تعز.. الاعلان عن ضبط متهمين باغتيال المشهري دون الكشف عن اسماؤهم بالتزامن مع دعوات لتظاهرة حاشدة    تعز.. الاعلان عن ضبط متهمين باغتيال المشهري دون الكشف عن اسماؤهم بالتزامن مع دعوات لتظاهرة حاشدة    لقاء أمريكي قطري وسط أنباء عن مقترح أميركي حول غزة    منتخب اليمن للناشئين يفتتح مشواره الخليجي أمام قطر في الدوحة    المنتصر يبارك تتويج شعب حضرموت بكأس الجمهورية لكرة السلة    السعودية تعلن عن دعم اقتصادي تنموي لليمن    شرطة تعز تعلن القبض على ثلاثة متورطين في جريمة اغتيال أفتهان المشهري    عطوان يصف تهديدات كاتس بالهذيان! ويتحدا ارسال دبابة واحدة الى صنعاء؟    تنفيذية انتقالي كرش تناقش الأوضاع المعيشية والأمنية بالمديرية    صنعاء.. البنك المركزي يعيد التعامل مع شبكة تحويل أموال وكيانين مصرفيين    مساء الغد.. المنتخب الوطني للناشئين يواجه قطر في كأس الخليج    صلاح يتقدم على سلم ترتيب أفضل صانعي الأهداف في تاريخ البريميرليغ    شباب المعافر سطروا تاريخهم بقلم من ذهب..    مستشفى الثورة في الحديدة يدشن مخيماً طبياً مجانياً للأطفال    توزيع 25 ألف وجبة غذائية للفقراء في مديرية الوحدة    تعز بين الدم والقمامة.. غضب شعبي يتصاعد ضد "العليمي"    انتقالي العاصمة عدن ينظم ورشة عمل عن مهارات الخدمة الاجتماعية والصحية بالمدارس    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    رئيس الإصلاح: لمسنا في تهاني ذكرى التأسيس دفء العلاقة مع القوى الوطنية    عبدالله العليمي: الدعم السعودي الجديد للاقتصاد اليمني امتداد لمواقف المملكة الأصيلة    ضرورة مناصفة الانتقالي في اللجنة القانونية: لتأمين حقوق الجنوب    عرض كشفي مهيب في صنعاء بثورة 21 سبتمبر    فعالية لأمن محافظة ذمار بالعيد أل11 لثورة 21 من سبتمبر    "العفو الدولية": "الفيتو" الأمريكي السادس ضد غزة ضوء أخضر لاستمرار الإبادة    قذائف مبابي وميليتاو تعبر بريال مدريد فخ إسبانيول    تعز.. خسائر فادحة يتسبب بها حريق الحوبان    الشيخ عبدالملك داوود.. سيرة حب ومسيرة عطاء    بمشاركة 46 دار للنشر ومكتبة.. انطلاق فعاليات معرض شبوة للكتاب 2025    الأرصاد يتوقع هطول أمطار رعدية على أجزاء من 6 محافظات    وزير الخدمة يرأس اجتماعا للجان دمج وتحديث الهياكل التنظيمية لوحدات الخدمة العامة    هولوكست القرن 21    وفاة 4 من أسرة واحدة في حادث مروع بالجوف    0محمد اليدومي والإصلاح.. الوجه اليمني لانتهازية الإخوان    بورصة مسقط تستأنف صعودها    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    إب.. وفاة طفلين وإصابة 8 آخرين اختناقا جراء استنشاقهم أول أكسيد الكربون    بسبب الفوضى: تهريب نفط حضرموت إلى المهرة    البرازيل تنضم لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    الرشيد يصل نهائي بيسان ، بعد الفوز على الاهلي بهدف نظيف، وسط زخم جماهيري وحضور شعبي الاول من نوعة منذ انطلاق البطولة    بن حبريش: نصف أمّي يحصل على بكلاريوس شريعة وقانون    المركز الثقافي بالقاهرة يشهد توقيع " التعايش الإنساني ..الواقع والمأمون"    أين ذهبت السيولة إذا لم تصل الى الشعب    الربيزي يُعزي في وفاة المناضل أديب العيسي    محافظة الجوف: نهضة زراعية غير مسبوقة بفضل ثورة ال 21 من سبتمبر    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    الصمت شراكة في إثم الدم    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    موت يا حمار    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين جامع الصالح وتعويذة القذافي (1)
نشر في المصدر يوم 25 - 03 - 2012


بدلاً من سيناريو القذاذفة
يستطيع الرئيس السابق علي صالح التقاط الخيط الأخير من فرصة النجاة برأسه، وإنجاد أنجاله وأنجال شقيقه وابناء العموم وحاشية الأقارب والبطانة, والقابض على محفظته الاستثمارية في الخارج، وغيره من القابضين على المال المنهوب في الداخل والخارج.
