بتجاوزهم الحدود اليمنية إلى الأرض السعودية، يكون الحوثيون قد ارتكبوا الخطيئة الكبرى، وتجاوزوا كل الخطوط الحمر، للعبة تمردهم العسكري المشبوه على سلطة بلادهم. فعملية الاختراق هذه، وهذه الاشتباكات مع الجيش السعودي، وقتل وجرح العديد من جنوده، من شأنها أن تفجر المنطقة برمتها، ليس بالمعنى العسكري غير المسيطر عليه، إذ إن القوات المسلحة السعودية عملت على استئصال شأفة المتمردين الحوثيين من القرى والمرتفعات السعودية بسرعة قصوى.. ولكن لناحية توسعة رقعة الحرب الفتنوية المذهبية الأكثر خطورة في المنطقة، واتخاذها هذه المرة بعداً سعودياً - إيرانياً مباشراً ومكشوفاً على الملأ، وذلك بعدما كانت الأمور كلها، في السابق، مقيمة في المحظور، أو تأخذ طابع الاحتراز والحصر والضبط بين هذين البلدين الكبيرين في المنطقة، منعاً للانفجار الأمني الأكبر والأكثر اتساعاً في المنطقة. نعم، الحوثيون يلعبون بالنار.. نار أمن المنطقة العربية الخليجية برمتها، وتخريب استقرارها، وضرب نسيجها الاجتماعي والثقافي وهويتها وفتحها على خارطة الفوضى والمجهول، التي تحرق كل شيء، عبر تداعي الحروب الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية التي لا تبقي ولا تذر.
إن اختراق عصابات المتمردين الحوثيين الأراضي والأمن السعوديين، يعني أنهم تجاوزوا مسألة الادعاء بأن حربهم هي شأن داخلي يمني، أو حول قضايا مطلبية محض يمنية.. لقد أعلنوها صراحة، حربا على دول الخليج العربي كلها. ولذلك التقطت دول الخليج الرسالة، وأعلنت على الفور وقوفها صفا واحدا مع المملكة، وأبدت استعدادها للدخول مباشرة على خط المعركة بإرسال، حتى جيوش منها، لمؤازرة الجيش السعودي في مهمته التي نجح فيها أصلا، منذ اللحظات الأولى لتعامله مع التمرد العصاباتي الحوثي، وأثبتت الدول الخليجية بهذا الموقف أن أمنها واحد، ومصالحها واحدة، ومستقبلها واحد، وأن أي خطر يدهم أي بلد منها، كأنه بالفعل يدهم الجميع دفعة واحدة.
فوق هذا وذاك، كشف الاختراق الحوثي لأراضي المملكة، ولنوعية السلاح الثقيل والمتطور المستخدم لديهم، عن أنهم ليسوا مجرد ميليشيا عادية، متمردة، تكتفي بتحدّي جيش بلادها، وأمن مجتمعها، وإنما هم ذراع خارجية لإيران، ولهم مهمات كبيرة جدا، وخطيرة جدا، ليس أقلها قلب معادلات الأمن الخليجي، والتمهيد لرسم خوارط جديدة لدويلات طائفية ومذهبية في الجزيرة العربية، وإدخال طهران على خط نفوذ دولي جديد، يهدد مصالح الخليج نفسه، ودول العالم المرتبطة بهذه المصالح، من خلال العبث بأمن النفط، وتوجيه رسالة إيرانية إلى الغرب كله بأننا هنا، وقادرون على فتح خاصرة جديدة في عمق الجزيرة العربية، بعد خاصرتي «حزب الله»، و«حماس».
نعم، ما يكشف عنه الاختراق الحوثي أكبر من جماعته بكثير، ويتجاوز بالتأكيد رؤوسهم الخاوية، إلا من العصبيات المذهبية والقبلية الضيّقة والبغيضة. إنهم من حيث يدرون أو لا يدرون، يشكلون مطية سهلة لمدّ نفوذ إيران إلى سواحل البحر الأحمر.. يقول عبدالرقيب منصور، وهو باحث ومحلل سياسي يمني: «إن الصراع في شمال اليمن بات سعوديا- إيرانيا الآن، تماما كما في لبنان، حيث تدعم إيران حزب الله الشيعي، وأن توسيع الحوثيين لمسرح العمليات العسكرية يستهدف الوصول الى ساحل البحر الأحمر، وهذا الوصول له هدفان استراتيجيان: الأول، هو الحصول على الإمدادات اللوجستية من إيران لقتال الجيش اليمني، والثاني هو إيجاد موطئ قدم إيرانية على ساحل البحر الأحمر ذي الأهمية الاستراتيجية في حركة الملاحة الدولية، ليصبح ورقة جديدة في حوزة طهران تستفيد منها في مفاوضاتها مع الأميركيين على ملفها النووي».
