من صدف التاريخ أن ضابطاً عادياً لم يكن يلفت الأنظار كتب مؤلفاً عسكرياً في حماية المناطق الجبلية ليجد نفسه بعد عقود رئيساً في عاصمة جبلية محاطة بمحاربين تاريخيين وأطماع في الحكم لا حدً لها. الآن يمكن إلقاء نظرة على ذلك الضابط وقد صار معروفاً ب«رئيس الجمهورية المشير عبد ربه منصور هادي: نظرات حادة ومتوجسة تنطلق من عينين غائرتين لعسكري صارم في السابعة والستين فيما هو يؤدي اليمين الدستورية أمام البرلمان رئيساً للبلاد ويقول «أقف هنا في لحظة تاريخية فارقة في عمر اليمن». مغزى تلك اللحظة الفارقة أن صاحبها جاء إلى سدة الرئاسة مدججاً بدعم عالمي غير مسبوق مع تفويض شعبي قاطع ومتخففاً من لوازم الرئاسة السابقة من القبيلة والجيش والغلبة. ولم يفت هادي أن يذكر بذلك عقب أدائه اليمين الدستورية يوم السبت الماضي قائلاً إن «السلطة اليوم صارت مسنودة بشرعية شعبية لا يمكن التشكيك بها او الانتقاص منها». وهي إشارة يمكن لأي طرف فهمها على أنها تعنيه. يبدو الرئيس الذي ينطق المفردات بمشقة فطناً بما يكفي وهو يكرر الحديث عن الشرعية الشعبية ليخطر الجميع أن لا دَين لأحد عنده قد يدعي أحدهم لاحقاً أنه أسداه للرئيس الجديد في بلوغ الرئاسة. يسلط هذا التصرف من هادي الضوء على واحد من أهم عناصر قوته إذ أنه يجيد التموضع على نحو عجيب؛ تموضع يمكنه من اتخاذ مواقف، تبدو من فرط حذرها كبرامج تصدر عن آلة لا تخطىء الحسبة. فخلال عام كامل من الصراع الشعبي والسياسي بين نظام الرئيس المعزول علي عبدالله صالح وأطراف الانتفاضة الشعبية، كان موقع هادي في قلب الصراع بوصفه نائباً للرئيس وأميناً عاماً للمؤتمر الشعبي الحاكم حينذاك. وكان من الطبيعي أن ينخرط فيه إلى أقصى حد غير أنه أبدى صبراً وحذراً عجيبين لم يكن لسياسي غيره أن يلتزمهما في توقيت استثنائي كعام 2011. كان أنصار الانتفاضة يرغبون في أن يعلن هادي التحاقه بها فتسقط عناصر النظام الدستورية حين كان هادي ينوب صالحاً في سلطاته لدى استشفاء الأخير في الخارج جراء الهجوم على قصره الرئاسي في يونيو 2011. وكان النظام بحاجة إلى موقف ذي نبرة زاعقة من هادي كالمواقف التي كانت تصدر عن رجالاته الآخرين لكنه واصل الصمت. على الأقل، فاز المؤتمر الشعبي الحاكم حينها بانحياز صامت من هادي وفازت المعارضة بصمت مماثل من الرجل فلا شايع انتفاضتها ولا سفهها. كما أظهر هادي حذراً شديداً من مقاربة السلطة بنفس القدر من التحفظ الذي طبع مواقفه حيال أحداث الانتفاضة وقمع النظام لها بالقوة المسلحة. وواصل التزام ذلك الحذر حتى بعد تسلمه السلطة رسمياً ليقول خلال حفلة اقامها الرئيس السابق صالح يوم الاثنين الماضي «أتمنى أن أقف بعد عامين في مكان علي عبدالله صالح ويقف الرئيس الجديد في مكاني وكل طرف يودع الثاني وهذه سنة الحياة في التغيير». على هامش الانتفاضة الشعبية، اشتد الصراع بين قوات علي عبدالله صالح وقوات علي محسن صالح فشطرتا العاصمة صنعاء إلى شطرين وفي المنتصف، برز سكن هادي تجسيداً مادياً للتنافس الذي كان يجري بين الطرفين للفوز بموقف صاحبه فضلاً عن الامتحان الصعب الذي مرً به. حين تفجر الصراع الدامي داخل الحزب الاشتراكي اليمني في يناير 1986، كان هادي أحد العسكريين الذين اعتمد عليهم الرئيس علي ناصر محمد لحسم الصراع عسكرياً لصالح جناحه الذي بات يطلق على أنصاره «الزمرة» لكن جناح الرئيس عبدالفتاح إسماعيل ربح الصراع وطرد خصومه