وبميسور المخلوع تحاشي الانزلاق إلى حفرة الهلاك على شاكلة (صدام) أو إلى ثقب اسود لافكاك منه، أو جوف ماسورة صرف صحي على شاكلة زميله المخلوع معمر القذافي الذي لازالت صورته الذاهلة، الدامية ترسم شكل المأساة بألوان دامية كالحة، مضطرمة وتجسم ملامح لعنة الخراب الممتد, والضارب في ليبيا, بعد انقصاف عنق الطاغية على يد شاب يتيم (18عاماً) لعب دور البطولة في تلك الأشرطة المرئية التي سجلت نهاية القذافي في ثلاث دقائق, ورأى العالم من خلالها العقيد الهالك ينال جزاءاً من جنس عمله, إذ لم يكن في الوقت متسع لتعقل مترتبات أمر وقوعه في قبضة من كان يصفهم ب"الجردان" وانتوى سحقهم ومحقهم دون رحمه على نحو ما كان يفعل بالليبيين من يوم انقلابه في "الفاتح" من سبتمبر 1969.
بمقدور صالح المتورط في عدم تصديق ثورات "الربيع العربي" والتفاعلات والتداعيات البركانية الناجمة عنها أن يكون (حكيماً), ويرحل الى اثيوبيا على اول طائرة ليقيم في ضواحي اديس ابابا، وينتجع في المزرعة المحيطة بالفيلا التي تجهزت لاستضافته، وسوف يتحاشى بذلك المصير الاسود لزميله صريع جنون العظمة والحكم وعربدة الفساد والاستبداد والخبل والعته والسيالات الذهنية: معمر القذافي.
ذلك انه مازال الأفق يخفق بفرصة متاحة لإنجاد الأنجال وبقية أفراد الأسرة الذين يحتمون بمراكزهم العسكرية اعتباراً بما صار لسيف الإسلام القذافي وخميس والمعتصم وغيرهم من أنجال وحاشية القذافي الذين لم تنفعهم "الكتائب" المدججة بأحدث أسلحة الإبادة والدمار التي اعتمد عليها القذافي وأنجاله، وراهنوا عليها إلى أقصى حد كما راهنوا على السحرة والرقي والتعاويذ، وانفقوا الملايين على السحرة المستجلبين من مختلف اصقاع افريقيا، حيث كانت الشعوذة هي الملاذ الأخير للطاغية الذي كان يخفي تعويذة في طيات ملابسه لتحميه من الوقوع في قبضة الثوار، وقد عثر عليها يوم وقع اسيراً في 20 أكتوبر 2011 وكانت من علامات الخاتمة وإشاراتها الفارقة.
يستطيع المخلوع صالح أن يمارس الاختلاف مع قرينه وزميله، ويقلب الطاولة على قواعد السيناريو التي رسم المقطع الأخير من سيرة (ملك ملوك افريقيا)، وعميد الرؤساء العرب، لينفذ برأسه بدلاً من توعد "ثورات الربيع العربي" بفتح الملفات والاحتماء بمحراب "جامع الصالح".

مجنون الكرسي
يذكر الخبراء المختصون بسيرة القذافي انه في الأيام الأولى من استيلائه الانقلابي على السلطة كان يهدد بالاستقالة من الرئاسة بعد كل وجبة طعام يتناولها، ويشدد على زهده بالسلطة، وقد انخدع به كثيرون إلى أن تكشف أمره كمجنون في عبادة الكرسي.
ويقولون بأن المهمات الأولى التي باشرها تمثلت في قَبْيلَه وبدْونَه البلاد، وفي إزاحة وإقصاء المنافسين المرشحين والمحتملين والمشتبه بهم، وقد قام بتشكيل فرق خاصة لملاحقتهم وأرسل من يقتل المعارضين في الخارج، واستأجر عصابات المافيا لقتلهم وخطفهم وإخفائهم في الزنازين، علاوة على قيامه بتمويل وتسليح الإرهابيين واستضافتهم في ليبيا.
