إن الدين الإسلامي هو آخر الأديان التي أرادها الله لعباده ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر الأنبياء، والأدلة على ذلك كثيرة ومعروفة سواء من الكتاب أم السنة أم الكتب السماوية الأخرى. إذاً، نستطيع القول: إن الدين الإسلامي دين عالمي، ولم يكن دينا لأمّة معينة أو قبيلة أو لفترة زمنية معيّنة، ومحمد صلى الله عليه وسلم كذلك، لم يكن مرسلا لقريش أو العرب وإنما أرسل للعالمين؛ لأنه آخر الأنبياء والمرسلين قال تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
في هذه الحالة لو تساءلنا: هل يمكن أن يكون هناك دين بهذه الشمولية وبهذه المهمّة الكبيرة والواسعة، والتي لم تكن لفترة محددة، وإنما حتى قيام الساعة؟ هل يمكن أن تحصر الأمّة في أسرة معينة أو فئة معينة أو قبيلة؟ هل يمكن أن يكون الإسلام بهذه العظمة وبهذا الاتساع وبهذا المنهج الواضح ثم يترك أهم أمر من أمور الأمّة للتنازع؟
إن المتأمل في النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية يجد أنها قد بيّنت للناس في بعض الأمور أدق التفاصيل، ولكن عند مسألة الحكم لم تحدد صيغة معيّنة أو أسلوبا معينا وإنما اكتفت تلك النصوص بتحديد الأطر العامة التي ينبغي أن يكون عليها نظام الحكم في الإسلام، وأهمها: العدل والشورى. البعض يقول كيف يمكن أن يكون الإسلام هو آخر الأديان ومحمد آخر الأنبياء ويغفل عن تحديد التفاصيل لأهم أمر يتنازع عليه الناس، وهو الحكم. والجواب: أن ذلك لا يعتبر قصورا أو مصدر ضعف في الإسلام، وإنما مصدر قوة، إذ أن عظمة الإسلام وعالميته لا يمكن أن تسمح له أن يحدد مثل هذا الأمر بالتفاصيل التي يريدها البعض، مثل: أمور العبادات والمعاملات والتوحيد، التي أمكن تحديدها؛ لأنها ثابتة، لكن أمور السياسة والحُكم متغيرة، وما كان يصلح بالأمس قد لا يكون صالحا اليوم، وما يكون صالحا لليوم قد لا يكون صالحا للغد. وكذلك بالنسبة للأمكنة والشعوب؛ لأنها تتباين في ثقافاتها وفي طبيعتها، حتى ولو كانت في فترة زمنية واحدة. كما أن علماء الفقه الإسلامي قد أجازوا أكثر من اثنتي عشرة طريقة لاختيار الخليفة، أهمها: البيعة والاختيار في الأمّة وهي الأصل.
إذا، فإن من قال إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد قال: إن الأئمة من قريش أو أن الولاية من بعده لعلي (كرم الله وجهه) أو غير ذلك من الأحاديث التي ترجح أو تفضّل أو تعطي الحق لطرف أو جانب وتلغي الطرف أو الجانب الآخر، هي أحاديث قد تحدث عنها، وفنّدها كثير من العلماء المنصفين المتخصصين في علم الحديث، سواء كانوا من السنة أم من الشيعة، والذين أكدوا أن بعضها موضوع وبعضها ضعيف، ومع ذلك فقد ثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال {المؤذنون من الحبشة والقضاة من الأزد} أجمع الفقهاء على أنها وردت على سبيل المدح، وليس على الحصر والقصر، وإلا لقلنا: إنه لا يكون المؤذن إلا حبشيا ولا يكون القاضي إلا أزديا.
إن بعض تلك الأحاديث سواء كانت قد وضعت أم تم تأويلها كانت هي سبب الفتنة، وهي التي أضعفت الإسلام والمسلمين، حتى التاريخ فلو كان الإمام علي (كرم الله وجهه، أو أبو بكر أو عمر بن الخطاب أو عثمان (رضي الله عنهم جميعا) قد سمعوا أو علموا بذلك القول من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتأكد لهم ذلك لاستدلوا به في وقته، ولما حصل ذلك الخلاف المعلن، وغير المعلن في سقيفة بني ساعدة، وفيما بعد موت كل خليفة من الخلفاء الراشدين، وهو شيء طبيعي يمكن أن يحصل، ولكن في الأخير حصل اتفاق أو تفاهم ولم تحصل مواجهة أو قتال، ولم يكفّر أحدهم الآخر.
