مثل جنرال قديم خدم في المخابرات الباكستانية ثم خلد للتأمل وارتداء نظارة شمسية غامقة، يوالي الفريق عبدربه منصور هادي بتسريحة شعره المنسدل إلى الخلف وصلعته اللامعة قضاء أيامه الوادعة في الوقت الذي تتجه إليه الأنظار منذ نقل الرئيس علي عبدالله صالح إلى العاصمة السعودية لتلقي العلاج جراء إصابته البالغة مع عدد من أركان حكمه في هجوم معقد استهدف مسجداً ملحقاً بالقصر الرئاسي. يعول فريقان على هادي صاحب السيرة العسكرية الممتدة لأربعة عقود فأنصار الثورة رأوا فيه عامل توافق لتسلم السلطة وقيادة الفترة الانتقالية فيما يراه رجالات الحكم الرجل الملائم للاحتفاظ بوديعة السلطة حتى عودة صالح من رحلته العلاجية واستئناف الحكم. غير أن مواقف هادي منذ تفويضه بمزاولة مهام رئيس الجمهورية ترجح أن فريق الحكم هو الأقرب للفوز بمواقفه وإحباط آمال المعارضة والمحتجين بتحفيزه على الإمساك بالسلطة والبدء في قيادة مرحلة انتقالية تسدل الستار على عهد صالح. هادي نفسه يبدو غارقاً في الحيرة وعاجزاً عن اتخاذ قرار حاسم في صالح أي من الأطراف التي تتناوشه سواء عائلة صالح ورجالاته الذين يأملون منه اقتفاء مسلك الرئيس الجريح في العناد والقبض على السلطة أو المعارضة التي تتطلع إلى اختراق جدار الوضع المعقد، فضلاً عن المحتجين الذين يخيرونه بين أن يكون رجل المرحلة ويوصل انتفاضتهم إلى سدة القرار أو التنحي عن سبيلهم ليمكنوا من تشكيل حكومة انتقالية. والثابت أن حملاً ثقيلاً قد القي على عاتق العسكري صاحب المنهج الصارم في التقيد بالأوامر والأدوار المرسومة له، ذلك أن سيرته الغنية بالتحولات تفصح أنه رجل لا ينتمي إلى أهل الصف الأول في القيادة وهو ما يجعل مهام الرئاسة وقيادة البلاد عبئاً حقيقياً عليه. تقول سيرة هادي إنه قيادي من الصف الثاني بامتياز وخير من ينفذ المهام والأوامر الموكلة إليه مع حيز معقول يظهر فيه مهاراته الذاتية خصوصاً في التخطيط والقيادة العسكريين. فخلال تفجر الصراع الرهيب داخل الحزب الاشتراكي اليمني في يناير 1986، كان هادي أحد العسكريين البارزين الذين اعتمد عليهم الرئيس علي ناصر محمد لحسم الصراع عسكرياً لصالح جناحه الذي بات يطلق على أنصاره "الزمرة" لكن جناح الرئيس عبدالفتاح إسماعيل ربح الصراع وطرد خصومه الذين نزحوا إلى الشطر الشمالي من البلاد. كان علي عبدالله صالح يحكم الشطر الشمالي المعروف حينذاك بالجمهورية العربية اليمنية منذ ثماني سنين، خاض جيشه في إحداها (1979) حرباً مع جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عند الحدود الشطرية الجبلية في منطقة قعطبة وتوغل الأخير في مساحة كبيرة من أراضي خصمه بفعل تفوقه في الإعداد القتالي والتسليح الجيد. وظلت خسارة صالح للحرب الشطرية باعثاً على التربص بحكومة الحزب الاشتراكي في الجنوب حتى تفجر الصراع الدموي في 1986 لينزح ناصر مع معسكره المنهزم إلى أراضي الشطر الشمالي في ضيافة صالح الذي لم يكن في الواقع صاحب منة كبيرة على من اجتازوا حدود شطره . لقد أتته الفرصة إلى عقر داره ليؤوي أعداء