ومن الوهلة الأولى تفتحت عيون "العقيد" على التجار والتجارة، وكان مصير التاجر الذي لا يخضع لأوامره ونزواته الطمس والمحو من الخارطة، بعد اتهامه بالتجاور, والانحراف: "القانون تحت نظام القذافي يكاد يكون معادلاً لما هو ليس قانوناً".
وفي موازاة الانقضاض على التجارة والتجار كان يقوض الطبقة الوسطى بمنهجية ومثابرة وبدرجة عالية من العته والشره والعناد الإجرامي، وبما لا يمكن إخضاعه لأي منطق، أو مقياس عقلي.
كان يحكم بالرشوة وشراء الذمم والابتزاز والخوف والرعب والقتل، ويفتقر إلى أي شرعية اخرى، وقد استحوذ على الريع النفطي لنفسه، وكانت الثروة النفطية احتكاراً كاملاً له ولأسرته وبطانته وأجهزة قمعه،وقد استخدمها ليبقى حاكماً لأربعة عقود ونيف، ورتب نفسه على توريث الحكم لابنه، وصناعة عائلة حاكمه يتوارث فيها الابناء الحكم عن الآباء إلى ابد الدهر.
وضمن هذا الترتيب صارت كتائب الجيش الرسمي في قبضة ابنائه ووزعها بينهم حسب أولوياته، وصار الأنجال يقودون "كتائب القذافي" وينهضون بمهمة الانتقام من الشعب الليبي وقتله.
وكما تقاسم أنجال "العقيد" الكتائب فقد تقاسموا مجالات الاستثمار والتجارة والشركات والمؤسسات الايرادية والتوكيلات والمقاولات والأندية الرياضية.
ويتذكر المتابعون لسيرته انه في البدء كان يلاحق وينقض على "الكبار" من القياديين والاداريين وذوي المكانة الذين لا يستجيبون لنزواته ويعترضون على استهتاره بالقانون وقواعد العلم الاداري.
كان يتقصد إذلال الكبار عملاً بالقاعدة الميكافيلية الانتهازية التي تنصح بإذلال كبار القوم والمقام لتتم له السيادة والسيطرة على عامة الناس, خاصة انه جاء من بيئة فقيرة، متواضعة، وعانى الأمرين من المهانة والحرمان في طفولته وصباه، كما كان محدود التعليم و"ابتدائي" إلى أقصى الحدود.
ذلك بعض ما يفسر تطبيقه لقاعدة ميكافيلي بكثير من العنف المتطرف والدموية والإجرام إلى حد ان كثيراً ممن تعرضوا لهذه المهانة كانوا يموتون كمداً وقهراً ويصابون بالجلطة والسكتة القلبية.
وبانقضاضه على الطبقة الوسطى والتجار ورجال الاعمال فوت على البلاد كل فرصة تصنيع أو تحديث.

أنا أكره المدن والبحر
ما سبق لم يكن يحدث بمعزل عن كراهية "العقيد" لمدينة طرابلس وقد اعلن انه يكره المدن من أول يوم لمجيئه إلى الحكم، وكانت طرابلس هدفاً لعدوانه،وتفلت غرائزه البدوية، وفضاء لتنفيذ سيالاته الذهنية المريضة التي لا تعرف إلا الهدم والتخريب وتشويه معالم الجمال، ونشر القبح وارتكاب المباذل.
ومن اليوم الأول أطلق شعاره الحقير وهو شعار "الخيمة تنتصر على القصر" معلناً حرباً تستهدف تصحير المجتمع الليبي وتجريفه من المدينة والسياسة، ومن كل ما تراكم عبر تاريخ طرابلس المدينة وفوق أرضها من رقائق حضارية وزخم حضاري، ومن مكتسبات حضارية ومعمارية ساهمت في بنائها وتشييدها روافد من الشرق والغرب، وحملت بصمات التاريخ الليبي من قبل الميلاد.
ويذكر الروائي الليبي احمد ابراهيم الفقيه ان "القذافي" أمعن في اهانة طرابلس في لحظة باكره عندما قال في تحقيق صحفي مع جريدة البلاغ في بداية عهده الانقلابي انه يكره البحر.