وحينما سئل الإمام علي (كرم الله وجهه) عن الخوارج، قال: أخواننا في الدين، بغوا علينا. بل إن الإمام علي (كرم الله وجهه) لو أنه سمع ذلك الحديث عن الولاية من الرسول لخرج مقاتلا من اللحظة الأولى، ولما سكت، ليس من أجل أن الحديث عن الولاية من الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحكم حبا فيه أو طمعا من أجله، ولكن من أجل تنفيذ ما أوصى أو أمر به أو دعا إليه الرسول. أما لو كان بعض الآيات القرآنية التي فسّرها البعض بأنها نزلت في الولاية لكان الإمام علي (كرم الله وجهه) أكثر تشددا على تنفيذها، وكيف يخفى عليه مثل ذلك، وهو أكثر الناس قُربا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، سواء عند نزول الوحي أم عند ما كان الرسول يحدث أصحابه. وكيف يخفى عليه ذلك الأمر والرسول قد قال فيه {أنا مدينة العلم وعلي بابها}، وأن من قالوا إن علي (كرم الله وجهه) رضي بالأمر الواقع حرصا على دماء المسلمين أن تسفك، مثل هذا القول لا يمكن أن ينطبق على شخص مثل الإمام علي فهو لم يكن مداهنا ولا يخشى في الله لومة لائم، وهو لا يمكن أن يعمل شيئا خلافا لما قاله أو عمله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وكثير من المواقف التي تعرف، التي لو استخدم فيها الإمام علي الكذب أو بما يسميها البعض الآن بالسياسة في خلافه مع معاوية لا نتصر علي، ولكن مصداقيته وصراحته وإيمانه وخوفه من الله هو الذي كان يرده عن ذلك، وقد بيّن ذلك في قوله عند ما قال {والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر).
لقد اجتهد الصحابة (رضوان الله عليهم) في طريقة اختيار الخلفاء الراشدين من بعد موت الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بحسب الظروف التي حكمت عند موت كل واحد منهم، ولكن بداية المشكلة حصلت عند انتقال الحكم إلى الدولة الأموية. كانت البداية في البحث عن أدلة أو أسانيد تساعد على تثبيت الحكم في الأمويين، فاستندوا على الحديث المعروف (الأئمة من قريش) وغيره من الأحاديث التي وضعت أو أوّلت في تلك الفترة، واعتبرت تشريعا دينيا، وأثبتوا ذلك وأجمعوا على ذلك.
ثم جاء العباسيون واستندوا على الحديث نفسه، ولكنهم تأولوا فيه، وقالوا إذا كان الأمر كذلك فإن خير قريش هم بني هاشم، ولم يتمكنوا من القضاء على الأمويين إلا عند ما حشدوا لمواجهتهم كل العباسيين والعلويين وسائر بني هاشم وأنصارهم، تحت لواء واحد، ولكنهم بعد وصولهم إلى الحكم تنكروا للعلويين وطاردوهم وقتلوهم، بل زعموا أن الخلافة لا تصح فيهم من خلال دعواهم، وأن الخلافة جزء من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحق به.
ولكن العلويين، بما كانوا يمثلونه من قدوة عند الناس، استطاعوا إقناع الناس بأولويتهم في مقابل دعوى الأمويين والعباسيين، حيث اعتمدوا على ما سبق، إلا أنهم أضافوا إليه تأويلا جديدا آخر، وهو قولهم: "إذا كان الأئمة من قريش وخير قريش بني هاشم فإن خير بني هاشم هم من كانوا من نسل علي كرم الله وجهه، وأمهم بنت رسول الله" (من البطنين)، وبأن الخليفة لا يكون إلا منهم. وسار على هذا النهج الفاطميون، ومن بعد بعض أئمّة الزيدية رغم أن الإمام زيد لم يكن يعتبر ذلك شرطا.
