنتظرة. ولهذا كان ان تجذر الفساد بدون أي معالجات ومكافحات، بل وفي ظل تسيب متفق عليه بسبب عدم وجود مصداقية في القرار السياسي أولاً حتى صار الفساد ثقافة وطنية يتم التباهي بها كذلك. برأينا ان الجهاز بصفته الأكثر امتدادا في كل مرافق الدولة كان يفترض استفادة الهيئة من كوادره أكثر ولامانع من تحويلهم الى الهيئة بدلا من تكدسهم في الجهاز أو اعتماد الهيئة على كوادر جديدة غير مدربة، فيما الغريب ان قانونه يحظر تسيس موظفيه او تحزبهم الا اننا نعرف موظفين فيه منخرطين في احزاب سياسية. في العام 2006م تأسست الهيئة لتكون هي «أعلى هيئة وطنية مستقلة في الجمهورية اليمنية لها صلاحيات قانونية في مكافحة الفساد وتعقب ممارسيه». غير ان عملها لايعدو كونه فنيا، يعني كذر الرماد في العيون، مجرد دراسات وتقييم وتنسيق وبيانات وتقديم اقتراحات وتمثيل الجمهورية في المحافل. والمضحك بشدة هي الفقرة التالية في قانون انشائها «اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لاسترداد الأموال والعائدات الناتجة عن جرائم الفساد بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة».. يعني بالله عليكم، هل نتوقع من مجرم فساد ان يعيد مافي ذمته بكل هذه النعومة؟ أما حكاية «التحقيق مع مرتكبي جرائم الفساد وإحالتهم إلى القضاء» فهذا هو المعطل! أو الذي يتم أحيانا دون المستوى اللائق. واضحٌ أن النظام السابق كان يكافئ الفاسدين لأسباب غامضة تراعي أنانيته أصلاً في تنمية مصالحه اللامشروعة عبر تنمية واقع الفساد وليس العكس مع تدليل ومحاباة وتشجيع شبكته الضاربة في كل مؤسسات الدولة. بل ان الكوادر التي كانت نزيهة وذات صدقية ووطنية عالية تم محاربتها أو ابعادها عمداً وفي سياسة ممنهجة غايتها ان تصير اليمن في جيوب قلة من الاوغاد وزبانيتهم. ثم بسب رئيسي من هذه الاجراءات المشينة في الاساس كان شعور انهيار تدهور الدولة وعدم الثقة بها يتعززيوما اثر آخر لدى الشعب المغلوب حتة قيام الثورة. على انها الصيغة الأقذر التي باركها النظام السابق تفعيلاً لغايته في استغلال السلطة والثراء غير المشروع على حساب مصالح البسطاء واحباط الامل الممكن بالاصلاحات ماجعل حال البلاد يتدهور بشكل مضطرد امام اعين الجميع. ولقد صارت اليمن بؤرة مثالية خصبة للفساد المالي والاداري المقذع في كل أروقة مؤسسات البلاد. فسادا معلنا وغير سري بالطبع. فسادا صفيقا بمجاهرته وليس لديه أدنى شعور بالخجل. فسادا متبجحا وغليظ الحس وطنياً كما لا يهمه مستقبل البلاد المنشود مهما بلغ حجم الكارثة الموشكة. فالثابت ان الفاسدين كانوا هم شبكة النظام السابق في الدولة بحيث كانت تهمه فقط مسألة استقرارهم ليستقر هو بالتالي. لذلك لانزال بحاجة ماسة الى جدية الرقابة واتباع نهج الشفافية في المحاسبة من اجل الاتعاض وتعزيز الشعب بقيم مرحلة نأمل انها جديدة ولن تدع للفاسدين استمرار انتشارهم المتسرطن قبل بتره وبمايحمي المال العام من هذا الاستغلال الهمجي. وإذ لم يقم الجهاز بدور لا هوادة فيه – كما يفترض -هو دور المساءلة، فلقد تساءلنا سابقاً: ماجدوى إنشاء الهيئة للقيام بمهام لم يقم بها الجهاز قبلها كما ينبغي. وإذ قلنا ان تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ينبغي ان يكون خطوة للوعي بهذه الاشكالية القاصمة إلا أن الذي اتضح لاحقا هو العكس، تماماً كما صار حاصلا اليوم. خلافا لكل هذا كانت السياسة الفوقية المعتمدة هي التقليل المتعمد من صلاحيات الهيئة والجهاز أصلاً وعدم موائمة عديد قوانين لتفعيل أدوارهما المأمولة مع تكريس منطق عدم محاكمة الفاسدين وتحصينهم حتى صارت اليمن واحدة من اهم الدول المتقدمة عالميا في هذا المسار. يقودنا الامر الى الاعتراف بافتقاد البلاد حتى الآن الى الصرامة والجدية في الحد من التمييز بين الناس والرشوات وسطوة المتنفذين والتلاعب بالقوانين والانظمة والاساليب الملتوية الماحقة لسطوة الدولة التي تتبعها مختلف أذرع الفساد ؛ خصوصا مع ايمان الجميع بأن الفساد من اهم اسباب هلاك الدولة في اليمن.
**** المهم فليفعلها عبد ربه وانا لمنتظرون. ولن يلعن الشعب قائدا جسورا ومحترماً يريد له الرفعة والحياة. فالشعب لم يعد هامد الاحساس بعد كل ما احدثته الثورة من قيم في العقول والأفئدة وهو يعرف ان نزاهة كوادر الدولة بوابة أولى لليمن الجديد الذي يحلم به. لكن الأهم: أن تتوفر الإرادة العليا الصادقة في المقام الأول.