المعلوم ان طرابلس قبل انقلاب "الفاتح" من سبتمبر كانت منتجعاً جميلاً على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ومركزا من مراكز الثقافة والحضارة والتجارة وفيها واحد من أجمل شواطئ المتوسط ظل على مدى التاريخ محجاً للسواح. ولها كورنيش تغنى بجماله الشعراء, وتفنن النبوغ الايطالي في جعله يضاهي شواطئ المدن الشمالية، ولذلك كان قرار هذا الحاكم المعبأ بالحقد والقبح والذوق الفاسد الذميم إلغاء هذا الشاطئ والحكم بالإعدام على الكورنيش وطرد البحر من طرابلس إلى اقصى مدى يصل إليه عقله المريض، وأعلن في البداية انه سيبني سوراً يحجب البحر، وحين قوبل بالاستنكار،بحث عن مهندس يضع له خريطة لأغرب واقبح جامع في التاريخ –حسب الفقيه- والى جانب ذلك أصر على إنشاء ميناء في طرابلس لحجب البحر رغم أن الشاطئ الليبي يمتد لمسافة ألفي كيلو متر، وبالتلازم عبأ الكورنيش بالحواجز والآلات ومواد البناء التي جلبتها الشركات الأجنبية التي تعهدت بتنفيذ إرادة الحاكم، وذات يوم فوجئ الناس باختفاء شاطئ طرابلس بل والبحر نفسه اختفى، ونجح الحاكم في إزالته من مكانه بعد أن انفق مليارات الدولارات من دخل البلاد في رصف البحر في محاولة يائسة لفك الارتباط بين طرابلس والبحر ونفيه بأسماكه وأمواجه بعيداً عن المدنية التي ارتبطت به منذ فجر تاريخها.
ثم عمد هذا الحاكم إلى هدم معالم المدينة الأثرية والحضارية والمعمارية ابتداء من مركزها ومصب ومنبع شوارعها "ميدان الشهداء" مروراً بالأضرحة والمساجد، والمكتبات التي تستوعب التراث الحضاري والفكري للمدينة، ولم يسلم منه حتى تمثال الإمبراطور الروماني ذي المنشأ والأصل الليبي سيبتموس سيفيروس الذي كان يرى فيه منافساً ومزاحماً فأزاله من مكانه في ميدان الشهداء، لان المكان، في ظنه، لا يتسع له وللإمبراطور القديم/ في نفس الوقت.
ولم ينقطع عن تدمير ذاكرة طرابلس وهدم تاريخها حتى أخر أيامه، وقد عمد الى هدم سلسله من الفنادق المتميزة بجمالها المعماري، والذي كان الناس يزورون طرابلس خصيصاً لتناول الطعام فيها، مثل فندق المهاري الذي كان جزءاَ منه غاطسا في البحر بحيث ترى الأسماك من خلال جدار زجاجي وهي تعوم في الأعماق، وطاولت عمليات الهدم فنادق كانت تنافس أخطر وأشهر فنادق العالم وكانت مقصد الزيارة نجوم السينما والرياضة في العالم.
ولما كانت طرابلس، قبل العهد الانقلابي، تتمتع بعدد من دور العرض المسرحي والسينمائي (30 دار) وتحتضن مسرح الغزالة الشهير، وغيره من دور العرض المسرحي ومراكز العرض والفنون التشكيلية، فأن تلك المراكز كلها لم تسلم من الحاكم هادم اللذات ومفرق الجماعات، وميتم المسرحيين والمسرحيات والفنانين والفنانات، فهو لم يحارب الفن فقط بل حجب الميزانيات عن إدارات السينما والمسرح والموسيقى، ثم أطلق عليها البلدوزرات ومعاول الهدم حتى احرم طرابلس من معالمها الفنية وحرم أهاليها من أماكن الترويج والتسلية، وصادر المجمعات الترفيهية والمتنفسات وقام بهدم المدينة القديمة رغم علمه بأنها وعاء حضاري لكل البشرية، ولها معالم ومناطق أثرية محمية من قبل اليونسكو نفسها.
وفي حادث مرعب، تميز بالعته والجنون والإجرام أمر أجهزة الهدم والحرق بإزالة مبنى بلدية طرابلس العريق، والمباني والمراكز التي تحتوي مخطوطات وأرشيف المدينة، كما أمر بطرد الغابات وحرقها استجابة لرغبة سيكوباثية تسكن أعماقه، وحدث ذلك في ليل حيث أمر بإتلاف الغابات المحيطة بطرابلس وتحويلها إلى ارض للبناء بعد أن كانت تلك الغابات محمية من خلال هيئة خاصة بحراستها.