عدوه ويدخرهم إلى الموعد المناسب. وحتماً سيحين ذلك الموعد بعد سنوات وقد كادت الحاجة إلى دور أعداء عدو صالح تنتهي. في منطقة السوادية بمحافظة البيضاء وعلى مقربة من الحدود الشطرية، أقام صالح معسكراً لقوات علي ناصر.. وإذاعة أيضاً تبث الدعاية ضد حكومة الاشتراكي. أما الساسة الكبار والقادة العسكريون فأقاموا في العاصمة صنعاء بالقرب من صالح وناصر معاً، كان بين هؤلاء عسكري هادئ الطباع ومقل في الحديث يدعى عبدربه منصور هادي. وفي الجمهورية الاشتراكية جنوباً، صار هادي بعد أن انجلى غبار التناحر الطاحن بين جناحي الحزب مجرد اسم في قائمة الرفاق المطرودين من الحزب والبلاد، لابد أن يسبق اسمه نعت "المدعو" في أي بيان. وبين المكانين، دخل هادي منطقة الظل التي ستغدو منطقته الأثيرة فيما بعد حيث لا شيء يصدر منه يخطف الأضواء باستثناء شخصيته المتزنة وأخلاقه الدمثة في تعاملاته الشخصية والعملية فضلاً عن إخلاصه لإنجاز ما يُعهد إليه من مهام. كأن الرجل كان بحاجة إلى حرب ضارية في 1994 لتخرجه مؤقتاً من منطقة الظل إلى الأضواء لكنه غدا واحداً من بين أكثر رجالات الحرب المؤثرين. على الأرجح لأنه حصل على فرصة كافية ليعمل في تخصصه العسكري بحكم معرفته بمعسكرات قوات الحزب الاشتراكي في جنوب البلاد وليبرع كعادته في العمل ضمن الصف الثاني تحت إمرة قيادة أعلى منه. جاءته تلك الفرصة خلال احتدام الحرب الأهلية حين عينه الرئيس صالح وزيراً لدفاع قواته التي كانت تستعد لاجتياح مناطق الجنوب فكانت فرصة العمر لهادي: إثبات قدراته العسكرية والانتقام من خصومه. واعتقد كثيرون حينها أن هادي كان مؤثراً في خطط سير القتال لمعرفته بالعقيدة القتالية لقوات الاشتراكي ومعسكراتها الهامة إلى جانب معرفته بأرض المعركة. حتى لقد قيل حينها إنه كان أحد العوامل الحاسمة في إسقاط قاعدة العند العسكرية الضخمة لا سيما أنه كان قد شغل بعد الاستقلال منصب قائد سرية مدرعات في القاعدة التي كان يُنظر إليها على أنها أهم قاعدة إقليمية رعى الاتحاد السوفياتي تسليحها في الشرق الأوسط. وعلاوة على ذلك، صار الشاب القادم من مديرية الوضيع النائية بأبين نائباً لرئيس الأركان في 1983وترأس لجنة التفاوض في صفقات التسليح مع الجانب السوفياتي وتكوين الألوية العسكرية. كل ذلك لا بد أنه منحه أفضلية لقيادة الحرب على قوات الحزب الاشتراكي في محافظات الجنوب. لم يكتمل محصول هادي من الحرب بعد، ففي أكتوبر من عام الحرب نفسه سيصدر الرئيس صالح قراراً بتعيينه نائباً له في رئاسة الجمهورية. لكن بقدر ما كان هذا القرار ترقية شاسعة فقد تعين على الرجل أن يؤوب بموجبه إلى منطقة الظل مشفوعاً برتبة فريق في 1997 إذ لا إنابة لصالح في مهامه التي كان ممسكاً بها بقبضة حديدية. لزم هادي منطقة الظل المرسومة له وأبقى مطامحه عند حدودها الدنيا التي لم تتجاوز إقامة وادعة في قصره المقتطعة مساحته من هضبة صغيرة تتربع عليها كلية لسلاح الجو في مصادفة ربما ظلت تذكره على الدوام بحياته العسكرية الغنية بالأحداث. لكن ربما حدثته نفسه بلعب دور بعد