كان ممكناً أن أتفهم ما يجري بين القطرين العربيين المسلمين مصر والجزائر بخصوص مباراتهما الحاسمة في تصفيات كأس العالم لو أن مشاكلنا اقتصرت على عُشر ما لدى البلدين، والأمة عموماً. أقول: كان ممكناً أن أتفهم، ولست أجزم بذلك؛ ذلك أنه لو كان فعلاً لدينا 10% فحسب من المشاكل والأزمات التي تمر بنا اليوم، لكان حرياً بالبلدين أن ينشغلا عن المباراة حتى لو كان الفريقان يلعبان على نهائي كأس العالم نفسه. فما بالك والبلدان (حكومتان وشعبان) يتقاتلان باستبسال لأجل مباراة في التصفيات المؤهلة للبطولة الدولية!
والمضحك المبكي أننا لا، وأثق أننا لن نلعب المباراة النهائية لكأس العالم، وهذا حالنا. بل إننا – ويا لسخريات واقعنا – لم نقتصر على عُشر المشاكل التي تمطرنا يومياً، ولا حتى ربعها أو نصفها. فنصيبنا من تلك الأزمات كامل غير منقوص. وأحسبنا لا نفيق من صفعةٍ لكارثة تحلّ بنا إلا على وقع صفعة أخرى. ولا يكاد يمر يوم واحدٌ، بل بضع ساعات أحيانا، حتى نشهد حدثاً يذكرنا بأمتنا التي تُنتهك كرامتها وتحتل أرضها وتنهب ثرواتها ويزداد تسلط وفساد حكامها ويعلو شأن جهلتها وتكبل أيدي أحرارها وتخرس أفواه مصلحيها ويحمى ذمار سارقيها، والكثير الكثير مما يتقاصر عن حصره المقام.
ورغم كل ذلك، فإن الخدر سرى إلى أرواحنا حتى بتنا لا نرى في الأمر إشكالاً يحوجنا إلى الانتباه والحراك. بل إن بعضنا ما فتئ يردد المثل القائل (الله لا يغير علينا)! والصمت المطبق الذي نلتزمة بخشوع، ربما يفوق خشوعنا في صلواتنا، لعله كان ليؤهلنا للفوز بكأس العالم للصم والبكم لو كان ثمة مسابقة كتلك!
أما أن تستنفر طاقات البلدين لأشهر طوال، وتتراشق الشتائم والاتهامات بين أبناء القطرين عبر وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية، حتى وُصِفت المباراة ب(يوم جديد للكراهية) بينهما، وذلك تحسباً لما ستسفر عنه تلك الدقائق التسعين من اللعب بكرة قدم، فهذا ما يُعجز كلّ ذي لب حليم عن إدراكه.
*** ما أحاول فهمه الآن، السبب الذي يدفعنا إلى انتهاج هذا الطريق رغم كل ما يحدق بنا من مصائب وأخطار. وما خلصت إليه، وأثق أنه بَعْضٌ من كُلّ، هو التالي:
أولاً: إن اليأس استبد بنا حتى بتنا غير قادرين على رؤية أي خيط من النور في نهاية نفقنا المظلم. واليأس عندما يحكم الإنسان فإنه يُقعِده عن السعي للتغيير، كونه لن يجني منه شيئاً، لأن الواقع لن يتغير مهما حاول. وعندها سيكون شعارنا في الحياة (ليس بالإمكان، أحسن مما كان).
ثانياً: إننا بسبب ذلك اليأس والعجز عن بلوغ الآمال الكبار التي كانت تحدو أمتنا إبان حقبة الاستقلال عن المستعمر الغربي، فإننا بتنا نسعى للبحث عن انتصارات من نوع مختلف؛ ذلك أن تحقيق الذات هو واحد من الحاجات الأساسية للإنسان بعد استكماله حاجاته المادية والأمنية.
وحيث إن تغيير الواقع يستلزم تغييراً في قيادات الأمة ورؤاها وغاياتها ومشاريعها التنموية، والاستقلال عن التبعية للغرب ولمِّ الشتات من الفرقة بين الأقطار ومحاربة الفساد وغيرها من الاحتياجات، فإن هذا كله يبدو ضرباً من الخيال لدى الغالبية الساحقة من أبناء الأمة. وعليه فإنهم يسعون لتحقيق الانتصارات في ميادين أخرى يمكنهم فيها بلوغ شيء من تطلعاتهم وأشواقهم. وميدان الكرة، الذي لا تعترض عليه حكوماتنا بل وتشجعه أكثر من اللازم، يبدو واحداً من المساحات المحدودة التي يمكننا خوض غمارها مطمئنين إلى إمكانية الفعل والانتصار (والتأهل للعب مع الكبار).
ثالثاً، إننا فقدنا بوصلة الحراك نحو العمل الإيجابي. فالأكيد أن عدداً كبيراً من مشجعي منتخبي البلدين هم من الطبقة الفقيرة التي تقاتل يومياً سعياً وراء قوت يومها. وهم رغم ذلك ينفقون من الوقت والجهد الكثير لمتابعة لاعبي الفريقين الذين ينالون رواتب كبيرة، ويحصلون على مكافآت مجزية جراء الفوز والتأهل. ورغم أن تلك الأموال التي تنفق على الفعاليات الرياضية هي في حقيقتها بعض ما حَرمت الدول مواطنيها – خاصة الفقراء – منها، فإن الغريب أن أولئك الفقراء لا يجدون غضاضة في مناصرة وتشجيع من يحصل على راتبه من جيب الفقير.
بل والأسوأ أن أحلام الفقراء باتت محصورة في أن يتحول أحد أبنائهم إلى لاعب رياضي متفوق يمكنه بقدمه أن يحقق ما عجز عنه أهله بعقولهم أو كد يمينهم في أي عمل شريف. وعوضاً عن أن نعمل على تغيير ذلك الواقع، فإننا انسقنا إليه وأصبحنا جزءاً منه وعنصراً مساعداً يضمن استمراره.
*** ما أخشاه، رغم ثقتي فيه، أن تتحول التعليقات على هذه المقالة إلى ساحة قتال جديدة بين أنصار الفريقين. ولا أدري – إن تحققت مخاوفي – إذا ما كنت قد أسهمت بذلك في صبِّ الزيت على فتنة مشتعلة أصلاً، أم أنني مثل الذي يؤذن في خرابة!