حدث ذلك بعد أن وقف بالمرصاد لمشروع المكتبة العامة والأوبرا، واصدر فرماناً بمنع بناء شرفات للشقق التي تطل على البحر، واصدر فرماناً بمنع بناء شرفات للشقق التي تطل على البحر، بحجة أن البحر هو المكان الذي جاء منه الغزاة!
وبالتوازي مع الإجهاز على الأماكن والمساحات الحاضنة للإبداع قام بإنشاء جهاز أمن لمكافحة النجومية، ومحاربة أي إنسان ينافسه في الاهتمام الإعلامي، الذي بقي حكراً عليه وحده، ليشبع عطشه المرضي للسلطة ويحصل على التعويض المرضي عن اهتمام وحنان ورعاية افتقدها في سن الطفولة، ويردم الفجوة الناشئة عن محدودية تعليمه عبر هذا الجنون بالحكم وهوس الوصول إلى السلطة من أي سبيل، ولم يكن لديه مانع من التوسل إلى ذلك بأي وسيلة.
وفي العموم اختطف "العقيد" البلاد وأهلها.
نجم واحد ووحيد:
ما كان يخطر على بال احد أن (العقيد) سيأمر بإنشاء جهاز لمكافحة النجومية، وما كان من الوارد التصديق بهذا الأمر إلا بعد اندلاع شرارة ثورة 17 فبراير 2011.
وقد أصبح وجود الجهاز المذكور معروفاً بعد أن بدأ نظام القذافي يتصدع وينهار شرق البلاد، وكشف عنه الثوار في بنغازي أولا وبعد ذلك في طرابلس، والواضح أن فكرة إنشاء هكذا جهاز جاءت لتجسد مبدأ: "لا نجومية في المجتمع الجماهيري". وتعرض نجوم الغناء والرياضة والمسرح والأدب للتنكيل والملاحقة والسحل والتشريد، وتحول صاحب أحلى حنجرة غنائية إلى مؤذن في جامع، واضطر أشهر مطرب إلى العمل كسائق شاحنة، ومات الفنان خالد سعيد الذي كان الليبيون يعتبرونه صنو عبدالحليم حافظ وحيداً في غرفة مهملة وعثر عليه فيها بعد ثلاثة أيام من وفاته، ومات الأب الروحي للفن الحديث بمرض خبيث دون أن يجد من يعتني بعلاجه، واعتقل أشهر مؤلف للاغاني مسعود القبلاوني في سرداب مظلم تحت الأرض لسنوات دون أية تهمة، ولوحق الرسام الساخر الراحل محمد الزواوي إلى تونس وزجت به السلطات التونسية في السجن بناء على وشاية من الأمن الليبي بأنه يهدد الأمن التونسي، وأعدت قوائم ملاحقة الفنانين والروائيين والشعراء في الداخل والخارج، وصدرت أوامر بمنع إذاعة أسماء نجوم الرياضة، وطاولت جرائم التصفية الجسدية الرياضيين، بل وجماهير المتفرجين في الملاعب.
بهذا الصدد يذكر انه في 30 يناير 1989حضر إلى المدينة الرياضية أكثر من 30 ألف متفرج من الصباح الباكر وحجزوا لهم مكاناً قبل المباراة بوقت طويل لأن المباراة خطيرة وهامه بالنسبة لعشاق الكره المتابعين لتصفيات كأس العالم ويومها كانت المباراة بين المنتخب الليبي والمنتخب الجزائري، ومع دنو موعد انطلاقة المباراة بدأ الجمهور يتململ لأنه لم يلحظ أي بادرة بقدوم اللاعبين وبعد مضي وقت غير قصير من زمن المباراة علم الجمهور بأن "العقيد"، و"انطلاقاً من عقيدته القومية قام بإلغاء المباراة لأنه يرى انه لا يصح للعرب ان يدخلوا المنافسة فيما بينهم وقد قرر إهداء المباراة إلى الجزائر" ويومذاك هاج الجمهور وخرجت الحشود إلى ساحة عامة في المدينة لتعبر عن احتجاجها على إلغاء المباراة وهناك طوقتها الكتائب العسكرية والأمنية من كل اتجاه وأمطرتها بوابل من الرصاص الحي وسقط المئات قتلى وجرحى وعلى اثر ذلك أمر "العقيد" بإلغاء مباريات الدوري الليبي، وقام الاتحاد الدولي لكرة القدم بشطب ليبيا من قائمة المشاركة في بطولات كرة القدم الخارجية.