طول كساد داخل قصره المفتوح على صخب المركبات المنطلقة بسرعة فائقة في شارع الستين الواسع فأسهم بدور غير معروف إلى الآن في ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية الذي تأسس أواخر عام 2000 وأثار حفيظة السلطات النظامية العليا. كان في مقدمة المستائين من تأسيس الملتقى الرئيس صالح الذي حذر نائبه ضمنياً من مطاولة الأحلام الكبيرة في خطاب بعد أيام قليلة من إشهار الملتقى، انتقد فيه استخدام الورقة المناطقية و"ادعاء الوصاية على المحافظات الشرقية والجنوبية". ولم يكتفِ صالح بتحذير شفهي بل قدًر أنه بحاجة إلى تحذير عملي فطار إلى الإمارات العربية المتحدة مطلع 2002 ليرجع إلى صنعاء مصطحباً معه سالم صالح محمد، القيادي القوي في حكومة الاشتراكي سابقاً والمعادل المناطقي والحزبي لهادي، وكانت الإشارة بسيطة وواضحة للأخير مفادها أن بديلاً جاهزاً لشغل موقع النائب ما لم يجرِ التخلص من التطلعات الفائضة عن السقف المسموح. لكن صالح الخبير في شق المؤتلف والاستثمار في العداوات كان يقدر قيمة هادي الجنوبية في هذا الموطن، ففي ذروة احتجاجات مواطني الجنوب ضد نظام صالح عام 2009، لم يجد الأخير أفضل من أن يبعث إلى المنتفضين ضده سفيراً من أنفسهم، يشير إيفاده حتماً إلى صراع 86 و حرب 94. فبعث هادي إلى مدن الجنوب مثل مقذوف ناري تحذيري. قال هادي كلاماً كثيراً في تحذير قادة الحركة الاحتجاجية الجنوبية من بينه أن "للصبر حدوداً" ثم واصل إنابة الرئيس في وظائفه التي انحصرت طوال شغله لمنصب النائب في تهيئة المدن للاحتفالات الوطنية وتنظيم زيارات إلى مناطق حال انشغال الرئيس. خلال أحد أعياد الفطر المتأخرة، زار نزلاء المستشفيات الحكومية في مدينة عدن وأعطاهم نقوداً داخل مظاريف بيضاء. كان ودوداً معهم ويستطيع إدخال السرور إلى نفوس البائسين أكثر من الرئيس. على طريقة تسميته نائباً لرئيس الجمهورية دون قرار جمهوري في فترة صالح الرئاسية الأخيرة انتخبت اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام أميناً عاماً في نوفمبر 2008. لكن مع هذا الموقع الحزبي الكبير لا أحد يحتفظ بشيء في بذاكرته عن عبدربه القائد الحزبي. إذ كلما يُذكر، يقفز الذهن مباشرة إلى الجنرال الذي خلع البزة العسكرية وداوم على بذلات الأرماني الأنيقة. بل كم شخصاً يعرف أن هادي أميناً عاماً لأكبر الأحزاب بحسبة الأرقام. واضح أن السياسة عند الرجل جزئية مهملة وخلع ردائها عليه إرهاق له أكثر من ترقيته وهو الأمر الذي ينسحب على تقليده منصب إنابة رئيس الجمهورية ثم نقل الحكم كله إليه. بالرغم من ذلك، يبدو الجنرال الستيني بحاجة إلى مزيد من المحفزات والضمانات ليغادر منطقة الظل إلى قيادة البلاد في أشد مراحلها تعقيداً، ويقلب التوقعات المفرطة عن الجنرال غير الطموح، بيد أن عليه تقدير المحفزات المنهالة عليه من شبان الثورة والمعارضة والعواصم الكبرى. من حيث لا يدري هادي، فهو الآن كلمة السر لانتفاضة شعبية ونظام حكم هرم وبلاد يعصف بها الانقسام وعليه أن يختار أي طرف ليفتح له طريق العبور قدماً.