يتضح من ذلك أن الأمويين تأولوا بعض الأحاديث أو وضعوها من أجل تثبيت الحكم فيهم. قام العباسيون أيضا ومن جاء بعدهم ممن حكموا من أهل البيت بوضع وتأويل بعض الأحاديث، وفسروا بعض الآيات القرآنية، أو قاموا بتأويلها، والتي تحث وترغّب في حب ومودة آل البيت، ولكنهم قاموا بتوظيفها سياسيا، اعتبروها أحكاما تعطي الحق لهم دون غيرهم في الحكم، بينما معناها الحقيقي الحب والمودة الروحية للصالح منهم دون مغالاة، وليس لذلك علاقة بالحكم. وقد أوضح ذلك كثير من العلماء وأئمة المذاهب وفي مقدمتهم الإمام الشافعي (رحمه الله) الذي أوضح ذلك بجلاء، وكان رؤية محل اتفاق عند كثير من العلماء المجتهدين.
وان كل النصوص والشواهد والمراجع الصحيحة والمعتدلة وغير المتعصبة تؤكد أن الخلافة أو الولاية أو الحكم لم ينص به القرآن ولا السنة النبوية في أي شخص، ولا في أي أسرة أو قبيلة، وإنما تركت لظروف كل زمان ومكان بحيث يتفق الناس على الطريقة أو الأسلوب التي من خلالها يتم اختيار الحاكم، ويضعون القواعد المنظمة لذلك، بحيث تظل تلك القواعد هي المنظمة والمسيّرة للنظام خلال تلك الفترة، ومن بعد ذلك لا بأس من تعديلها بما يتلاءم ويتناسب مع المستجدات والظروف الجديدة، كما حصل في الماضي. نجد مثلا أن الخلفاء الراشدين الأربعة كل منهم اختير كخليفة للمسلمين بطريقة تختلف عن الطريقة التي جاء بها سابقه، كذلك محاولة بعض الأنظمة أو المذاهب، وأن تضع شروطا أو محددات لاختيار الحاكم، ربما كانت صالحة للعمل بها في ذلك الوقت وفي ذلك المجتمع ولكن لا يمكن أن تكون صالحة في كل المجتمعات وللأبد.
وعلى سبيل المثال: الزيدية عند ما اجتهدوا وأقروا مبدأ جواز الخروج على الحاكم هي في رأي البعض فكرة تحررية متقدّمة، وهو ما يمكن تسميته الآن بمبدأ المعارضة، وهو الآن مشروع في زمننا هذا، بينما في المذاهب الأخرى لم يكن مسموحا بها ولا الاجتهاد, وحتى الآن، وتعتبر المعارضة لولي الأمر خروجا على الجماعة إلا أن الخروج بحسب ما ذهبت إليه بعض فرق الزيدية هو الخروج بالسيف (أي بالقوة)، بمعنى الفتنة أو التمرد كما نسميه الآن؛ لأن ظهور أكثر من إمام في زمن واحد وفي منطقة جغرافية صغيرة أدى ذلك التنازع إلى استمرار الاقتتال على الحكم واستمرار الحروب بين الأئمة المتنازعين أنفسهم، وهم ينحدرون من أسرة واحدة، بل أحيانا بين الأخوة الأشقاء، وهم من بيت واحد، وتكون الغلبة في الأخير للأقوى، وما أن يتخلص الإمام الذي انتصر على خصمه حتى يظهر أكثر من إمام في المساحة الجغرافية البسيطة نفسها التي استطاع ذلك الإمام بسط نفوذه عليها، وهكذا كل منهم يدّعي أحقيته بالحكم على مدى ألف عام من الاقتتال والاحتراب المستمر ولم تشهد اليمن أي فترة استقرار في المناطق التي كانت تحكم وفق تلك الرؤية، وهو ما أضعف المذهب الزيدي من انتشاره، وظل محصورا بين صعدة وذمار، رغم أنه مذهب تحرري وسطي غير متعصب يسمح بالاجتهاد ولا يعتبر الشيعة ولا السنة من الفرق الشيعية حتى إنه سماهم "سنة الشيعة وشيعة السنة" فهم لا يقولون بالعصمة ولا بالرجعة ولا بالغيبة ولا بالتقية ولا يسبون الصحابة رضوان الله عليهم، وبالتالي المبدأ مبدأ الخروج كان موفقا كما يعتبره البعض، إذا ما اعتبرنا ذلك هو مبدأ المعارضة، ولكن الوسيلة التي استخدمت في تنفيذه كانت فاشلة، ولم تكن ناجحة أو موفقة وهو استخدام القوة.