وحسب تنظيرات "العقيد" الشيطانية فأنه لا يجوز أن تجري لعبة كرة القدم بين حفنة اللاعبين "النجوم" ويفترض أن تجري اللعبة في الميدان بين المتفرجين جميعاً فهي: "جماهيرية".
ويتندر الليبيون هذه الأيام بما حدث يوم 9 يونيو عام 1996 حين كان من المقرر أن تتم مباراة بين أشهر فريقين في طرابلس وهما الاتحاد والأهلي بحضور اثنين من أنجال "العقيد" هما محمد الابن الأكبر من امرأته الأولى والساعدي احد أولاده من الزوجة الثانية وكلاهما صاحب اهتمام بالكرة ويستولي على واحد من الأندية، ويبسط نفوذه عليه ويستعرض على أعضاء النادي ما ابتلاه به الله من عقد، وراح أنصار الساعدي يتهكمون بالابن الأكبر "ابن الهجاله" –أي الزوجة المطلقة- وقام أنصار محمد بالرد على أنصار الساعدي، وعلم الأب بما يدور في الملعب ووجدها فرص للانتقام، وأمر نجليه بالانسحاب من الملعب، وأرسل كتائبه التي سدت أبواب الملعب "ولعلع الرصاص وعلا الصراخ وتناطر الدم البشري" وقتل ذلك الرجل الذي غامر باصطحاب ولديه إلى الملعب ليتمتعا بالفرجة على المباراة أمام نجليه حين صرعته رصاصة في جبينه وسقط صريعاً مضرجاً بدمائه وهو يحاول الهرب من إحدى بوابات الملعب في مشهد لم يبارح ذهن ومخيلة وذاكرة الصبيين قط.
في السياق طاول الإهمال مجالات الغناء والموسيقى بعد أن كانت ليبيا سباقة في هذا المجال ولها تاريخ عريق في تعليم الموسيقى منذ إنشاء مدرسة الفنون والصنائع في القرن التاسع عشر، وفيما جرى كتم الحريات والفنون وملاحقة الإبداع والمبدعين وإغلاق الأندية والمسارح والمكتبات ومدن الألعاب ومراجيح الأطفال ودكاكين الورود والأشجار والطيور التي يرتعب قلب الحاكم "البدوي" من ذكرها، فقد كان يجري تمويل واستضافة الإرهاب في ليبيا وعبر الحدود والقارات والاستعانة بالسحرة والافاكين والإغداق عليهم بملايين الدولارات من خزينة الشعب الليبي، وخلال ثورة 17 فبراير لم ينفع "الحاكم" هؤلاء ولم تستطع كتائبه التي قامت بمطاردات لكل الإعلاميين ولا الكميات المهولة من الأسلحة وكاتمات الصوت إنقاذ "الطاغية" وفي يوم 20 أكتوبر 2011 لم تصمد كل الألقاب الكبيرة والتعاويذ "الخطيرة" أمام صبي يتيم من الثوار عمره لايزيد على 18 عاماً، تمكن من إخراج "الزعيم" من المجرى المائي الذي اختبأ فيه كالجرذ وهو ذاهل مذعور لا يكاد يصدق ما يسمع ويرى.
كان على بعد بضعة كيلو مترات من الحدود يقبع في الماسورة في انتظار المدد والنجدة من المرتزقة والقبائل الافريقية والسحرة الذين اخذوا منه مليارات الدولارات ووعدوه بتجهيز جيش عرمرم يعيده إلى باب العزيزية، وضحكوا عليه كحاكم مجنون مخبول يتطلع لاستعادة عرش غربت شمسه ومجد انقطعت أنفاسه وانتهى إلى صريع بائس لمقالب الكوميديا السوداء.
وليس ثمة "انجاز" يمكن أن يذكر ل"العقيد" أكثر من فلاحه في تجريف البلاد وتلغيمها وتفخيخها، وترشيحها للاحتراب المستدام، والخراب الممتد والانقسام بين شرق وغرب وعلى مستوى كل "زنقة" وبما يكرسه كصاحب اختراع جديد لمعنى "الزنقة".
في الحلقة القادمة نتابع المآلات الكارثية التي أفضت إليها ممارسات وسياسات دكتاتور ليبيا مع قراءة مقارنة تترصد ما تيسر من الارتكابات المماثلة لدكتاتور اليمن المخلوع "المشير" صالح والسيناريوهات المرتقبة.

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.