ونستدرك فنقول إن الحوثيين من حيث يرفعون شعار: «الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل»، إنما يخدمون، وفي المقام الأول، إسرائيل نفسها، ومشاريعها في المنطقة، التي من مصلحتها تقسيم كل البلدان العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وقبائلية وعشائرية الخ...
وبما أن الصراع في اليمن يتخذ بعدا مذهبيا فاقعا الآن، من خلال تكتل قبيلة «بكيل» ذات الغالبية الزيدية الشيعية، ووقوفها وراء الحوثيين، فإن هذا ما دفع ويدفع، في المقابل، بقوى سلفية سنية للدخول على الخط، ومعها أيضا بعض قوى سنية معتدلة، مثل «حزب التجمع اليمني للإصلاح»، حيث يجدون أنفسهم ينزلقون شيئا فشيئا في صراع مذهبي مستنكر، يذهب ضحيته الجميع في اليمن، ويؤدي الى نتائج كارثية على الأرض، بتحويل اليمن مثلا، الى صومال أخرى، أو أفغانستان ثانية، أليس هذا كله ما يثلج صدر الإسرائيليين ويغبطهم في السر والعلن؟!
لا يمكن إذن فصل ما يجري في اليمن عن الفوضى الحاصلة في المنطقة العربية - الإسلامية برمتها. ومن فرط خطورة ما يجري، وخصوصا بعدما تجاوز الحوثيون الخطوط الحمر بدخولهم الأراضي السعودية، بدأنا نلمس تراجعات من قوى يمنية معارضة عن تأييدها للحوثيين، وتدعو إلى وقف الحرب فورا.. فقد صدر بيان عن التكتل السياسي الرئيسي المعارض والمعروف «بأحزاب اللقاء المشترك»، والذي يقوده «حزبا الإصلاح والاشتراكي»، يشتمّ منه ضرورة وقف التصعيد من الطرفين فورا، والتوجه الى طاولة الحوار.. وأن التطرف الموجود، سواء ما يحدث في المحافظات الجنوبية من دعوات للانفصال، أم العنف في الشمال، في صعدة، هو نتاج لتطرف السلطة، وأن الوصول الى طريق مسدودة هو الذي أوجد من ينادي بالانفصال، ومن يحمل السلاح في وجه الدولة.
إذن، لا حل في اليمن إلا بالحوار داخل اليمن، مهما تطرف المتطرفون من الجانبين المعنيين بلعبة الصراع. كما لا بد أيضا من حوار على مستوى المنطقة ككل، بين العرب والإيرانيين، يضع حدا لتدخلات النظام الإيراني بالأمن العربي.. وإذا كانت الولاياتالمتحدة والغرب كله، ما انفكت تتحدث، ودوما، عن ضرورة الحوار مع ايران، وتبني استراتيجيتها الجديدة على هذا الأساس، وبناء على توصيات بيكر- هاملتون الأميركية، فما بالك بأبناء المنطقة من العرب والايرانيين معا، الذين هم محكومون، بالمعنى الجيو/سياسي والتاريخي والحضاري، بالحوار وإنجاز الاتفاقات حول حقوق الطرفين.. أمنيا واستراتيجيا، خصوصا أمام تراجع النظام العربي عن حقوقه البديهية بنفوذه وأمنه.. فعندما نقرأ مثلا إعلان أردوغان من طهران مؤخرا «أن تركيا وايران معا، تمثلان استدراك فشل اللاعبين الدوليين في تحقيق السلام العالمي، وانهما معنيان بجبه إملاء الحلول لمشكلات المنطقة من خارجها».. علينا أن ندرك مدى فداحة الدرك الذي وصل إليه النظام العربي، من استقالته من نفوذه، وأوراق قوته بالإجمال.. فهل يمكن، أو بالأحرى، هل من المقبول أن يسلّم النظام العربي قراره الاستراتيجي إلى قيادة إقليمية جديدة.. وغير عربية؟!
سؤال ليس برسم السياسيين العرب جميعا، وإنما برسم جميع المفكرين والمثقفين والإنتلجنسيا العربية برمتها!!