الذين نزحوا إلى الشطر الشمالي من البلاد. ولعل ذلك قد زرع في نفس هادي بذور شخصيته العصية على الاستقطاب حتى غدا التجسيد الدقيق للسمات التي يتحلى بها أقطاب السياسية الذين أفرزتهم «الزمرة» كذلك الحذر الشديد والواقعية المتناهية وإبداء مواقف متزنة حيال الأحداث مهما كانت القناعات الداخلية ثم ذلك الانكماش في حال عدم القدرة. لذلك سيبدو كمراقب خارجي يراقب الأحداث الملتهبة طيلة عام كامل حتى وهي تصل إلى بوابة قصره في شارع الستين. وقبلها أمضى 17 عاماً في موقع نائب الرئيس كعابر سبيل اقتنع أن صنعاء محطته الأخيرة، قبل أن يأتيه هذا البعث الدولي والداخلي: بعث إيجابي لقدرات عطلها صالح. ويتعين عليه أن يبرهن لاحقاً أنه بالفعل قائد ذو قدرات كبيرة لا مجرد عسكري محظوظ جاءته الرئاسة في تكرار تاريخي لدور الحاكم الذي يجلبه المتخاصمون إلى صنعاء للإمساك بحكم جرً عليهم الويلات. خلال صراع يناير، كان علي عبدالله صالح يحكم الشطر الشمالي المعروف حينذاك بالجمهورية العربية اليمنية منذ ثماني سنين، خاض جيشه في إحداها (1979) حرباً مع جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عند الحدود الشطرية الجبلية في منطقة قعطبة وتوغل الأخير في مساحة كبيرة من أراضي خصمه بفعل تفوقه في الإعداد القتالي والتسليح الجيد. وظلت خسارة صالح للحرب الشطرية باعثاً على التربص بحكومة الحزب الاشتراكي في الجنوب حتى تفجر الصراع الدموي في 1986 لينزح ناصر مع معسكره المنهزم إلى أراضي الشطر الشمالي في ضيافة صالح الذي لم يكن في الواقع صاحب منة كبيرة على من لاذوا إلى كنف نظامه. فقد أتته الفرصة إلى عقر داره ليؤوي أعداء عدوه ويدخرهم إلى الموعد المناسب. وحتماً سيحين ذلك الموعد بعد سنوات وقد كادت الحاجة إلى دور أصحابه تنتهي. وفي منطقة السوادية بمحافظة البيضاء على مقربة من الحدود الشطرية، أقام صالح معسكراً لقوات علي ناصر.. وإذاعة أيضاً تبث الدعاية ضد حكومة الاشتراكي. أما الساسة الكبار والقادة العسكريون فأقاموا في العاصمة صنعاء بالقرب من صالح وناصر معاً، كان بين هؤلاء عسكري هادئ الطباع ومقل في الحديث يدعى عبد ربه منصور هادي. وفي الجمهورية الاشتراكية جنوباً، صار هادي بعد أن انجلى غبار التناحر الطاحن بين جناحي الحزب مجرد اسم في قائمة الرفاق المطرودين من الحزب والبلاد، لابد أن يسبق اسمه نعت «المدعو» في أي بيان. وبين المكانين، دخل هادي منطقة الظل التي ستغدو منطقته الأثيرة فيما بعد حيث لا شيء يصدر منه يخطف الأضواء باستثناء شخصيته الوقورة الهادئة وأخلاقه اللينة. ثم اندلعت الحرب الأهلية في 1994 لتخرجه مؤقتاً من منطقة الظل إلى الأضواء قبل أن يغدو واحداً من بين أكثر رجالات الحرب المؤثرين. على الأرجح لأنه حصل على فرصة كافية ليعمل في تخصصه العسكري بحكم معرفته بمعسكرات قوات الحزب الاشتراكي في جنوب البلاد. جاءته تلك الفرصة حين عينه الرئيس صالح وزيراً لدفاع قواته التي كانت تستعد لاجتياح مناطق الجنوب فكانت فرصة العمر لهادي: إثبات قدراته العسكرية والانتقام من خصومه. واعتقد كثيرون حينها أن هادي كان مؤثراً في خطط سير القتال لمعرفته بالعقيدة القتالية لقوات الاشتراكي ومعسكراتها الهامة إلى جانب معرفته بأرض المعركة. حتى لقد قيل حينها إنه كان أحد العوامل الحاسمة في إسقاط قاعدة العند العسكرية الضخمة لا سيما أنه كان قد شغل بعد الاستقلال منصب قائد سرية مدرعات في القاعدة التي كان يُنظر إليها على أنها أهم قاعدة إقليمية رعى الاتحاد السوفياتي تسليحها في الشرق الأوسط. لم يكتمل محصول هادي من الحرب بعد، ففي أكتوبر من سنة الحرب نفسها سيصدر الرئيس صالح قراراً بتعيينه نائباً له في رئاسة الجمهورية. لكن بقدر ما كان هذا القرار ترقية شاسعة فقد تعين على الرجل أن يؤوب بموجبه إلى منطقة الظل مشفوعاً برتبة فريق في 1997 إذ لا إنابة لصالح في سلطاته المفصلة وفقاً لمزاجه. لزم هادي منطقة الظل المرسومة له وأبقى مطامحه عند حدودها الدنيا التي لم تتجاوز إقامة وادعة في قصره المقتطعة مساحته من هضبة صغيرة تتربع عليها كلية لسلاح الجو في مصادفة أخرى أبقته على اتصال بحياته العسكرية الغنية بالأحداث. لكن ربما حدثته نفسه بلعب دور بعد طول كساد داخل قصره المفتوح على صخب المركبات المنطلقة بسرعة فائقة في شارع الستين الواسع فأسهم بدور غير معروف إلى الآن في ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية الذي تأسس أواخر عام 2000 وأثار حفيظة السلطات النظامية العليا. كان في مقدمة المستائين من تأسيس الملتقى الرئيس صالح الذي حذر نائبه ضمنياً من مطاولة الأحلام الكبيرة في خطاب بعد أيام قليلة من إشهار الملتقى، انتقد فيه استخدام الورقة المناطقية و«ادعاء الوصاية على المحافظات الشرقية والجنوبية». ولم يكتفِ صالح بتحذير شفهي بل رنا إلى تحذير عملي فطار إلى الإمارات العربية المتحدة مطلع 2002 ليرجع إلى صنعاء مصطحباً معه سالم صالح محمد: القيادي القوي في حكومة الاشتراكي سابقاً والمعادل المناطقي والحزبي لهادي، وكانت الإشارة بسيطة وواضحة للأخير فحواها أن بديلاً جاهزاً لشغل موقع النائب ما لم يجرِ التخلص من التطلعات الفائضة عن السقف المسموح. بيد أن صالحاً الخبير في شق المؤتلف والاستثمار في العداوات كان يقدر قيمة هادي بدلالاتها التاريخية لدى مواطني الجنوب، ففي ذروة احتجاجاتهم عام 2009 ضد دولة ما بعد حرب 1994 ، لم يجد الأول أفضل من أن يبعث إلى المنتفضين ضده سفيراً من أنفسهم، يشير إيفاده حتماً إلى صراع 86 وحرب 94. فبعث هادياً إلى مدن الجنوب مثل مقذوف ناري تحذيري. قال هادي كلاماً كثيراً في تحذير قادة الحركة الاحتجاجية الجنوبية من بينه أن «للصبر حدوداً» ثم واصل إنابة الرئيس في وظائفه التي انحصرت طوال شغله لمنصب النائب في تهيئة المدن للاحتفالات الوطنية وتنظيم زيارات إلى مناطق حال انشغال الرئيس. على طريقة تسميته نائباً لرئيس الجمهورية دون قرار جمهوري في فترة صالح الرئاسية الأخيرة انتخبت اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام هادي أميناً عاماً في نوفمبر 2008. لكن مع هذا الموقع الحزبي الكبير لا أحد يحتفظ بشيء في ذاكرته عن عبد ربه القائد الحزبي. إذ كلما يُذكر، يقفز الذهن مباشرة إلى النائب الذي خلع البزة العسكرية وداوم على بذلات الأرماني الأنيقة. في المجمل، بين تلك المحطات وفبراير 2011 صار هادي رئيساً وورث تركة باهظة وعبئاً هائلاً.ولم يشأ الرئيس السابق أن يسلم التركة بالصورة التي أوصلها إليها، فدعا إلى حفلة قدم فيها تركته مغشوشة. قال علي عبدالله صالح وهو يقدم فقرات الحفل كمقدم إذاعي بصوت ضعيف، لو لم يرَ السامع صاحبه لظن أنه يخرج من حنجرة عجوز على مشارف التسعين «أسلم علم الثورة والجمهورية والحرية والأمن والاستقرار إلى يد آمنة وهو الزميل فخامة الرئيس عبد ربه منصور هادي». لقد فعلها وهو يغادر.